في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر شوال هذا العام توفي الأستاذ العالم العامل الشيخ أحمد عباس الأزهري في مدينة بيروت مسقط رأسه، وموطن عمله، ودفن في مقبرة الباشورة باحتفال كبير يليق بمقامه. وقد كتبت خبر وفاته مع الوعد بترجمته؛ لينشر في الجزء الماضي، ولم أعلم بأنه لم ينشر لكثرة مواد الجزء إلا بعد صدوره. كان الأستاذ صديقًا لي، وكان لي معه مجالس إصلاحية خاصة في زياراتي الأخيرة لبيروت، ولكنه لم يكن يعلم فيما أظن أنني أفضله على جميع علماء بلادنا في مجموعة معارفه، لا في كل نوع منها، ولا في علم , أو فن خاص امتاز به، وفي إقدامه , وسعيه لنشر علوم الدين والدنيا , وفي وطنيته وقوميته. لا أعرف أحدًا من علماء سورية كان خبيرًا بزمانه وأهله كما قال بعض السلف في وصف العالم أو الفقيه , وكان بخبرته يهتم بأمر أمته ووطنه , ويحب لهم أن يسابقوا غيرهم في العلم والعمل - إلا أستاذي الشيخ حسين الجسر , فصديقي الشيخ أحمد عباس رحمهما الله تعالى , وكان الشيخ حسين أوسع من الشيخ أحمد علمًا, ولكن الشيخ أحمد كان أنشط منه في العلم والسعي. سعى الأول لإنشاء مدرسة وطنية في طرابلس تجمع بين العلوم الدينية والفنون العصرية , وبعض اللغات الأجنبية التي تقتضيها ترقية التجارة والعلم , ثم سعى لأن تعترف الحكومة العثمانية بأنها مدرسة دينية يعفى طلابها من الخدمة العسكرية , فلما لم تقبل الحكومة؛ سقطت المدرسة , وقضى الأستاذ بقية عمره في تدريس فنون العربية والعلوم الدينية على الطريقة الأزهرية التقليدية مع نوع من سهولة الإلقاء , والتنبيه الفكري , ولو ثبت على النهوض بإدارة المدرسة الوطنية؛ لأحدث انقلابًا كبيرًا في سورية. وأما الشيخ أحمد عباس؛ فما زال يجاهد في هذه السبيل إلى أن قضى نحبه كما ترى في ترجمته، وهو لم يلق من أغنياء سورية ولا بيروت , ولا من وجهائها ما كان يجب عليهم من مساعدته. ولو ساعدوه؛ لأمكن أن يستغنوا بسعيه عن مدراس الأجانب. جاهد الشيخ أحمد عباس في سبيل نشر العلم بالتعليم نصف قرن , وقد احتفل بعيده الذهبي في بيروت احتفالاً حسنًا لم يتح لنا الاشتراك فيه، وقد ألقى صديقنا الأستاذ عبد الباسط فتح الله خطابًا في ذلك الاحتفال أودعه تاريخ الأستاذ المحتفل به , وهو أجدر الناس بذلك علمًا واطلاعًا وحسن بيان، فنحن ننشر هذا التاريخ بنصه في المنار مع تغيير ألفاظ قليلة جدًّا اقتضاها الفرق بين الكلام عن رجل في حياته , ثم بعد وفاته , وهو: مولد الأستاذ ومنشؤه كان مما تركته الحملة المصرية التي اكتسحت الديار الشامية سنة ١٢٤٥هـ بقية صالحة تأصلت في ثغر بيروت؛ فنشأ منها فرع أزهر , وأثمر، وانتظم البلاد خيره. العباس بن سليمان من جند إبراهيم باشا ابن محمد علي الخديوي تزوج ببيروتية من بني الشامي؛ فرزق منها عدة أولاد صفوتهم (أحمد) الذي لبس حلة الوجود عام سنة ١٢٧٠ هجرية؛ فكان شعلة من نور أضاءت بيت والد فقير , فلما بلغ الخامسة من عمره؛ أدخله إلى الكتاب , فقرأ القرآن الكريم على الشيوخ الحفاظ المجودين، واستظهر منه بضعة أجزاء , وفي السنة العاشرة دخل المدرسة الرشدية التي أنشأها المرحوم الشيخ حسن البنا حيال سنة ١٢٨٠ , وهي أول مدرسة إسلامية عصرية سماها صاحبها بالرشدية قبل أن تنشئ الدولة مدارسها المعروفة بهذا الاسم نسبة إلى راشد باشا والي سورية لذلك العهد , فتعلم الخط والحساب , وكان من شيوخه فيها علامة الفقه والأدب المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب. إلى ذلك الزمن ظل العلم عزيزًا , والعلماء نادري الوجود , والناس ولا سيما المسلمون في هجعة قطعت صلتهم بالماضي، وتراكمت على فكرهم سحب من الجهل حجبتها عن التطلع إلى المستقبل، فظلوا في فترة من العلم حتى نبغ الأستاذان الفاضلان الكبيران الشيخ محمد الحوت , والشيخ عبد الله خالد قدس الله روحيهما، فصاحا بالقوم صيحة أيقظتهم من سباتهم، وزحزحتهم عن مضاجع غفلتهم، وجعلا ينيران بدروسهما عقول الكافة، ويثقفان عقول النابهين من الخاصة، حتى استرشدوا , وأحسوا الحاجة إلى العلم؛ فهبوا لطلبه، وكان آنئذ بدء النهضة العلمية في الطائفة الإسلامية في بيروت. ثم أراد العلامة الناهض الشيخ عبد الله خالد أن يتوسع في نشر العلم , فاقترح على زملائه والنابهين من تلاميذ قرينه العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير انتخاب طائفة من نجباء تلامذة الرشدية , واختصاصهم بدروس توسع ما أدركوا من علوم الدين , فتزيدهم معرفة بالعلوم العربية؛ ليتسنى لهم أن يخدموا الأمة بنشر العلم فيها عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) فارتاح الأساتذة إلى هذا الاقتراح , واقتسموا المنتخبين , فكان (أحمد) من نصيب الأستاذ الأديب الشاعر الشهير السيد عمر أنسي؛ فلزم دروسه , ووجد فيه السيد عمر أنسي نباغة , وحرصًا على التحصيل , فزاده من عنايته حتى فاق رفاقه , وصار يذاكرهم الدرس عندما كان يغيب الأستاذ الذي شغلته تجارته بعد حين عن مواصلة التدريس في الأوقات المعينة. واتفق أن الأمير محمد أرسلان صادف الشيخ عمر , ومعه تلميذه الصغير (أحمد) يماشيه , فسأله عنه , فعرفه إليه , وأثنى عليه , فجعل الأمير يباحثه في بعض مسائل النحو , وهو يحسن الجواب حتى التفت الأمير إلى الشيخ عمر , وقال له: جدير بتلميذك أن يدخل الأزهر , فكان لهذه الكلمة أثرها في نفسه , وبعد قليل يمم الأزهر أحد رفقائه في طلب العلم , وهو الشيخ خضر خالد , فهاجت رغبته الكامنة , واشتد شوقه إلى ورود ذلك المورد العلمي العظيم غير أن أباه الفقير كان كثيرًا ما يمنعه من الانقطاع إلى الدرس في نفس بيروت للاستعانة به على الكسب , فكيف إذا سأله السفر , وما يستلزمه من النفقة؟ فجعل يستنجد بأستاذه؛ ليبلغه مقصده، والأستاذ الأنسي يقول له: رويدك لا يصبر على الأزهر إلا كل ضامر مهزول. فيجيبه (أحمد) : وهل أنا إلا ذلك الضامر المهزول؟ واتصل الخبر بالسري الأديب المفكر الناهض السيد حسين بيهم , فأجرى عليه وظيفة شهرية من ريع لأسرتهم كان موقوفًا على عمل الخير , ثم انتدب الشيخ الأنسي , ورفيقه الشيخ عبد الرحمن الحوت , فهونا الأمر على والده , وأقنعاه؛ فأذن له , وفرض على نفسه مبلغًا أضافه إلى ما رتبه المرحوم السيد حسين بيهم , وولى أحمد وجهه شطر الجامع الأزهر سنة ١٢٨٥هـ , فعكف على التحصيل مدة ست سنين , فنال من فضل الله بجده ما لم ينله غيره في مثلها من الزمن. والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار فتلقى علوم العربية وآدابها من خواص مدرسيها لذلك العهد كالشيخ المرصفي والأشرافي والإبياري والبابي الحلبي، وأخذ الشريعة على مذهبي الإمام محمد بن إدريس الشافعي , والإمام أبي حنيفة عن أعلام علمائها (الأشموني والعز والرافعي ومنقاره) , واضطلع بالعلوم العقلية والنفسية والتصوف بين يدي جهابذتها حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ أحمد البابي الحلبي والشيخ محمد الولي الطرابلسي. وعندما كان يأتي بيروت أثناء العطلة الأزهرية لم يكن يقضي أيامه في الاستراحة , بل كان يتزود في المنطق والأدب من دروس العلامة الشيخ يوسف الأسير رحمه الله. وبينما هو على وشك الفراغ من التحصيل أصابته في السنة الخامسة مصيبة كادت تعجله عن الإتمام؛ إذ توفي أبوه , ففقدت أسرته المعين , وأعوزته النفقة، فاضطر إلى ترك الأزهر في بدء السنة السادسة , وقفل راجعًا , وحل ضيفًا على رجل المروءة والإحسان المرحوم سعد الله بك حلابه بالإسكندرية , فسأله عن أسباب عودته في غير ميعاد العطلة , فنبأه بخبره، وما كاد يتم قصته حتى نقده - تغمده الله برحمته - مبلغ الراتب الذي كان يرسله إليه أبوه عن السنة كلها , وأمره بالعود , وإتمام التحصيل , فأحسن له الدعاء , وعاد؛ فأتم , ونال إجازات التدريس سنة ١٢١٩ من أساتيذه في العلوم التي تعلمها (بعد التحصيل) . تلك المرحلة الأولى من حياة الأستاذ الرئيس , وهي في كثير من ماجرياتها تشبه حياة أكثر العصاميين , فأين مميزات ذاته ومقومات ماهيته التي ترتسم بها صورته الخاصة في أذهان المعاصرين، ويحتفظ بها لوح التاريخ؟ لا جرم أنه يسهل على الإنسان تصور حقيقة ما كما هي كلما كانت أقرب إلى السذاجة , فإذا تشعبت وعلت مرتبتها في الوجود عز ضبطها , فتفاوتت صورها في الأذهان بتفاوت المدارك ووسائل التصوير، من أجل ذلك نرى الناس يختلفون في وصف الرجل الواحد من العلماء , والمفكرين المصلحين. فكل يرسم له صورة حسبما وصل إليه من خيره، وقلما يصيب الحق فيه واصف؛ لما يعترضه من وعورة الرواية , واختلاف أهواء الراوين، وفي هذه الحال لا يبقى إلى معرفة الحقيقة غير سبيل واحدة , وهي النظر في العمل؛ لأن الأعمال هي وحدها مرآة الرجال الصافية التي تحتفظ من حقائقهم أمثل صورة , وأصدق مثال، فهلم نستقرئ شيئًا من أعمال شيخنا التي تتجلى فيها صورته المعنوية الخالدة. نرى للمعاهد العلمية الكبرى أثرًا خاصًّا تطبعه في نفوس واردها بقصد , أو بغير قصد؛ حتى ليدركه البصير في نقد الرجال أثناء المعاملة أو المذاكرة والمباحثة غير أن الأزهر - وإن اتحد أثره في الأزهرين من حيث التحقيق في البحث والاستقصاء في التقرير إلا أن له آثارًا مختلفة من حيث العمل بالعلم والاستفادة منه - فترى في الأزهريين المجتهد العامل الذي استعد عقله للجري على نظام التجدد , وقبول الحقائق التي يقررها العلم الحديث , وتأهلت نفسه لسلوك سبل الحياة سهلها وحزنها، كما ترى فيهم الجامد والخامل الذي لا فرق بينه وبين الصحيفة تؤثر فيها المطبعة , أو يد الخطاط , فلا تعود تقبل الزيادة، ويعتريها النقص بما ينتابها من عوارض الطبيعة، ثم هي تستقر حيث تلقى لا تغيير , ولا تبديل حتى يدركها الفناء، فمن أي الفريقين جاء الأستاذ الرئيس؟ كأني بكم تقولون معي: من الفريق الأول , ولا ريب. عاد من الأزهر إلى بيروت سنة ١٢٩١ هجرية , وكان العلامة العامل الكبير المعلم بطرس البستاني قد أنشأ مدرسته الوطنية , وازدحم فيها الطلبة من كل ملة , فدعا الأزهري الجديد إلى التدريس فيها , واختصاص التلامذة المسلمين بدرس ديني. فلبى الدعوة , وقام بالعمل إلى آخر سنة ١٢٩٤ حيث صرفت المدرسة تلامذتها , وأقفلت بسبب انتشار الهواء الأصفر، وهكذا أصبح الأزهري بلا عمل , فماذا فعل؟ لم يكن ثوبه العلمي ليمنعه من كسب الرزق الحلال من موارده المشروعة , فاتخذ له دكانًا , وجهزها بما استطاع من البقول والأثمار , وقعد يبيع , ويشتري كعامة الناس، ومر به الوجيه الورع المرحوم الحاج محيي الدين بيهم , فعز عليه أن يرى الشيخ الفتى يحترف الحرفة المبتذلة , فدنا منه , وقال له: أرى أن هذا غير لائق بك. فأجابه: أرى أن هذا أليق من التسول للقيام بأود الأهل , وبعد قليل من الزمن - أي: في سنة ١٢٩٥ - دعاه الأمير مصطفى أرسلان إلى التدريس في المدرسة الداودية في (عبية) , فلبى دعوته , وظل يعمل هناك بجد وإخلاص مدة ثلاث سنين آخرها سنة ١٢٩٨. وكان من تلاميذه ثمة المحامي المشترع المرحوم عباس حميه , والأفاضل محمود بك تقي الدين مدير المعارف السابق , وسامي بك العمار وثامر بك العمار وفرحات بك حمادة وغيرهم , ثم ترك الداودية ليتولى إدارة مدرسة المقاصد الخيرية التي تأسست في بيروت سنة ١٢٩٩ بعناية أبي الأحرار المرحوم مدحت باشا , وصديقه الكبير رائف باشا متصرف بيروت، ثم انتخب لتدريس العلوم العربية والدينية في المدرسة الرشدية العسكرية سنة ١٣٠٠. ولما افتتحت جمعية المقاصد الخيرية مدرستها السلطانية عام ١٣٠٢؛ دعته إلى التدريس فيها , وتولى نظارة السلوك كما دعت الأستاذ علامة سورية المرحوم الشيخ حسين الجسر إلى تولي إدارتها؛ فقام بالوظيفة خير قيام مع محافظته على التدريس في الرشدية العسكرية حتى كاد لا يكون له ساعة للراحة. في المدرسة السلطانية عرفنا في الأستاذِ الرئيسَ الناظرَ البعيد النظر، والرقيب الشديد الحذر، والمربي الحكيم يحسن سياسة النفوس، حتى إذا ما استقامت على الطريقة بث فيها روح التقدم وساقها إلى أنبل مقصد من مقاصد العلم , وأمثل غاية من غايات العمل. في المدرسة السلطانية كان أول من (شنف) آذاننا , وشغل أذهاننا بهذه الكلمات الذهبية: حب الوطن، الغيرة على الأمة، والاستعداد للمستقبل، المجد، النهوض، الاعتماد على النفس، إلى أمثالها من الفرائد الكريمة التي كان ينسج منها خطبه , ومواعظه، ويشعل بنارها أفئدة النشء الذي كان يربيه , ويعده؛ لخدمة ملته وبلاده. لم تطل إقامته في المدرسة السلطانية؛ لما اعتور إدارتها من تأثير السياسات المختلفة , فاستقال من خدمتها سنة ١٣٠٤ , ولما كانت همته وعصاميته تأبى الارتزاق من موارد الكسل؛ انصرف إلى تجارة الكتب؛ لكيلا يفارق العلم في أيما عمل متأسيًا بأستاذه البابي الحلبي صاحب المطبعة والمكتبة المشهورة , وأسس في تلك السنة مكتبته العثمانية , ومع ما في ظاهر هذا العمل من النفع الخاص , فقد خدم به العلم؛ إذ حبب المطالعة إلى كثير من الناس , وزاد في رغبة الراغبين فيها بما كان ينتقي لهم من التآليف الحسنة في كل فرع من الفروع على أن تجارته هذه لم تكن لتغفله عن غرضه الأسمى من إصلاح النفوس بالوعظ والإرشاد والتربية والتعليم؛ لذلك ما كان ينفك عن إلقاء الدروس في المسجد الجامع العمري. تلك الدروس التي كان يرمي فيها إلى تهذيب الأخلاق التي إنما يكون المسلم بها مسلمًا , بل الإنسان إنسانًا، وتفقيه الكافة في الدين، وتنوير عقولها بمواعظ التاريخ الإسلامي، ومناقب الرسول صلى الله عليه وسلم , وصحابته الكرام رضي الله عنهم، ولمثل هذه الغاية من الإصلاح كان سلك غب عوده من الأزهر الطريقة الشاذلية، وعمل جهده على ضبط أفكار مريديه من العامة بضابط الشرع، وشحذ قرائح المعلمين منهم بآداب التصوف، وقاية لأولئك من الشذوذ الذي قلما يسلم منه السالك الجاهل، وصونًا لهؤلاء من الجمود الذي يستولي على الطالب الواقف عند ظواهر الفقه دون النفوذ إلى أسراره المتعلقة بكمالات الروح , وتهذيب النفس، على نحو ما أشارت إليه هذه الكلمة الحكيمة: (الطريقة بلا شريعة باطلة، والشريعة بلا طريقة عاطلة) [١] . ثمان سنين مضت على الأستاذ في المكتبة دون أن يفارقه الفكر في خدمة الأمة من أقرب الطرق بأنجع الوسائل خصوصًا وقد رأى (بعد) ما عرى المدرسة السلطانية من القلب , والإبدال في المبدأ والمقصد أن الخطب يتعاظم , والخطر يشتد. تنبه المسلمون للعلم بصحبة القطبين الجليلين: الحوت , وخالد، ثم اندفعوا إلى تحصيله من الطريق الوطني الإسلامي الذي اختطته لهم جمعية المقاصد الخيرية أسوة ببقية الطوائف المواطنة؛ ليجاروها في حلبة المدنية. بيد أن الحكومة السابقة التي كانت تخصهم من مراحمها بالقسط الأوفر أخذت عليهما هذه الطريق , وصدتهم في بدئه عن بلوغ غايته؛ إذ حولت المدرسة السلطانية إلى معمل موظفين؛ فارتدوا حيارى , وسبل العلم متفرقة , ومناهله مختلفة لا يدرون أي سبيل يسلكون، ولا أي منهل يردون، وألحت بهم الحاجة إلى مدرسة يعتاضون بها عن المدرسة الوطنية التي فقدوها، فمن لهذا الأمر العظيم غير الكفء الندب العظيم؟ دفعت الغيرة والحمية أستاذنا لسد هذه التلمة , فترك تجارة الكتب سنة ١٣١٢ استعدادًا لإنشاء المدرسة المنشودة , وكاشف بالأمر صديقه المفضال صاحب السعادة السيد عبد القادر أفندي قباني , فوجد عنده من الشعور مثلما كان يجد هو في نفسه حتى إن سعادته ارتاح إلى مشاركته في رأس المال. وهكذا تيسر له سنة ١٣١٣ هجرية فتح المدرسة التي سماها بالعثمانية تعوذًا من شر. ودعاني إلى ما أحب من الخدمة؛ فلبيت , وسعدت بموازرته زهاء عشرين سنة، ومنذ ذاك دخل الأستاذ الرئيس في طور من الجهاد الأدبي لا يحتمل المقام وصف مصاعبه ومتاعبه. جرت المدرسة العثمانية على نظام عصري في الإدارة والتدريس لم يعهد بمثلها في المدارس التي ينفرد بتدبيرها شخص واحد حتى زهت في برهة يسيرة , وانتشرت شهرتها في الآفاق؛ فأمتها الطلبة من أقاصي البلاد الإسلامية فضلاً عن الأحياء السورية، ثم اتسعت دائرتها , وجمعت داخل محيطها أقسام التعليم الثلاثة: الابتدائي والاستعدادي والعلمي عدا روضة الأطفال، وبهذه صارت كلية وأخرجت للأمة من الشباب الناهض الذي انطلق يؤدي ما وجب عليه لأمته من خدمة المدنية في فروع العلم التي حصلها في الكلية الإسلامية، ثم اضطلع بها في جامعات بيروت وأوربا , فكان منه الأديب الصحافي والطبيب والصيدلي والحقوقي والتاجر، وبالجملة فإن تلامذة الكلية الإسلامية إن لم يرفعوا أمتهم إلى ذروة المجد؛ فقد قربوها من المنزلة التي تليق بها بين أخواتها في الوطنية من الأمم الراقية. هذا ومن الأماني الإصلاحية التي كانت تشغل قلب الأستاذ الرئيس التوفيق بين مقتضيات العلوم الحديثة , ومقررات العلوم الدينية. كان يزعجه ما يرى من التباين في الرأي بين بعض تلامذة المدارس العصرية , وبعض طلبة العلوم الدينية؛ لجهل كل من الفئتين بعلم الفئة الأخرى , وخاف على الجهود المبذولة في سبيل نهضة الأمة أن يحيط بها هذا الخلاف , ويحبطها إلى عكس المقصود منها، فهم بتلافي الأمر , فوسع قدر ما أمكن دروس العلوم الدينية من فقه , وتوحيد , وأضاف إليها درسًا في علم الأصول، ثم حاول إنشاء دائرة خاصة بمريدي الاختصاص في العلوم الدينية شرط أن لا يقبل فيها إلا من اضطلع بالعلوم العصرية , وأحرز (إجازة البكلوريا) . ولما كانت واردات المدرسة لا تتسع للإنفاق على هذه الدائرة رأى أن يستنجد المشيخة الإسلامية؛ فسافر إلى الآستانة سنة ١٩١٣ , وعرض عليها الفكر؛ فأعجبت به , ونقلته إلى رجل الدولة إذ ذاك (أنور باشا) , فحبذه أيضًا , ووعد بتخصيص ألف ومائتي ليرة تدفع مشاهرة معاونة لهذا المشروع [٢] . غير أنه لم يدفع منها سوى قسط واحد , ووقعت الحرب العالمية؛ فبدلت الخير شرًّا، وانقلبت المعاونة إلى مضايقة وإحراج , وانتهى إلى إقفال المدرسة , ونفي الأستاذ الرئيس إلى إستانبول , ووضعه هناك تحت المراقبة كما هو معلوم، على أن الكلية ومشاغلها العظيمة ما كانت تستغرق همته، وما كانت عزيمته لتقف عند حد من الخدمة، فقد كان لا يدع فرصة تسنح إلا اغتنمها للقيام بعمل مفيد، وإن أنس لا أنسى دهشتي , وقد دخل علي المخزن [٣] يومًا من أوائل أيام الدستور العثماني , وفي يمينه أسطوانة من الورق , فقلتُ له: يا أستاذ , ما تلك بيمينك؟ فألقاها إليَّ , وإذا هي ثلاث استدعاءات بطلب ثلاث رخص بإنشاء جريدة ومجلة ومطبعة. إلى ذلك اليوم كنت أحسب نفسي أعرف الناس بمبلغه من علو الهمة , والإقدام، ولكن استصغرت نفسي , واستضعفت إدراكي؛ عندما ظهر لي أن همته لا تحد بحد، وأن إقدامه لا يقدر بمقدار. *** آثاره العلمية والأدبية إن ما تقدم بيانه من المهام التي شغلت قلب الأستاذ , وجوارحه منذ برز لمعركة الحياة كانت تكفي لإشغاله عن سواها من الكتابة , والتأليف غير أن احتماله أعباء التدريس حمله على وضع عدة كتب نافعة في علوم الصرف والبلاغة والمنطق وأحوال الفقه [٤] على أسلوب يقرب هذه العلوم الرياضية والطبيعية واللغات وآدابها. وكان شرع في تصنيف كتاب في تاريخ آداب العربية , وأملى منه عدة فصول على تلامذته، فلما ظهر كتاب (الوسيط) الذي وضعه الأستاذان الفاضلان الشيخ أحمد الإسكندري , والشيخ مصطفى عناني في مصر وجده وافيًا بالغرض؛ فاعتمده في تدريس هذا العلم , وأجل إتمام كتابه. أما مكانته من الشعر , وفنون الأدب , فيكاد لا يجهلها أحد , فقد صور شهامة العرب ومكارمها , وعواطف القلب البشري , وأهواء النفس في رواياته البليغة: السموأل والسباق، وذي قار، وفتاة الغار، التي تكرر تمثيلها , وشهدها الألوف من الناس؛ فراقهم حسن سبكها , وما رصعت به من الشعر الجزل , والأمثال الحكيمة التي للمسامع , والقلوب (كذا) . *** أثره الأكبر على أن للأستاذ أثره الخالد , وتأليفه الحي النامي الذي أبدعته عزيمته الماضية، وتعاهدت تنسيقه , وتنميقه قواه العقلية والبدنية تعضدها مزاياه النفسية من حزم , وثبات , وإخلاص، ذلك الأثر الذي اتخذ له من عقول النابتة وقلوبها صحائف حساسة أودعها ما شاء أدبه , وشاءت الوطنية والمدنية من كل علم وفضيلة , ثم هو لم يفعل بها فعل المؤلفين يجمعون صحفهم بين دفتين، بل فرقها في الآفاق تشع النور والعرفان، وتنمو , وتكثر ما تعاقب الملوان، وأضاء النيران (عنيت المدرسة) {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: ٤) . (المنار) يظن بعض الناس أن قصر مدة مجاورة الشيخ أحمد عباس في الأزهر يدل على أنه لم يكن من علماء الدين بكل ما في هذا اللقب من معنى، ونقول: إن اشتغال طالب العلم الذكي بتلقي العلوم الأزهرية بضع سنين , وتلقيه فيها عن علماء أذكياء كالشيخ المرصفي , وغيره من شيوخ فقيدنا كاف لتحصيل القدر الكافي من هذه العلوم الذي يمكن صاحبه من الإخصاء بنفسه في كل ما يريده منها , ولتحقيق كل مبحث يريد الإحاطة به من مباحثها , ولو أنه مكث بضع عشرة سنة في دراسة تلك الحواشي , والتقارير المعلومة , والغوص في مناقشاتها؛ لغرق في بحر من الخيال تتقاذفه أمواج الأوهام والشكوك , ولم يخطر في باله خدمة أمته بمثل ما خدمها به. وأما الذي أذكى مصباح استعداده للعمل والسعي للنهوض بالأمة فهو حضوره بعض مجالس السيد جمال الدين الأفغاني , ثم قراءته لصحيفة العروة الوثقى التي كان يصدرها هذا الحكيم بقلم مريده وصديقه الأستاذ الإمام رحمهم الله أجمعين.