للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


باب الأخبار والآراء
(الإسلام والنصرانية، مع العلم والمدنية)
قد نشرنا من هذا الكتاب مقالين أحدهما اضطهاد النصرانية للعلم بمقتضى
أصولها، نشر في الجزء الحادي عشر الماضي واقتبسته جريدة المؤيد، وثانيهما
أصول الإسلام القاضية بالتسامح مع العلم أينما وجد وإكرام العلماء من أي ملة كانوا
نشر في هذا الجزء، ويلي هذا مقال آخر في نتائج هذه الأصول الإسلامية المذكورة
في هذا الجزء وآثارها في ترقية العلم والعمران، وإيجاد مدنية فاضلة للإنسان،
وسينشر في الجزء الآتي مؤيدًا بالشواهد التاريخية، وشهادات المؤرخين والفلاسفة
من الأمم الأوربية، ويتبع هذا مقال رابع في شرح حالة المسلمين في هذا العصر,
وما نُكبوا به في كل قطر، ويختم الكلام بمقال خامس في كيفية معالجة الداء،
وبيان النجاة من البلاء، بحسب رأي هذا الطبيب الروحاني، والإمام الرباني، لا
زال ذخرًا للإسلام ومرشدًا للأنام، وسنشر ذلك تباعًا في المنار، وربما وفقنا
للتعجيل ببعض الأجزاء وإصدارها قبل وقتها إكرامًا للقراء، فقد رأينا منهم إقبالا
على ما نُشر وإعجابًا به لم نر ما يشابهه إلا إعجابهم بالرد على موسيو هانتو، ولا
غرو فهذه الحِكم متدفقة من ينبوع واحد، لا ينكره مكابر ولا حاسد.
* * *
(عبرة وتنبيه في موت وجيه)
كتب إلينا من بومباي (الهند) أنه توفي فيها (حسني بك نائب سفير الدولة
العلية) فيها فاحتفل المسلمون بتشييعه احتفالاً عامًّا وغلقوا الدكاكين وتركوا جميع
الأعمال عامة يومهم، وسيرسلون كتابًا يعزون به أهله في الآستانة العلية.
والاعتبار في الخبر من وجوه - أحدها شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العلية؛
لأنها أقوى الدول الإسلامية، وهذا أثر من آثار هداية الإسلام الذي من مقاصده
جعل البشر كلهم إخوة ولو وجد في الهند مثلما يوجد في مصر من أحداث السياسة
وخطباء الفتنة الذين يحثون قومهم على بغض كل ما لم يكن له نسب عريق في
بلادهم ويسمُّون هذا وطنية لما بقي لحب الدولة العلية في قلوبهم عرق ينبض ولا
لحقوق المسلمين حكم يفرض، (ثانيها) أن آمال المسلمين لا تزال معلقة بالسياسة
ورجالها، والحكومات وأعمالها، وليتهم ينظرون أولا إلى أنفسهم وأعمالهم،
ويعتمدوا بعد الله على كفاءتها واستقلالهم، و (ثالثها) حرية الحكومة الإنكليزية فلو
أن أهل جاوه أرادوا أن يعملوا عملا كهذا لتصدت لهم الحكومة الهولندية وصدتهم
عنه، فيا ليت المسلمين الذين هب عليهم نسيم الحرية المنعش للأرواح يعرفون
كيف تكون به الحياة الطيبة ويعملون بما يعلمون ولا يحفلون بما يلغط به الغاشون
الذين يقبحون لهم نعمة الحرية بذم مصدرها.
* * *
(السيد محمد المهدي السنوسي)
نعت إلينا برقيات أوربا في الشهر الماضي هذا الرجل العظيم الذي اشتهر
بالعلم والعمل والدعوة إلى الله تعالى والإرشاد إلى طريق الرشاد فارتبنا في صحة
الخبر وتربصنا به التكذيب، فما كان إلا أن أكدته الجرائد الغربية تأكيدًا وتبعها
غيرها.
وقد اطلعنا اليوم قبل الطبع على كتاب من طرابلس الغرب لأحد التجار جاء
فيه ما نصه:
(وردت مكاتيب مشعرة بوفاة الأستاذ المهدي وبالتحقيق لم يثبت ذلك إلى
الآن أصلا بالكلية بل المتحقق أنه انتقل إلى جهة من الجهات مجهولة.
(محاربة الفرنساويين بالأقطار السودانية لم نحصل على خبر منها إلى الآن،
وقد كان في تلك المحاربة رجل من الجزائر أتى إلى قسطنطينة إحدى الممالك
الجزائرية وأرسل إلينا جوابًا يفيد أنه قادم إلى طرفنا وعند وصوله نفهم منه حقيقة
الواقع تفصيلا وإجمالا وما الذي سيصنعه الفرنساويون بخصوص ما ذكر ونعرفكم
بذلك والسلام) ا. هـ
وسيأتي البحث في ذلك وقول من يكذب خبر المحاربة فيما ننشر من ترجمته.
(الترجمة)
جمع هذا الرجل من الصفات والخلال، ما يندر أن يكون لأحد
من الرجال، - الشرف والعلم والزهد والإرشاد وسيادة العصبية، فهو الرجل
الديني الوحيد الذي كانت تلهج بذكره الجرائد الأوربية وتستقري أعماله وتتبع
حركاته وسكناته، وتبني عليها الآراء السياسية بل كان على زهده وانزوائه في
زاويته أشبه بملك عظيم أو قائد باسل مستعد لكفاح الأقران، وفتوح البلدان، وكان
الناس في أوربا وفي الشرق مختلفين في أمره، وهائمين في أودية الظنون من شأنه،
والأكثرون يعتقدون أن طريقته جامعة بين الدين والسياسة ومن أصولها الاستعداد
للمدافعة والمقارعة عند الحاجة إلى ذلك، واشتهر بين الناس في هذه البلاد وغيرها
أن أتباعه كانوا يعتقدون أنه المهدي المنتظر، وقد عرفت أحد دراويشه الصالحين
في صحراء طرابلس الغرب واستفدت منه فوائد كثيرة عن السنوسيين فكان مما قاله:
أنه يعتقدون أن شيخهم هو المهدي المنتظر، وأنه سيحج ويبايع في حرم مكة أو
في عرفة (الشك مني) وقال: إذا ذهب سيدي المهدي إلى الحجاز فال يتخلف أحد
من المغاربة عن الحج في تلك السنة إلا لعجز مُقعِد، وكان يقول أيضا: إن من
أصول الطريقة إحياء الأرض وغرس الأشجار واقتناء السلاح، ونحن نعلم أن
للسنوسيين أتباعًا في مصر يكتمون كل ما يعرفون من أمرها بل يكتمون في الغالب
كونهم من أهلها.
مثل هذه الأخبار وذلك الاختبار، هو الذي أثار في النفوس عندنا ما أثار،
وأما الأوربيون فمنشأ أوهامهم وأحلامهم في السنوسيين جرائد فرنسا وكلامها.
(راجع صفحة ١٧٨ وما بعدها من مجلد المنار الأول تجد فيه النقول التي تؤيد هذا) .
وقد بلغنا أن الحكومة الفرنسوية قد خصصت مئة ألف فرنك في كل سنة
لمقاومة سلطة أصحاب الطريق في الجزائر وما يليها ويتصل بها وأن الذين يأخذون
هذا المال هم الذين كانوا يعظمون أمر التيجانية ثم صاروا يعظمون أمر السنوسية
بما يكتبونه في الجرائد والكتب، والله أعلم بالحقيقية، وإنما غرضنا من هذه الجملة
كلها بيان اختلاف الناس في أمر السنوسية وعذرهم في هذا الاختلاف.
وقد كُتب في جريدة (الحاضرة) التونسية مقال بتوقيع (محمد الحشايشي)
في بيان الطريقة السنوسية وترجمة صاحبها، قال الكاتب: إنه كتب عن علم
وروية؛ لأنه ساح في الصحراء الكبرى وما جاورها من البلاد المجهولة واختبر
السنوسيين الاختبار التام، وكتب في ذلك رحلة سماها الرحلة الصحراوية،
ونلخص من مقالته المفيد؛ لأنها أوسع ما كتبه المسلمون في هذا الرجل الكبير
فنقول:
ساق أولا نسبه إلى سيدي إدريس بن عبد الإله بن الحسن المثنى بن الحسن
السبط ابن علي من فاطمة الزهراء عليهم السلام. ثم قال إن صاحب الترجمة من
مدينة مستغاقم بعمالة وهران (التابعة للجزائر) من قبيلة الخطاطبة، ارتحل والده
إلى مدينة فاس في سنة ١٢٢٩ بعد أن حفظ القرآن بالروايات السبع وكان ابن ثمان
فاجتمع بالشيخ أحمد التيجاني شيخ الطريقة التيجانية الشيهر وتلقى هناك العلوم حتى
برز فيها ثم ارتحل إلى المشرق سنة ١٢٤٥ قاصدًا أداء فريضة الحج (وظهرت له
كرامات عديدة في طريقه فأقام بمكة المشرفة سنين عديدة ونشر في أثنائها طريقته
المستمدة من نفس الطريقة المحمدية التي أخذ إجازتها عن سيدي أحمد بن إدريس،
فانتشرت الطريقة في الحجاز واليمن إلى أن بلغت العراق وفي سنة ١٢٥٩ انتقل
إلى الجبل الأخضر من وطن درنه وبنغازي (من ولاية طرابلس الغرب) وتصدى
للإرشاد، وولد له صاحب الترجمة سنة ١٢٦٠ بالزاوية البيضاء فرباه التربية
الدينية في مهد العلم والإرشاد وحفظ القرآن في الثامنة ثم حفظ الكثير من المتون
الفقهية وغيرها واشتغل بطلب العلم على الأستاذ الحافظ الشيخ أحمد الريقي بعد ما
قرأ القرآن على مؤدبه الشيخ هاشم الصفاقسي والحافظ الشيخ مدين وأخذ علمي "
التفسير والتصوف عن والده وعلوم الأدب عن الشاعر الأديب الشيخ محمد أبو
سيف وعلمي الحديث والأصول عن الشيخ أحمد الريقي، جميع هؤلاء من علماء
المغرب بعضهم من الأقصى وبعضهم من الأدنى.
(لها بقية)