س١٠-١١من الشيخ عبد القادر حمزة من كفر الشيخ عامر بسم الله الرحمن الرحيم إلى سيدي الأستاذ الإمام السيد محمد رشيد رضا السلام عليك وعلى سائر الأسرة والأحباب (وبعد) ، فأعرض على نور علمكم مسائل أشكلت علي مآخذها وتعارضت أدلتها؛ لتنيروا لنا سبيل الحق فيها على صفحات مناركم، أو في كتاب خاص إليّ - أطال الله حياتكم لهداية المسلمين آمين -: ١- تواتر القرآن مجمع عليه من جميع طوائف المسلمين، فهل هذا التواتر هو لما اتفق عليه القراء - وهو جمهور القرآن - ويكون ما اختلفوا فيه صحيحًا غير متواتر لاختلافهم فيه من جهة؛ ولأن كل قراءة جاءت عن واحد وعرفت به وأضيفت إليه، كقولهم: قراءة حفص، قراءة حمزة، قراءة ابن كثير مثلاً؟ أو أن كل قراءة من هذه القراءات متواترة قد شارك كل قارئ منهم في قراءته من لا يحصى من أمثاله غير أن المصنفين اقتصروا على واحد من رواة القراءة، وهذا عذب لولا ما يكدر صفوه من اتهام المسلمين بالإهمال في بيان تواتر كتابهم الذي هو أصل دينهم، ويكدره أيضًا صنيع الطبري، وهو إمام في القراءة والتفسير والحديث والفقه، من رده في تفسيره لكثير من القراءات التي يسمونها سبعية: كقراءة حمزة: فأزالهما الشيطان عنها، من سورة البقرة، وقراءة ابن عامر: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَائهُمْ) (الأنعام: ١٣٧) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في تفسيره، والرجل أجلّ من أن يقول في قراءة متواترة: إنها مردودة لكذا، ولإجماع الحجة من القراء على خلافها. ٢- في ترجمة حمزة بن حبيب الزيات من كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وتهذيب التهذيب للعسقلاني نقل كلام الحافظ في رد قراءة حمزة ككراهة يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل لها، وتمني عبد الرحمن بن مهدي سلطانًا يوجع به ظهر من يقرأ بها، وحكم أبي بكر بن عياش بأنها بدعة، وبإعادة صلاة من يصلي خلف القارئ بها إلخ مما لا يقوم في وجهه قول الثوري أن حمزة لم يقرأ حرفًا إلا بأثر، فلا يدفع ذلك قدح النقاد فيها؛ لأن في الآثار الصحيح والمعلول، فيقال فيها: إنها بدعة. ويوجع ظهر من قرأ بها وتبطل الصلاة خلفه إلخ؛ لأنها رويت بآثار معلولة غير صحيحة، فكيف من هنا يكون حمزة شيخ القراء أو أحد السبعة وينعقد الإجماع بآخره على تلقي قراءته بالقبول كما زعم الحافظ الذهبي اهـ. الجواب: ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلما نزل عليه شيء من القرآن يقرؤه على أصحابه فيحفظه من يحفظه ممن حضر منهم، ويأمر كتاب الوحي بكتابته وحفظه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ كل ما أنزل عليه في الصلوات فيسمعه الصحابة - رضي الله عنهم - في الجهرية منها، وكانوا هم يقرؤون في صلواتهم وغيرها ما حفظوه، وثبت أيضًا أن جبريل أمين الوحي عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان في كل سنة؛ أي: كان كل منهما يعرض على الآخر كل ما نزل من القرآن، وأن جبريل أقرأه القرآن على حرف واحد، فاستزاده حتى أقرأه على سبعة أحرف، وإن المعارضة في آخر رمضان من عمره - صلى الله عليه وسلم - كانت مرتين؛ أي: بالسبعة الأحرف. وثبت أيضًا أنه كان في الصحابة طائفة كبيرة يوصفون بالقراء؛ لعنايتهم بحفظ القرآن وكثرة قراءته، وأنه قد جمعه كله في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة من الخزرج بالتلقي قراءة وكتابة، وهو أقوى ما وجه به الحصر في الخبر الوارد في ذلك، ومن المعلوم بالبداهة أن المهاجرين كانوا أشد عناية بحفظه، ولا سيما السابقين الأولين. وثبت أيضًا أنه لما استحر القتل (اشتد وحمي) بالقراء في قتال مسيلمة الكذاب باليمامة خشي عمر أن يقتلوا في كل مكان فيقلوا، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن كتابة، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت كاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجمعه، فجمعه مما كانوا يكتبونه فيه من الحجارة الرقاق، وعظم الكتف، وعسب النخل، فجمعه في الصحف بالترتيب الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت هذه الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر مدة حياتهما، ثم عند حفصة أم المؤمنين إلى أن نسخت عنها المصاحف بأمر عثمان في عهد خلافته، وبعث بها إلى الآفاق؛ ليرجع إليه القراء والحفاظ حتى لا يختلفوا في القرآن فيضلوا كما ضل من قبلهم. وقد أجمع المسلمون سلفًا وخلفًا على أن كل ما وافق رسم المصحف الإمام الذي كتب في خلافة عثمان بإقرار علماء الصحابة واتفاقهم من القراءات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية صحيحة بعبارة عربية فصيحة - فهو قرآن، وقد توفرت الداوعي على تواتر ذلك كله بما ذكر عن أهل الصدر الأول، ثم بما كان يخص به الخلفاء وعمالهم حفاظ القرآن من العطايا، واختلاف الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سببه الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد اختلف العلماء في معناها، والمختار أنها أوجه القراءات، وهي كما بينا في التفسير قسمان: أحدهما لفظي، كقطع الهمزة ووصلها والإمالة ومقابلها، وتذكير بعض الكلم وتأنيثها مما تختلف به لغات قبائل العرب ولهجاتها، وسببه تسهيل قراءة القرآن عليهم، وثانيهما معنوي وهو ما أفاد معنى جديدًا بتغيير القراءة كـ (مَلِك يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: ٤) ، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: ٤) ، فإن الملك في اللغة هو: المتصرف بالتدبير والحكم، والمالك: المتصرف بالأعيان، ولا ملك ولا مالك يوم الدين غير الله تعالى، ومما انفرد به تفسيرنا دون جميع ما اطلعنا عليه من التفاسير توجيه القراءات وبيان فوائدها اللفظية والمعنوية. وقد ذهب بعض العلماء أن القراءات السبعة المشهورة هي الأحرف السبعة التي ثبت في الصحيح نزول القرآن بها. ورد ذلك المحققون، فالصحيح أنها منها لا كلها، واختلفوا في المصاحف هل هي جامعة للأحرف السبعة أم كتبت بحرف واحد، أم بعدة أحرف وهي الموافقة للرسم؟ وهذا الأخير أظهر هذه الأقوال، ولا يتضمن إضاعة شيء من القرآن؛ لأن الأحرف السبعة لم تكن كلها حتمًا على كل مسلم، وإنما كان الكثير منها رخصة حتى لا تشق قراءة القرآن على غير قريش من العرب، فإنه نزل بلغة قريش ورخص لغيرهم قراءته لما يسلس على ألسنتهم، وهي رخصة عارضة قد زال سببها منذ العصر الأول بغلبة لغة قريش، وتربية أولاد المسلمين من جميع العرب والعجم على القراءة بها، وبقي المروي من غيرها أثرًا علميًّا، فما وافق منه رسم المصحف مع صحة روايته وعربيته ثبت كونه قرآنًا دون غيره، وقد عني العلماء بجمع كل ما ثبت من ذلك، ومنهم من يرجح ما صح عنده بالرواية من تلك القراءات، ويرد غيره كابن جريرالطبري، وقد يكون صحيحًا عند غيره بشروطه الثلاثة، ومثله من أنكر بعض قراءات حمزة في مثل إطالة المد والإمالة وتخفيف الهمزة، كالأئمة الذين ذكروا في السؤال؛ لعدم ثبوت روايتها عندهم، فعدم ثبوت بعض الأحرف السبعة عند بعض العلماء لا ينافي ثبوتها عند آخرين حتى بالتواتر، وقد كان عصر هؤلاء العلماء عصر الرواية ومبدأ عصر التدوين والتصنيف الذي صار يسهل فيه العلم بالمروي لغير الرواة بمراجعة الكتب التي ثبتت نسبتها إلى مؤلفيها الثقات كدواوين السنة وغيرها. وقد نقل الحافظ في شرح حديث الأسبعة الأحرف من الفتح أقوال المحققين فيها وفي القراءات ومنه في سياق كلام لابن أبي شامة: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها. وذكر أمثلة من ذلك، ثم ذكر عن ابن أبي هاشم أن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل (قال) : فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة (يعني لغة قريش) . وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. أي: لا كلها ولا واحد منها فقط. وجملة القول أن العلماء الذين صنفوا الكتب في القراءات والمصاحف والحديث قد أحصوا كل ما روي عن الصحابة في القرآن والقراءات والتفسير من متواتر ومشهور وشاذ، ولكن العمدة في ثبوت القرآنية ما تواتر ولو في بعض الأمصار دون بعض، والقاعدة الكلية فيما جروا عليه في إقراء الناس في الأمصار هي كما قال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة (أي: في الحديث) ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو الشاذ، اهـ. ثم إن المشهور عند علماء الأصول والفقهاء أن القراءات السبع المسندة إلى القراء السبعة الذين اشتهروا في الأمصار بالإقراء: (أبي عمر، ونافع، وابن كثير، وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي) متواترة، ولكن استثنى بعضهم منها ما ليس من قبيل الأداء، كصفات المد والإمالة وتخفيف الهمزة التي خولف فيها الأصل، كما ترى في جمع الجوامع. وصرح بعضهم بأن بعض رواياتهم في هذا غير متواترة؛ لأنها مروية عن الآحاد، أو من طرق ضعيفة، وأن القاعدة العامة التي ذكرنا عبارة الكواشي فيها آنفًا محكمة في هذه القراءات كغيرها، ونقل الحافظ هذا المعنى عن شرح المنهاج للسبكي وعن أبي شامة، وقال في آخر هذه النقول: ونحن وإن قلنا: إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه اهـ. فعلى هذا يكون مثل هؤلاء القرّاء السبعة كمثل أصحاب الكتب الستة في السنن من حيث شهرتها وكثرة المتلقين لأحاديثها عنهم، وإن كانوا لم ينفردوا بروايتها، ولا كانت تكون مجهولة لو لم يدونوها في كتبهم، ومن حيث إن ما صححوه منها لم يقلدهم العلماء به تقليدًا، بل كان جميع ما دونه الشيخان في صحيحهما معروفًا عند جماهير المحدثين من شيوخهما وغيرهم في عصرهما وبعد عصرهما، ومرويًّا عن غيرهما، وقد ناقشهما بعضهم في توثيق بعض رجالهما، وفي غير ذلك مما هو معروف، وطعن بعض المحدثين في بعض قراءات بعض القرّاء كحمزة لا ينافي صحة قراءته مطلقًا، ولا صحة ما أنكروه منها، كطعن بعضهم في صحة بعض أحاديث البخاري واتفاق سائرهم بعد هذا الطعن على صحة ما طعن فيه كله أو أكثره، ذكر الحافظ الذهبي في الميزان الخلاف في جرح حمزة وتعديله في قراءته، فعظم السائل أمر الجرح دون التعديل، ومنه قول أبي حنيفة: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض، وقراءة الأعمش عند رؤيته مقبلاً قوله تعالى:] وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ [وقول الإمام (الحج: ٣٤) سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا إلا بأثر. وقد بين أبو بكر بن عياش مراد من قال: إن قراءته بدعة؛ بقوله: لما فيها من المد المفرط والسكت والإمالة واعتبار الهمزة في الوقف. وقال الحافظ الذهبي مع ذلك: وإليه المنتهى في الصدق والورع والتقوى. وقال: وقد انعقد بالإجماع بآخره على تلقي قراءة حمزة بالقبول. ثم قال: وحسب حمزة شهادة مثل الإمام سفيان الثوري له. ونقل الحافظ ابن حجر هذه الأقوال في تهذيب التهذيب وأقرها، والعبرة في الجرح والتعديل من حيث الترجيح على ما يستقر عليه حكم أئمة الناقلين المحققين بعد العلم به، فما بالك بحكم الإجماع، وصفوة الجواب أن عدالة حمزة لا غبار عليها، وأن قراءته غير مطعون فيها على الإطلاق، بل طعن في مثل إطالة المد من لم يثبت عند غيره، فلم يكن حمزة منفردًا بشيء منه، على أنه من النوع الذي اختلف في تواتر بعضه، ولا ضرر فيه؛ لأنه لا يترتب عليه إثبات معنى ولا نفيه.