للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الوحدة العربية
ودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية

قويت في هذا القرن وحدة الأجناس، ولا سيما الذين يجمعهم وطن واحد،
ويتعارفون بلغة جامعة، وتوجهت همم المشتغلين بالسياسة والشؤون العامة إلى
ترقية أقوامهم وجمع كلمتهم ووحدة حكومتهم، وكان من أمر العرب التابعين للدولة
العثمانية في ذلك ما فصلنا القول فيه من قبل.
ونقول الآن: إن ثورة مكة المكرمة وإعلان أميرها الحسين بن علي الخروج
على متغلبة الاتحاديين الطورانيين، ثم على دولة الترك بجملتها في عهد الحرب
الأوربية، بل البشرية الكبرى قد أطمع بعض أهل الغيرة والإخلاص من العرب
باتخاذ ذلك وسيلةً إلى جمع كلمة عرب الجزيرة والاستعانة بوحدتهم واتفاقهم على
إنقاذ عرب سورية والعراق من ظلم الاتحاديين واضطهادهم إياهم في زمن الحرب،
والتعاضد معهم بعدها على ما يرتقي به الجميع سواء انتصر أحلاف الدولة العثمانية
وظلوا مرتبطين بها، أو انكسرت بانكسارهم وفصل بينهم وبينها، وزاد في طمعهم
هذا إعلان الزعيم العربي الثائر أن ثورته عربية جنسية لا تفرق بين المسلمين
وغيرهم من العرب، ومما نقل عنه وعن أنجاله قواد جيوشه، وانتشر في جميع
الأقطار التي يقطن فيها الناطقون بالضاد قوله: إننا كنا عربًا قبل موسى وعيسى
ومحمد , أي: فيجب أن نقيم وحدتنا العربية التي كانت قبلهم، صلوات الله وسلامه
عليهم، فلا تكون مللهم حائلةً دون ذلك.
لهذا سعى إليه بعض هؤلاء الطامعين في جمع الكلمة بأن يعقد اتفاق بين
شريف مكة , والأمير ابن سعود صاحب نجد , والإمام يحيى صاحب اليمن ,
والسيد الإدريسي صاحب عسير على قاعدة الاعتراف لكل منهم باستقلاله في بلاده،
والتعاون بينهم على دفع العدوان الأجنبي ورفع شأن الجنس العربي في بيان كان قد
وضع قبل الحرب، ووصل خبره إلى الشريف بعد إيصاله إليهم واستحسانهم له،
والعلم برغبتهم في الوقوف على تفصيله، والبحث في طريقة تنفيذه، ولم يعلم رأيه
فيه قبل الثورة، ولما عرض عليه بعدها وقد ظهرت شدة الحاجة إليه، وسئل أن
يشرع في تنفيذه، قال: إن سعيه إليه يحمل عندهم على خوفه من الترك وقصد
الاستعانة عليهم لا على الإخلاص، وأنه يرى تأجيله إلى أن يفتح المدينة المنورة ,
ولا يبقى للترك شيء في الحجاز، ولكن روى عنه بعض عماله أنه تكلم بعد هذا
السعي في المسألة، فقال كلامًا حاصله احتقار أولئك الأمراء والأئمة وكون سلطتهم
اليوم ستزول غدًا، أي: سيزيلها هو.
ثم صرنا نرى في أعداد تلقى إلينا من جريدة القبلة (بعد قطعها المبادلة مع
المنار على إثر منع الحكومة الهاشمية دخوله في الحجاز) مقالات ومنشورات في
الطعن في أهل نجد، والدعوة الدينية إلى قتالهم، ثم بلغنا خبر إرسال حكومة مكة
الهاشمية الحملة بعد الحملة لقتال الشريف خالد في الخرمة، ثم بلغنا بعد تسليم
المدينة المنورة بأشهر خبر القتال بين الجيش الذي كان محاصرًا لها، وبين
النجديين أنفسهم، فكان ذلك مثار حزن شديد في قلبنا وقلب كل عربي يحب وحدة
قومهم واتفاقهم، وكل مسلم يكره التعادي والتقاتل بين أبناء دينه , بل ذلك مما يحزن
كل شرقي يكره أن يستعبد الغربيون الشعوبَ الشرقية، وأن تكون هذه الشعوب هي
التي تمهد لهم السبيل إلى ذلك بتعاديها وتقاتلها، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم.
وإننا نثبت في هذه الفصول التاريخية المحزنة ما نشر في جريدة القبلة من
ذلك، فمنها المنشور الرسمي الذي صدر به عدد القبلة الذي صدر في غرة ربيع
الأول من هذه السنة ننقله عن الجرائد، وهو:
منشور ملك الحجاز
أعلنا في منشورنا الصادر يوم الأربعاء ٩ شوال سنة ١٣٣٦ الذي نشرته
(القبلة) في عددها ٢٠٢ الصادر يوم الخميس ٢٤ شوال سنة ١٣٣٦ عن البدع
والزيغ الديني الذي تلقنه أهل الخرمة - القرية المعروفة الكائنة في شرق مكة
المكرمة، وفي الشرق الشمالي من الطائف , وتبعد عنه نحو الثلاثماية فرسخ - من
بقايا منتحلي العقيدة الوهابية من ساكني بعض قرايا نجد المكفرين لكل العالم
الإسلامي بالاحتمالات المعلومة الساقطة عقلاً ونقلاً، التي من جملتها زيارة روضته
صلوات الله عليه وسلامه، كما يشهد عليهم اجتناب كل فرد ينسب إلى اعتقاد تلك
الأضاليل لزيارته صلوات الله عليه وسلامه، وكشارب التنباك وحامل السبحة،
ونحو ذلك، وأن لابد للرجل أن يعترف بأن أباه وجد جده ماتوا على غير الإسلامية ,
وها أن مجتهديهم قد أتونا في هذه المرة أيضًا بتكفير من يضحك أو يروي الشعر أو
من يحدو، إلى غير ذلك من الأباطيل التي تبين ماهية علمهم، وكوقوعهم فيما يرمون
به أهل السنة والجماعة باعترافهم على أنفسهم بالنفع والضر بالعصا، بقولهم: إنها
تنفع وتضر، ومحمد زاده الله شرفًا وتعظيمًا. . . إلخ، وجهلهم أن معاشر أهل السنة
بصرف النظر عن أنهم لا يقولون بذلك - والعياذ بالله - فإنهم يعتقدون ما هو أعم
وأبلغ مما تزعمه المبتدعة المذكورة، كاعتقادنا بأن الماء لا يروي والطعام لا يشبع
والنار لا تحرق، ولا تقطع السكين إلا بقدرته وإرادته جل شأنه وعلا، وإننا لا نريد
إلا فيما أراده الصديق الأكبر والفاروق الأعظم - رضوان الله عليهما - من الإلحاح
في دفنهما عندما أدرك كلاًّ منهما الأجل عند قدميه الشريفين صلوات الله عليه
وسلامه، وهذا على سبيل الاختصار، فليتأمل.
وعليه، وعلى ما أشرنا إليه في منشورنا البادئ الذكر أعلاه من عزمنا على
الرفق في معاملاتهم، والتباعد عن كل ما يؤدي إلى سفك الدماء وصيانتها، ولكن
أبت تلك الضلالة وذلك الزيغ عن منتحليهما إلا الإصرار على المقاومة، كما يعلم
من الوقائع التي نشرتها جريدة (القبلة) من قبيل الحوادث، ولتجاوز جرأتهم
بواقعة يوم السبت الماضي الموافق ٢٠ صفر سنة ١٣٣٧ على مركز المؤن الكائنة
في (عشيرة) وتشجيعهم بالمدد الوارد إليهم من إخوان بدعتهم برفق سلطان بن
بجاد المعروف لديهم بسلطان الدين، وغيره من عرفائه، رأت الحكومة - وهي لا
تشك بأنها في ضمن قوله صلوات الله عليه وسلم: يؤجر المرء رغم أنفه [١]- أن تقوم
بمقابلة أولئك المبتدعة بالمثل مباشرة، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن كافة
المسلمين مع مراعاة الرفق أيضًا لمحو هذه البدعة خدمةً للدين، وتنزيهًا له مما في هذا
الزيغ والضلال , وسلامة البلاد من سيئاته، والله ولي التوفيق اهـ.
في هذا المنشور تصريح بأن التخاصم كان أولاً بين الخرمة وحكومة الحجاز،
كما تقدم في أول هذه الفصول، وأن أهل الخرمة ساعدهم غيرهم بعد ذلك، وما ذكر
في المنشور من بدع الوهابية نسب إلى بقايا منهم في بعض قرى نجد، وهذا لا يبيح
إطلاق القول في تكفير أهل نجد كلهم ولا جملتهم ولا يبيح قتالهم، وإنما على حكومتهم
أن تنظر في أمر من ضل منهم، وإن صحت الرواية على ظاهرها.
وقد اطلعنا على منشور صدر بعد هذا العدد الذي صدر من جريدة القبلة في ٨
جمادى الأولى ووقع أعلاه (باسم الحسين بن علي) وهذا نصه:
منشور كريم
بسم الله الرحمن الرحيم
] وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [[*]
الحمد لله رب العزة، من استهدى به هداه، ومن توكل عليه كفاه، والصلاة
والسلام على خيرته ومجتباه، وآله الطهر، وأصحابه الميامين الغر، ما كمد حسود
وجحود.
أما بعد فقد ضاق ذرع حسادنا، ونضبت جعبة تلفيقات مخترعات إفكهم،
فأصبحوا لا يجدون ما يقولون، ولا يفقهون بما علينا به يفترون، إلا إشاعتهم في
هذه الخطرة بأن العرب مختلفو الرأي متفرقو الكلمة، أدى بهم اختلافهم إلى
القتال وشبوب نار حربه بينهم؛ لإثبات عدم كفائتنا معاشر العرب أمام العالم الذي
أعلن - والثناء لله - ثقته بنا وحسن ظنه فينا إلى الدرجة التي لا نرى من حاجة
للبحث عنها، كما أنا لا نرى أيضًا البحث عن تلك المختلقات الساقطة بطبعها
بالوفود الذي لا يخلو شهر من قدومهم علينا من أقاصي البلاد على مرأى ومشهد
العامة إلا إن أرادوا تجدد دعوى مبتدعة الوهابية المذكورة الذين نشر أمرهم غير
مرة على صحائف (القبلة) فنحن نحرر منشورنا هذا علاوةً على ما سبق؛ ليعلم
القاصي والداني بأنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئتهم، فلا بد
للسلطان من قتالهم بكل موجوديته، ويعتبره من أشرف الوظائف وأهمها مصلحة
لا لإرادة ملك أو حرصًا على رياسة كما بيناه في الحفلة العمومية الأخيرة، وصرحنا
لمن حضرها بأنكم إن رأيتم من هو أرشد وأصلح مني للأمر، فهذه يدي ممدودة
لعهده، وأيدنا قولنا هذا بالحجج المعلومة لدى حضارها، ولكن يقاتلهم للقصد والغاية
التي زحفت من أجلها على مركزهم جيوش مولانا محمد علي باشا الأكبر طاب ثراه،
ولسلامة وصيانة البلاد من كفر وفسوق وعدوان أمثال هذه الخارجة، وشوائب
خروجهم عن الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن تكفيرهم لمن سواهم من العالم
الإسلامي، ونيلهم من سيد الأولين والآخرين مَن وَصَفَه جلت قدرته بأنه عزيز [٢]
عليه، وأنه رحمة للعالمين، فتبجحهم بقولهم: إن العالم سيبعث شاء المولى أو لم يشأ
- والعياذ بالله - وهو عز من قائل يقول: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:
١٧) نعم - قتل الإنسان ما أكفره - إلى قوله عظمت قدرته: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (عبس: ٢١-٢٢) الآية، كفاية للمتبصر، لا يبقى بعد هذه
المجاهرة بهذه الشناعة متأمل، فليعتبر وليتهم بعد أن اعتقدوها وأمثالها أكنته
صدورهم، لينظر إليهم كسائر المنتحلين والمعتقدين من المسلمين وسواهم (كذا)
ولكنهم تظاهروا بها، وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها،
وبدأوهم بالقتال، واستحلوا أموالهم وأنفسهم، فكيف لا يقال والحالة هذه بقتالهم، أم
كيف نتحاشى عن إعلانه بمنشورنا على صحيفة القبلة أولاً , ثم إردافه بأنا على ما
قلناه وصرحنا به المرة بعد الأخرى بأن مبايعتنا بالذات أو بالواسطة إذا رأوا المصلحة
في سوانا، فهذه أيدينا وأولادي لعهد من يريدونه مبسوطة، وإن لم نكن كذلك فنبرأ من
الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ونكن من الذين عليهم لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، وهذا منا كما يعلم الله سبحانه وتعالى حرصًا على رابطة جامعة
أقوامنا أن يفتنهم الأُجراء ومبغضو تجدد مجد وسؤدد علياء الأسلاف باتهامنا ونسبتنا
بحب الرياسة والحرص على الجاه، وهو العليم الخبير، فلا تسألون عما أجرمنا، ولا
نسأل عما تعملون اهـ. في ٥ جمادى الأولى سنة ١٣٣٧.
(المنار)
هذان المنشوران الرسميان قليل من كثير مما نشرته جريدة القبلة التي
هي لسان ملك الحجاز باسمه واسمها في تكفير الوهابية أو النجديين، والدعوة إلى
قتالهم باسم الدين تارةً، واقتداءً بمحمد علي باشا تارةً أخرى، ومن العجيب أن
يسمي ملك الحجاز (محمد علي) مولاه!! ويجعله قدوةً له في قتال أهل نجد، بناءً
على أنه قتال لا يطلب به ملك ولا جاه، كأن محمد علي من الخلفاء الراشدين المهديين
الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين!! فعسى أن يراجع تاريخ
الجبرتي المعاصر له الذي كان يدون أخباره عند حدوثها يومًا بعد يوم ليعلم مبلغ علمه
بالدين وعمله به، وأن يقرأ قانونه (قانون الكرباج) الذي طبع في المطبعة الأميرية
منذ أول العهد بتأسيسها، وهو مع هذا يتكلم في تكفير القوم بلسان العالم المستدل،
ومحمد علي كان أميًّا لا عاميًّا فقط، ويتكلم في وجوب ذلك عليه باسم من ولي إمامة
المسلمين، وخلافة نبيهم صلى الله عليه وسلم ليقيم دينهم، وينفذ أحكامه وحدوده في
المرتدين والبغاة، ومحمد علي كان واليًا لمصر من قِبل السلطان العثماني وبأمره
حارب الوهابية، وملك الحجاز اليوم كان أميرًا من قِبل السلطان العثماني على الحجاز
بسلطة محدودة، فخرج عليه موالاةً لدول الحلفاء، وسمي ملكًا للحجاز باعترافهم له،
ولا يزال الحجاز بحسب القانون الدولي من بلاد الدولة العثمانية، ولن يزال كذلك
حتى يعقد الصلح بين الحلفاء وبين الدولة العثمانية، ويفصل فيه بأمر الحجاز.
وأما أهل نجد فهم مستقلون منذ قرون كثيرة، وحاكمهم يسمونه إمامًا، وما
نظن أنهم يبايعونه بالإمامة (أي: الخلافة) كما يبايع أهل اليمن أئمتهم، وحكومتا
اليمن ونجد شرعيتان، والحكومة العثمانية قد اعترفت باستقلال إماميهما، وليس
فيهما قوانين وضعية، ولا معاهدات تقيدهما بقيود غير شرعية، فإن خرجت
إحداهما عن الشرع، أو ارتد أهلها كلهم أو جلهم عن الدين (فرضًا) فأجدر
بالأخرى أن تكون هي تقيم حكم الله فيها.
وأما تصدي ملك الحجاز - الذي بينا صفة حكومته - لمثل ذلك بمساعدة
حلفائه وأوليائه، فلا يخفى حكمه، وهو يستلزم أن يقاتل أهل الشام إذا تم لهم ما
يطلبونه من الاستقلال دونه، وإنشاء حكومة مدنية إذا خالفت حكومتهم الشرع في
بعض أصوله، وكذا بعض فروعه المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وهو
لا يستطيع ذلك مهما تكن الحالة التي يقر أمر حكومته عليها مؤتمر الصلح، بل ليس
للمسلمين إمام في هذا العصر يستطيع أن يقوم بالأمر الذي تدعو إليه هذه المنشورات
الحجازية، فلم يبق إلا أن المسألة يراها جمهور المسلمين مسألة تنازع وتقاتل بين
طائفتين متجاورتين من المسلمين تكفر كل منهما الأخرى، والواجب إذًا على أصحاب
الاستطاعة منهم أن يحكموا فيهما قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} (الحجرات: ٩- ١١) .
والمسلمون المستقلون القادرون على هذا هم جيران الحجاز ونجد من أهل
اليمن وعسير، فالمطالَب بذلك شرعًا إمام اليمن والسيد الإدريسي صاحب عسير،
وأما مسلمو سورية والعراق فهم خاضعون الآن لأحكام دول الحلفاء العسكرية،
فليس لهم حرية ولا قوة على عمل شيء باسم الإسلام، ولا باسم الوحدة العربية،
وهمهم في هذه الأيام محصور في درء خطر الاستعمار الأوربي عنهم، ويتمنون لو
يتفق على الوحدة الوطنية مؤمنهم الصادق وملحدهم المجاهر والمنافق، واليهودي
والنصراني، والدرزي والنصيري والإسماعيلي، وإنه ليوجد في مسلمي العرب
ملاحدة كملاحدة الترك من الاتحاديين وغيرهم، ومنهم من يصرحون في خطب
يلقونها ومقالات ينشرونها على الجماهير بوجوب جعل الدين الإسلامي محصورًا
في المساجد لا يتجاوزها إلى دواوين الحكومة أو المحاكم، فما يفعل بهؤلاء مَن
يقاتل الوهابية إقامةً لأحكام الدين؟
وقد نقل إلينا عن هؤلاء الوهابية وعن بعض الحجازيين والترك وغيرهم
أن أمراء مكة من الشرفاء لهم قانون سري وضعه لهم جدهم (أبو نميّ) قد شرع
للشرفاء فيه أحكامًا خاصةً بهم تصادم الكتاب والسنة وما أجمع عليه جميع المسلمين،
ككون الشريف منهم إذا قتل يقتل به أربعة من قبيلة القاتل، وغير ذلك من
الأحكام التي تبيح لهم من أموال الناس ودمائهم ما حرمه الله تعالى، ويدعي
هؤلاء الوهابية أن ملك الحجاز الذي قام يناوئهم يدين بهذا القانون وينفذ أحكامه،
وأن هذا كفر بإجماع المذاهب الإسلامية كلها، وأنه هو يعاقب بالقتل والصلب
والقطع ومصادرة الأموال من غير محاكمة ولا حكم شرعي ولا غيره، وأن
استباحة ذلك كفر صريح بالإجماع.
فالذي ينبغي لمن يتصدى لإصلاح ذات البين أن لا يقبلوا كلام أحد الفريقين
في الآخر، ولا يسمحون له أن يتحكم في عقيدته ومذهبه بالقوة، بل تؤمَّن البلاد
ويجعل الفصل للحجة والبرهان، لا للسيف والسنان.
وأما ابن سعود فلم يبلغنا عنه شيء في مقاومة صاحب الحجاز، إلا ملخص
المنشور الذي أرسله إلى بلاد الشام بعد إعلان حكومة دمشق طلب التطوع لإنشاء
جيش الحجاز، وهذا نصه:
خطاب ابن سعود لأهل الشام
خطاب إلى حضرات كبار ورؤساء (روحيين ومدنيين) أهالي بلاد الشام
مسلمين وسواهم ممن تلزمه الحجة ويتناوله التكليف، السلام عليكم ورحمة الله
تعالى وبركاته.
لقد بلغنا عنكم ما لا يوافق صالحنا وصالحكم، ولا ينطبق على الحق والعدل،
ولذلك فرضنا إلى أحد مريدينا أن يلقي إليكم برسالتنا هذه، وهي في مقام شكوى
وتذكير، فنقول:
إنكم تعلمون أننا منذ مئات من السنين قابضون على زمام حكومة نجد
(وتوابعها) أبًا عن جد مستقلين لا ينازعنا فيها منازع، وليس لدولةٍ ما أدنى
علاقة بديارنا سوى العلاقة الودية التي نتجت عن تحسس ديني لخليفة المسلمين
بالآسانة، والتي أوجبها ورعنا وورع آبائنا العظام، على حين أن بلاد الحجاز
كبلاد الشام كانت في ملكية الدولة العثمانية، حتى جاءت الحرب العامة وانتهت
بما ترونه من تشتت شمل الأمة وتمزق وحدة الملة، وكان ما كان في تلك الأثناء
من أمير مكة المكرمة مما لا شأن لنا به لو أنه قصر عمله وفعلته على الحجاز،
ولكنه - جازاه الله بعمله - عقد عقودًا وأبرم مواثيق رمى بها سائر الأقطار
العربية إلى مهاوي الهلاك، وهي - كما تعلمون - منبع الإسلام، فطوح بها إلى
حضيض الذل والهوان بعد أن عزت آلافًا من الدهور.
إلى أن قال: ذلك تجاوز منه وجرأة على الله والأمة، وأنى له هذا الحق؟
والبلاد العربية فيها ممالك مستقلة ذات خيرات ومبرات وملوك وسلاطين منحدرين
عن أصلاب طَيِّبَةٍ وأرحام طاهرة، هم سادات وأشراف أثبت منه نسبًا وأكرم حسبًا.
هذا، وقد آلينا على أنفسنا - نحن المتحدون بالله وإلى الله - أن لا نرجع حتى
يرجع الحق إلى نصابه، ويشهد الله أن ذلك ليس منَّا انتصارًا لدولة، ولا طمعًا في
توسيع مُلك.
نحن نعلم أن ذلك الأمير يلفق علينا مقولات ويرمينا بالمروق عن الدين
ويدعونا وهابيةً؛ ليستفز ثائرة المسلمين علينا ويجمع الجند منهم ويقاتلنا بهم، فيريد
بذلك نشر الفتنة وتعظيم الخلاف.
فيا أبناء الشام وأهل باب كعبة رب الأنام، نحن مثلكم مسلمون مؤمنون
موحدون، ندين بدين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم، ونقر
بترتيب الأصحاب كما جاءوا في الحكم والاستخلاف، ونقلد في عباداتنا الإمام
الأعظم أحمد بن حنبل , ونعترف أن إخوته الأئمة الباقين هم مثله في العظمة
والصدق والصحة، فحذار ثم حذار أن يغركم ويفسدكم ويفتنكم، فتعطوه جندًا
ومالاً، فما أمامكم إلا إخوتكم في الله يجاهدون في الله،ولم يسبق بيننا وبينكم عداوة
ولا نحن طامعون في بلادكم، فبلادكم تعلمون مصيرها، فخلوا بيننا وبينه ليزول
الأعجل، ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً، أما إن كانت لكم كلمة نافذة فاصرفوها في
سبيل إحقاق الحق.
وبعد، فإن من يتجند إلى قتالنا، فحسبنا الله عليه، والسلام على من سمع،
فوعى.
... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود
***
(تذكير المنار للفريقين)
أيها العرب الكرام ليس هذا الوقت وقت التفرق والانقسام والتقاتل بدعوى
تأييد الإيمان وإقامة الإسلام، بل هذا وقت يتفق فيه الأقوياء من دول أوربة على
تقسيم بلاد العرب كلها، ووضعها تحت سيطرتهم، حتى إن حياتها ومعيشتها تكون
رهن أيديهم.
تذكروا أن جميع الممالك العربية التي زالت وزالت دولتها ما زالت إلا
بتخاذل أمرائها وزعمائها، كذلك كان زوال ملك العرب بالأندلس والجزائر
ومراكش وتونس وكذلك زالت أكثر ممالك الشرق في الهند وغيرها، خربوا
بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار.