(الوجه الخامس والخمسون) قولكم: قد قال أُبَيٌّ: (ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، فهذا حق وهو الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه فإن تبين له صار عالمًا مثله، وإلا وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به. فهذا هو الواجب علينا فى كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله - سبحانه - فوق كل ذي علم عليمًا، فمن خفي له بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم منه فقد أصاب , فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن، وآثار الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه، وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، وإن أوله: (ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه لها وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله , وتقولون: هو أعلم بها منا، فأَُبَيُّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق. ثم نقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هم أعلم الأمة، وأفضلها، ثم تركتم أقوالهم، وعدلتم عنها، فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم. (الوجه السادس والخمسون) قولكم: كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حي بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم، فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط. لم يكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم تكن المستفتين [١] لهم تعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا، أو فعل كذا ونهى عن كذا. هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين لهم فى ذلك، إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها. والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يُعَلِّمُوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه؛ هؤلاء بواسطة , وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه. فإفتاء الصحابة فى حياته نوعان: أحدهما كان يبلغه ويقرهم عليه فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم فهم فيه رواة لا مقلَّدون ولا مقلِّدون. (الوجه السابع والخمسون) قولكم: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: ١٢٢) فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم؛ جوابه من وجوه: (أحدها) أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل فى غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى الجهاد فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي. (الثاني) أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين وهم: الأمراء والعلماء أهل الجهاد، وأهل العلم , فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين؛ فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهنا للناس فى الآية قولان أحدهما: إن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين , واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن يكون عدد التواتر. والثاني: إن المعنى؛ فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم، بما نزل بعدهم من الوحي، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) وأيضًا فإن المؤمنين فى المقيمين مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والغائبين عنه والمقيمون مرادون، ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؛ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط. والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم؛ فلولا نفر إليه من كل فرقة منهم طائفة، وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين , وإخراج للفظ النفير عن مفهومه فى القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس فى الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم، بل هى حجة على فساده، وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة؛ فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر. كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأت بحجة فليس بنذير , فإن سميتم ذلك تقليدًا؛ فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم، وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن , فما وافق قوله منها قبل، وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه. فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه وذم أهله. (الوجه الثامن والخمسون) قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذته خليلاً) يريد: أبا بكر - رضي الله عنه - فإنه أنزله أبًا. فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه، وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله، وإنه ممن لا يقاس غيره به لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة لقوله. فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال، ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: إن الصديق أنزله أبًا متضمن للحكم والدليل معًا. (الوجه التاسع والخمسون) قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له: فلو لم يكن فى آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله، فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا، حجة شرعية، وقبوله تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا فسموه ما شئتم , فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجعله دليلاً على الحكام , فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه، وإطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام، وبالجملة فنحن: إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به؛ بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله , أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه. (الوجه الستون) قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم، والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، تعنون به أنه تقليد لبعض العلماء فى قبول أقوالهم، أو التقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم الأول؛ فهو باطل؟ وإن عنيتم الثاني؛ فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه! وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير من التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك، وهلم جرًّا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد، وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده. فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك، أو نحكم به، وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق، وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، وأقوال من عداه من جميع أهل العلم. ومن هذا الباب تقليد الأعمى فى القبلة، ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره فى طلوع الفجر، ويقال له: أصبحت أصبحت، وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة، والفطر، والصوم، وأمثال ذلك. ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة، والرسالة، والتعريف، والتعديل، والجرح كل هذا من باب الأخبار التى أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقًا. وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد فى الهدية، وإدخال الزوجة على زوجها، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة فى انقطاع دم حيضها لوقته، وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا فى الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا لها فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله؛ فضلاً عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم , ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة! ! ! لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))