قد تمت بهذا الجزء سَنَة المنار الخامسة وكان انتشاره فيها فوق ما كنا نرجو ونتوقع فقد زاد عدد المشتركين عما كنا نقدر بالقياس على السنين السابقة زيادة صالحة تجاوزت عدد جميع المشتركين في النسة الأولى والثانية. ثم إن نموّه المعنوي قد زاد أيضًا وتضاءل حزب الشيطان المعارض تضاؤلاً أو انحل انحلالاً وتنبه المسلمون إلى أن لهم مجلة دينية تخدم ملتهم بحق كما أن لسائر الأمم مجلات وجرائد دينية تخدم مللهم ونحلهم المتفرقة، نعم صار المنار موضع ثقة العلماء والفضلاء والعامة في بلاد العرب والعجم، وقد سبق القول بأنه صار يخطب به على المنابر، ويحتج به في المحاكم ويعتمد عليه في رد شبهات المعترضين على الدين، وإقامة حججه للمسترشدين. أشرنا فيما سبق إلى شهادات بعض أعلام المسلمين العارفين بالمصالح العامة كوزير مصر الأكبر رياض باشا وكمحسن عبد الملك بهادر وسيد مهدي علي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكيده (الهند) وبعض المجتهدين والعلماء في إيران، ونقول الآن: إن المنار ظفر برضاء كبار شيوخ الطريقة أصحاب النفوذ ونذكر كلمة لأشهرهم في بلاد مصر والسودان وهو الشيخ علي الميرغني زعيم الطائفة الميرغنية الكبيرة فقد كتب إلينا في ٢٩ ذي القعدة الماضي كتابًا يقول فيه: (ويسرنا أن نبلغكم مزيد سرورنا وارتياحنا لهذه المجلة القائمة بالخدمات الصادقة الجليلة للإسلام والمسلمين ونسأل الباري أن يكلل عملكم المفيد بالنجاح والفلاح. ولا شك عندنا في أن هذا أثر الإخلاص وحسن النية في العمل فهذه هي بضاعتنا التي لا ربح لنا في سواها والتي نرجو أن تكون مكفِّرة لجميع سيئات ضعفنا في العلم والتحرير وما يلزم عنهما من الخطأ والتقصير فإننا نتبرأ من حَوْلِنا وقوتنا إلى حول الله وقوته وهو نعم المولى ونعم النصير. كما نذكر تقريظ الفضلاء عملنا تحدثًا بنعم الله وشكرًا له ولعباده الأخيارالذين ينوهون بالمنار ويرغِّبون الأمة فيه نذكر انتقاد أهل الفضل مع الثناء والشكر أيضًا لأن حاجتنا إلى الأمرين واحدة إذ الفائدة واحدة وهي زيادة البصيرة في العمل، فإذا كان رياض باشا يثني على المنار في غيبتنا على مسمع الملأ ويقول في محفله الحافل: ينبغي لكل ذي إحساس ديني أن يقرأ المنار ويساعده فهو يذكر لنا إذا خَلَوْنَا به كل ما يراه منتقدًا وقد انتقد مما نشر في هذه السنة أمرين أحدهما الكلام في محمد علي باشا الكبير والثاني لاحقة سجلّ جمعية أم القرى التي فيها ما فيها من مساوئ الدولة العلية (أيدها الله) وقال: إن ذلك ليس من موضوع المنار ولا ينبغي له. وإذا كان الشيخ محمد محمود الشنقيطي ينوه بالمنار كثيرًا وسبق له تقريظه بقصيدة فهو يذكر لنا ما يراه أحيانًا منتقدًا وقد كنا ذكرنا انتقاده كلمة (الاستلفات) وتعدية التعزية بالباء داخلة على المعزَّى عنه، ونذكر الآن أنه انتقد ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: ٣٤) من حكاية قول للعلماء في أن الملائكة الموكلين بالعوالم الحية هم مِنْ قبيل القوى أو أرواح يكون بها نظام حياة تلك الأحياء ومن ذلك خواطر الخير في الإنسان، كما أن خواطر الشر من أرواح خبيثة تسمَّى الشياطين، نقلنا هذا القول من تفسير الأستاذ الإمام، وذكرنا في الهامش كلمة في المسألة للإمام الغزالي في كتاب شرح عجائب القادر، وقد سمى الأستاذ الإمام هذا الرأي في هذا النوع من الملائكة تأويلاً، بل ذكر ما يقتضي أنه من باب الإشارة إذ قال: (فيه إيماء إلى الخاصَّة) إلخ، ولم يجعله العمدة في تفسير الملائكة، وقد اشتبه هذا القول على كثيرين وتعلَّقوا به وغفلوا عن تصريح الأستاذ الإمام، بأن الواجب اعتقاده أن الملائكة خلق غيبي مستقل وأنهم فرق كما دلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: ١٦٥-١٦٦) وأول سورة الصافات والمرسلات والنازعات، ونرى أن سبب انتقاد الشنقيطي نقل ذلك القول - وإن كان من الإشارة إلى الخواصّ (وهو منهم) - هو أنه مثار لأوهام العوام وهو مصيب في ذلك. وانتقد مما نشر في هذه السنة أيضًا تشبيه النساء المهذبات بالملائكة الذي ورد في نصيحة للنساء (ج١٥ - ٥) وقد سرى هذا التشبيه إلينا من كتاب العصر الذي يكثرون منه، وهو تشبيه قديم كما يدل قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: ٣١) وإنما ينكره الأستاذ في الكوافر. وانتقد منه أيضًا افتتاح مقالة في الرد على كاتب نصراني بقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (المائدة: ١٣) إلخ، والآية نزلت في اليهود باتفاق، وإنما قُصِدَ بها الاقتباس لا التفسير. وقد فاتنا أن نذكر من قبل انتقاده ما جاء في بعض مقالات المحاورة بين المصلح والمقلد التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من ترجيح أحد المتناظرين حِلّ المتعة وقد رغب إلينا الأستاذ بأن ننشر احتجاج القاضي يحيى بن أَكْثَم على المأمون عندما أباحها ورجوع المأمون عن ذلك وسنفعل إن شاء الله تعالى، وعسى أن يتحفنا الأستاذ دائمًا بما يراه منتقدًا في المنار ونعده بأننا نتقبل ذلك بقبول حسن ونشكره أفضل الشكر. وههنا ننبه جميع العلماء إلى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كاد يضيع الدين بإهمالها ولا ترجى حياته إلا بالقيام بها، وندعو من يطلع على المنار منهم إلى تنبيهنا على ما يرونه خطأ بالقول أو الكتابة، ومَنْ أحب منهم أن ينشر انتقاده معزوًّا إليه؛ فإننا ننشره له مقرونًا برأينا فيه مع الأدب والشكر وليس من شأن أهل الدين أن ينكر الإنسان عمل أخيه في غيبته، ويكتمه عنه، وإننا نسمع عن بعض الذين يطروننا ويطرون المنار أمامنا كلامًا لا يُرضي، هذه شَنْشَنْة المنافقين وشرّ الناس يوم القيامة عند الله ذو اللسانين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه كما في حديث أحمد والشيخين. من الناس مَنْ يعتذر عن نفسه في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الناس لا يقبلون أو بأنهم يؤذون من يأمرهم وينهاهم بالقول أوالفعل، وها نحن أُولاء نقول على رؤوس الأشهاد: (إن أمنّ الناس علينا وأحقَّهم بالشكر منا من يدلنا على ما يراه خطأ في المنار فمن يدعي أن في المنار خطأ في المسائل الدينية أو غيرها، ولم يذكره لنا قولاً أو كتابة فهو فاسق بتركه فريضة النهي عن المنكر من غير عذر وعلى الناس أن يستدلُّوا من قوله على أنه فاسق أو منافق ومن كان كذلك لا يقبل له قول في العلم والدين) . روى ابن عدي والحاكم عن أنس وغيرهما عن غيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن هذا العمل دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: ٦) . لا نلحّ هذا الإلحاح في حمل الناس على انتقاد المنار إعجابًا به وتوهمًا أنه يعلو عن الانتقاد، ولكن حرصًا على بيان الحق الذي نطلبه واستعانة عليه بأنصاره، والراغبين في إعلاء مناره، ونقول هنا ما قاله الأستاذ الإمام: (إنه ما من أحد بأصغر من أن يُعِين ولا أكبر من أن يُعان) . ونَعِد القراء بأن سنزيد المنار إتقانًا في السنة السادسة فنجعل ورقه أجود من هذا الورق ونتحرى المباحث التي نراها أكبر فائدة وأكثر نفعًا. وفي النية العَوْد إلى التوسع في باب العقائد وباب (آثار السلف عبرة للخلف) وفي مباحث آداب اللغة مع الاستمرار على نشر التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية والعود إلى باب (البدع والخرافات والتقاليد والعادات) وربما نجعل البحث في شئون النساء، وما يتعلق بهن من أمر الزواج والبيوت بابًا يطرق في أكثر الأجزاء. وإن أجلَّ تحفة نتحفهم بها في السنة الجديدة تلك المقالة أو المقالات التي وعد بها ذلك الإمام الحكيم صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي يبين فيها كيف تكون البدع التي رجعت بالمسلمين القهقرى هي السبب في حياتهم الملية المستقبلة. ونختتم المجلد الخامس بحمد الله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وآله وصحبه ومَنْ والاه.