قسَّمنا الموضوع في الكلام على فنائها ثلاثة أقسام: الأول في الآثار التي استشهد بها العلامة ابن القيم على فنائها، الثاني على الآيات الثلاث، الثالث على مقتضى الصفات ومجال العقل فيها: أما الأول فقد تكلمنا عليه في النبذة الأولى، وبَيَّنا أن الآثار لا تصح عن عمر ولا عمن روى عنه من الصحابة، رضي الله عنهم. وقُلنا: حتى لو صح لما كان حجة في هذه المسألة الكبرى الاعتقادية، وأما الكلام على الآيات الثلاث فمداره على تحقيق معنى الخلود المستثنى منه أولاً، والمشيئة ثانيًا، والمقصود من الاستثناء ثالثًا، وهل هذه الآيات من المحكم أو من المتشابه. أما الخلود المذكور في هذه الآية (آية الأنعام) و (آية هود) وجميع آيات القرآن، فهو لا يعرف إلا من كتب اللغة، وقد رأينا لسان العرب الذي هو أكبر قاموس وأعظم معجم عربي يقول: (الخلد) دوام البقاء في دار لا يخرج منها: خلد يخلد خلدًا وخلودًا: بقي وأقام، ودار الخلد: الآخرة، لبقاء أهلها فيها. اهـ. ومما يدل على أنهم يستعملون الخالد مجازًا فيما لا يبقى لطول مدته قول صاحب اللسان: والمخلد من الرجال: الذي أَسَنَّ ولم يَشِب، كأنه مخلد لذلك. وخلُد يخلُد خلدًا وخلودًا: أبطأ عنه الشيب كأنما خلق ليخلُد، قال: والخوالد: الأثافي في مواضعها، والخوالد: الحجارة والجبال والصخور لطول بقائها بعد دروس الأطلال اهـ. فانظر إلى قوله فيمن أبطأ عنه الشيب (كأنما خلق ليخلد) وقوله (لطول بقائها) للأثافي والحجارة والجبال، فإنهم شبهوها بما لا يبقى ولا يزول وتصوروا فيها - لطول البقاء - ما يصح أن يطلق عليه لفظ الخلود الذي لم يوضع إلا لدوام البقاء، كما ذكر معناه الأول أول المادة، ومنه تعلم أن الفناء مناقض له كل التناقض لأنه قطع البقاء الذي أخبر الله به وعدًا ووعيدًا في سبعمائة آية من كتابه في الجنة والنار، ففرق قوم بين الأخبار بدون دليل يصار إليه ويقوم حجة على خصمهم. تقول لهم: يا قوم - هداكم الله - في كل من الجنة والنار قال الله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (النساء: ٥٧) و] خَالِدِينَ فِيهَا [دون أبدًا، فبأي شيء فرقتم بين الخلودين والأبدين، فلا تجد إلا تعليلات واهية وكلامًا طويلاً ضرره أكثر من نفعه كأنهم لم يجدوا غير الخلاف صناعة، ولا سوى الكلام بضاعة حتى اضطر أن يجاريهم من لم يكن منهم - ابن قيم الجوزية - وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما الأبد فقال في اللسان في مادة أبد: والأبد: الدائم، والتأبيد: التخليد، وأبد بالمكان يأبِد - بالكسر - أبودًا: أقام به ولم يبرحه اهـ. فعلى هذا لا يستدل بما اصطلح عليه الناس (كالمصريين) في التأبيد إذ جعلوا له مدة محدودة، ولم ينزل القرآن بلغتهم ولا عبرة باصطلاح ولا عرف يخالف أصل اللغة التي نزل بها كلام الحكيم الخبير. فاسمع لقوله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} (الأنبياء: ٣٤ - ٣٥) فانظر كيف قابل الخلد بالموت الذي هو الفناء وتأمل معناه تجده كما قال صاحب اللسان: إنه دوام البقاء، فكأنه يقول لرسوله: وما جعلنا لبشر من قبلك دوام البقاء أفإن مت فهم الباقون، كل نفس ذائقة الموت إلخ. وهذه الجملة الثانية مؤكدة لمعنى ما قبلها، فغفر الله لنا ولهم وهدانا وإياهم سواء السبيل. وإذ قد عرفنا [١] معنى الخلود الوارد في الآية، وإنه هو الذي به علمنا دوام بقاء المؤمنين في الجنة كما علمنا به دوام الكافرين في النار، وأنه هو الأول في الألفاظ الدالة على معنى البقاء والأبد بعده في الترتيب، ولا يعرف في اللغة لفظ أدل على البقاء منهما في المخلوقات على ما أظن. وأما ما ذكر في الأساس من مثل قولهم: رزقك الله عمرًا طويل الآباد بعيد الآماد، فهو مبني على التوسع وتصوير ما لا يكون في حيز الكائن على حد قول الشاعر: (وتخافك النطف التي لم تخلق) [٢] ومثل هذا كثير في قولهم [٣] ، ولكننا نسائلهم في أصل وضع الخلود والأبد، وقد عرفت معناهما عن اللسان فيما تقدم [٤] على أن الله تعالى أخبر بكل لفظ مفيد الدوام والبقاء عن كلتا الدارين كلا الفريقين، فقال:] لهم فيها دار الخلد [وقال:] عذاب مقيم [. إذا عرفنا ما تقدم أمكننا أن ننظر في الاستثناء المذكور في آية الأنعام جاعلين نصب أعيننا ما ورد في آيات الله تعالى من وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين وكذلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بخروج عصاة المؤمنين من النار، أما الآيات المصرحة بدخول الكافرين النار فهي كثيرة وعلى كثرتها محكمة لا ناسخ فيها ولا منسوخ ولا متشابه [٥] ولا يصح أن نؤول كل هذه الآيات ونركب كل صعب وذلول حتى نجعلها كلها من باب الرعد الذي ليس وراءه شيء لننظمها في سلك آية وجد فيها ذوو الشُّبه ما يوافق أهواءهم ويثبطون به همم غيرهم ويشغلون به الأفهام، وكم مُني الإسلام بهم ونفذت فينا سهامهم حتى اختلفنا في كتابنا كما اختلفوا في كتابهم، وكان ذلك قدرًا مقدورًا. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: ١٢٨) فالمعنى: خالدين فيها يا أهل النار (وهم من مرَّ ذكرهم) إلا ما شاء الله من هذا الخلود، أن يخرجهم من داره؛ لأنه حكيم لا يخلد إلا الكافر الذي أخبر عنه في كثير من آياته، عليم بما يخرج من أهل الإيمان الموحدين، فالآية قد جمعت وعدًا ووعيدًا، وكثيرًا ما يذكر الله في آياته أحدهما بعد الآخر على حد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: ٤٢،٤١،٤٠) ، وكقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (مريم: ٥٩- ٦٠) فما يخبر سبحانه بوعيد وإنذار إلا ويعقبه بوعد وبشارة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: ٣١) فلما أنذر قومًا في هذه الآية بالخلود في النار على استمتاع بعضهم ببعض وموالاة بعضهم بعضًا وكان بعض المؤمنين الذين أَلَمُّوا ببعض الذنوب ولحقهم من الوصف شيء يحزنهم ذلك حتى يؤديهم إلى اليأس، لا جرم استثنى الله تبشيرًا لهم وإخبارًا بحكمته وعلمه وعدله في آية واحدة، ولا يبعد هذا بهم فقد ورد أن بعض الصحابة لما سمع قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨٢) قالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك الشرك) وقرأ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: ١٣) فلولا أن فسرها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية الأخرى ليئسوا وقنطوا، ومثل ذلك ما جرى عند نزول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} (البقرة: ٢٨٤) إلخ، ثم أنزل الله لهم: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) إلخ. إذا تقرر هذا وعلم أن الإنذار في آية (الأنعام) بالخلود شديد، وأن السكوت عليه قصور لو كان في كلام الناس لعد معيبًا، فكيف بأبلغ الكلام الذي أنزل رحمة للعالمين؟ فهل بعد هذا يستنكر ذو فهم وتأمل في كلام الله أن يجمع بين وعد ووعيد ونذارة وبشارة في آية واحدة، على أن النذارة بالخلود لمن يستحقونه كما أشار بذلك الحكيم للحكماء الذين يفهمون وأن البشارة لمن يستحقون ممن عرفنا خبرهم في القرآن والأحاديث، والله أعلم بهم وبما اقترفوا وجزاء ما كانوا يقترفون، هذا ما أفهمه في الآية مع استحضاري الآيات الأخرى والأحاديث ولم يشف غليلي ما رأيته من وقف المتوقف وتأويل المتأول، وهذا هو وجه الاستثناء لا ما قالوا من أنه يأتي على ما في القرآن، حاش لله أن يكون خبر واحد يهدم بناء أخبار أدعمت على العلم والحكمة حتى لو كان مجردًا عما أشرنا إليه من وجوه البلاغة والإعجاز، ولَأن نؤوله ليوافقها لكان أسهل من أن نؤولها كلها. ومن العبر أنه قد حضر عندي أخ في الله من أهل العلم وتحاورنا في الموضوع فكان هو فنائيًّا وأنا بقائيًّا، فما زال يؤول كل آية جئت بها دالة على البقاء بحذق وبراعة (على طريقة الأزهريين) حتى جئت له بآية الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: ٤٠) الآية، فوجم فقلت: ماذا؟ أجب، فقال: انتظر، ثم بعد هنيهة قال - ويا ليته ما قال -: نعم هو كما قال الله تعالى ما دامت النار لا يدخلون الجنة ولكنها ستفنى، فقلت: ثم ماذا بعد ما تفنى أيدخلون الجنة وتزول الاستحالة بفناء النار؟ فضحك من تأويله، فلينظر الناصح لنفسه البصير بكلام ربه وليجعل الرحمة في محلها كما أخبر الله بها عن نفسه، وينظر إلى المشيئة بعين الحكمة ولا ينظر إلى صفة دون صفة بعين عشواء، وإذ قد ألمعنا إلى ذكر شيء من وجوه الاستثناء فلنتكلم على المشيئة المستثناة , وإن كانت هي أحق بالكلام قبل الاستثناء لذكرها أول الفصل ثانية. أخبرنا الله تعالى في آيات كثيرة أن مشيئته موافقة لحكمته، وأنه لا يشاء عبثًا ولا ظلمًا قال تعالى:] يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [[٦] (الإِنسان: ٣١) فهذه الآية تدل دلالة صريحة لا مجال للشك فيها على أنه لا يدخل في رحمته إلا غير الظالمين، وإنما الذي عرَّفَنا أنه لا يشاء إلا هم قوله: ] والظالمين أعد لهم عذابًا أليما [فالناس قسمان: ظالم وعادل، والدار داران: جنة ونار، فلما ذكر الظالمين وما أعد لهم عرفنا أن القسم الذي شاء إدخاله في رحمته ضدهم وهم المؤمنون أو المقسطون أو كما تسميهم، أفلا يصح أن ننزل المشيئة المذكورة في آية (الأنعام وهود) على هذا التقسيم الظاهر، وأن الله لا يشاء فناء النار الذي يهدم كل زجر ووعيد في القرآن ويُطمِع كل ذي كفر وبهتان وجبار عنيد وشيطان. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} (الفتح: ٢٥) فهل يظن عاقل أن معنى هذا: يدخل الله كافرًا الجنة أو مؤمنًا النار، أم أنه لا يفعل إلا ما اقتضته حكمته التامة، وأن مشيئته في هذه الآية وفي أمثالها مقيدة بمثل آية:] هل أتى على الإنسان حين من الدهر [وغيرها مما سنذكره، قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج: ١٨) فلننظر إلى قوله تعالى عقب الآية، أفليس قوله هنا:] إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ كقوله عقب آية هود {إنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: ١٠٧) التي كاد يشبهها علينا ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (ولم نعلم ما يريده بهم) أي الذين شقوا. قال: وأما الذين سُعدوا فقال فيهم: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: ١٠٨) فبالله ألا فتأملوا أيها المنصفون، فوالله لقد أخطأ ابن القيم إن كان يعتقد أن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: ١٠٧) فيها إلماع أو إشارة إلى فناء النار، ومن يفهم هذا الفهم أو يجوِّزه بعد أن سمع ما أوردناه وما سنورده؟ ! قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج: ١٤) ماذا يقول الفنائيون في هذه الآية أيضًا؟ أيقولون لا ندري ماذا يريد الله بأهل الجنة، كما قالوا في آية هود؟ وإلا فما الفرق بين الخبرين؟ فليخبرونا ولهم الثواب [٧] ، فقد علم كل من له أدنى تأمل في القرآن أن إرادة الله تعالى ومشيئته قد عُلمت في أهل الجنة وأهل النار، وأن كُلاًّ قد قُضي عليه بالخلود في داره التي خلق لها وسعى لها سعيها، وظهرت تلك المشيئة في الفريقين بأجلى مظاهرها، فترى أهل النار لا يهتدون، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، وأهل الجنة موفقون مهديون {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: ١١٩) قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: ٢٧) ألم يبين الله لنا مشيئته هنا أيضًا بالمؤمنين والظالمين؟ ألم يكن ختامها هنا كختامها في سورة هود؟ هل يفهم منها هنا إلا كما يفهم من تلك؟ وأن المعنى: لا اعتراض على فعل الله لأنه هو الحكمة التامة والعدل الأعلى وأنه لا مُكره له ولا رادَّ لما قضاه. أم يقال ما قرره الفنائيون الذين نظروا لآية واحدة وتركوا سائر الآيات، فقالوا: أما الذين سُعدوا فأخبرنا الله أن عطاءهم غير مجذوذ، وأما الذين شقوا فلم يبين لنا ماذا يريد بهم، والحق أنه بيَّن وبيَّن كما سمعتَ وعلمتَ. وأما الكلام في آية (النبأ) فلا دليل فيها لهم، وآخرها يَرُدُّ عليهم؛ إذ يقول الله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} (النبأ: ٣٠) و (لن) تفيد الاستقبال حتى احتج بها الزمخشري على نفي الرؤية (رؤية الله في الجنة) في قوله تعالى لموسى: {لَن تَرَانِي} (الأعراف: ١٤٣) وفرق بين الخبرين، فإن هذا نفي الرؤية في الدنيا، وأما الثاني فنفي في الآخرة. وقوله تعالى آخر السورة: {وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} (النبأ: ٤٠) دليل على أن الكافر كان يود لو كان ترابًا ولا يعذب خالدًا، ولا يقال تمنيه ذلك كافٍ لرؤيته العذاب فحسب دون الخلود؛ لأنه لو كان يعلم أن النار تفنى من الآن كما يقولون لظل على أمله ورجائه في رحمة الله [٨] كما فهم ابن القيم من حديث (لو يعلم الكافر بسعة رحمة الله ما يئس، ولو يعلم المؤمن بأليم عذاب الله - أو نحو ذلك - لقنط) وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} (النبأ: ٢٣) لا يدل على انقطاعها كما قدمنا، فإنما المقصود التهويل، وأن الأحقاب قد تأتي متتابعة ولا تتناهى، أرأيت لو كنا هنا في الدنيا خالدين أما كنا نقول مضت علينا أحقاب، ونعد الزمن وهو باق كما يمكن أن نعد شيئًا لا يحصى بالألوف والملايين، وأقصى فعل من الحساب كالديشليون وكلما فرغت الفصول أعدناها من الأول عدًّا ولم يفرغ المعدود، فمن يستنكر ذلك؟ وهل هذا إلا من باب قوله تعالى في أهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (هود: ١٠٧) والغرض: الخلود الذي لا نهاية له؛ لأن المخاطبين يجهلون بدء الأرض والسموات، والمجهول أوله وآخره كالذي لا أول له ولا نهاية، فلذلك - والله أعلم - صور لنا الخلود لنعلم عظمه بالنسبة لبقاء الدنيا وعمرنا القصير فيها، فأما المؤمن فيفرح بنعيمه الخالد في الجنة، وأما المنافق فيحزن حزنًا شديدًا وتنغص عليه حياته إذا سمع هذا الوعيد الشديد، فالأول تعلو همته ويقتحم الشدائد بقلب ملؤه الصبر والأمل والسرور، وذاك يجاهد ليذب عنه هذه الزواجر ويفر منها فرار الحمر المستنفرة وهي في إثره حتى ينقلب في هوة العذاب السحيق وبئس المصير. وبعد، فإما أن تكون هذه الآيات متشابهة أو محكمة، فإن كانت متشابهة فقد كان على الفنائيين أن يقولوا آمنًا؛ عملاً بقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: ٧) وما كان لهم أن يكثروا الكلام ويطيلوا الخصام ويقْفوا ما ليس لهم به علم من صفات الله وأسمائه، ويتحكموا في حكمته ومشيئته بعلمهم القاصر [٩] وأن لله أسماء وصفات لا يعلمها للآن أحد كما ورد في حديث: (وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) إلخ، وحديث الشفاعة إذ يعلم الله تعالى رسوله محامد يحمده بها، ولا ريب أن المحامد تكون على أسماء تقتضيها وتستحقها، والله أعلم، أفما كان الأولى بهم أن يسكتوا بعد أن يقولوا آمنا به. إلخ ذوإن كانت محكمة فالأمر ظاهر ولا داعي للخلاف والجدال والقول على الله بلا علم ولنا أسوة بالصحابة الذين كانوا يسألون عما يعنيهم فيقولون: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال؟ ودُلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة إلى غير ذلك. ولعل في هذا الآن كفاية (وله بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد