قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) باتفاق الآراء انتداب هذا العاجز منشئ (المنار) لإلقاء دروس دينية في الاجتماع العمومي الأسبوعي للجمعية، فتلقيت أمر المجلس بالامتثال، بل أديت فرضًا عليّ لأمتي وملتي، وكان إلقاء الدرس الأول في ليلة الاثنين الماضية، وبعد الفراغ منه اقترح عليّ وكيل الرئيس أن أنشر ملخص هذه الدروس في (المنار) ليكون تذكرة للإخوان، ولينتفع به من لم يحضره، لا سيما شُعَب الجمعية في خارج القاهرة، ورأيت الحاضرين ارتاحوا لهذا الاقتراح، فتلقيته بالقبول، وهاؤم اقرءوا ملخص الدرس الأول. (الدرس الأول - تمهيد ومقدمات) ابتدأت بالبسملة والحمدلة والتصلية والدعاء، ثم قلت: (١) الدين: لم يبق سمع لم يطرقه الكلام في الشكوى من حال الإسلام، وأن علاج ما نحن فيه من البلاء المبين هو الأخذ بتعاليم الدين، مقتفين آثار أسلافنا الأولين، فما هو الدين؟ عرَّف الدينَ علماؤنا بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال وفلاحهم في المآل، فهل ينطبق علينا هذا التعريف؟ هل نحن ناجحون في الدنيا؟ كلا إننا أمسينا وراء جميع الأمم والشعوب، فاليهود الذين لا سلطة لهم يفوقوننا بالعلم والثروة وارتباطهم بالإخاء المِلِّي، والوثنيون في الهند سابقون للمسلمين في الفنون والصنائع، والأخذ بزمام الأحكام، ولقد كانت السيادة للمسلمين عليهم في كل شيء مع كونهم أقل منهم عددًا، وإلى الآن لا يقدر الوثنيُّ على بلوغ شأو المسلم إذا هو جاراه، ولو صرخ مسلم بمائة وثني لَوَلَّوا منه فِرَارًا ولَمُلِئوا منه رعبًا؛ بسبب ما بقي له من آثار وراثة أسلافه، من العجيب أنه لا يوجد شعب إسلامي ناجح مع أن النجاح داخل في مفهوم دينه. عدم انطباق تعريف الدين علينا يدل على أننا لسنا على الدين، لا أقصد بهذا أن كل من ينتمي للإسلام ليس على الإسلام، وإنما أريد به ما تدل عليه المشاهدة من أن مجموع المسلمين منحرفون عن تعاليم دينهم القويمة التي تؤدي بطبيعتها إلى النجاح، وتستلزم الفوز والفلاح، كما وقع لأسلافنا الذين سبقونا بالإيمان. صرَّح التعريف بأن الدين يوصل ذويه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فعدم وصولنا لإحدى السعادتين دليل على أننا لا نصل إلى الأخرى أيضًا؛ لأنه ناشئ عن عدم أخذ الدين على وجهه الصحيح، القياس جلي ظاهر، وسنزيده تفصيلاً عند الكلام على فروع العبادات والحكمة فيها، ككون الصلاة المَرضية عند الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكفوائد الزكاة الاجتماعية، وغير ذلك (توسعنا بهذه المسألة في الدرس) من التعاليم الفاسدة الزائغة بيننا، قول عامتنا وخاصتنا فينا وفي المخالفين لنا في الدين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، وهذا مخالف لصريح القرآن، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: ٣٢) فقد جعل الله الزينة والطيبات للمؤمنين بالاستقلال، ولولا أن قال: {خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) لما عُلِم أن غير المؤمن يستحق شيئًا منها، أليس من الجهل الفاضح أن نزعم أن ديننا هو الذي قضى بحِرْمَانِنا من سعادة الدنيا، أي جناية على الدين أشد من رجوع أهله به إلى ما هو أشبه بحالة الرهبانية الأولى من الإفراط في الزهادة والخمول ومخالفة القرآن؟ إن الديانة الإسلامية وعزة الدنيا وسلطانها توأمان، ارتفعا معًا وانْحطَّا معًا، ولا يمكن لنا أن نحفظ ديننا إلا بالثروة وبسطة العلم والسلطان، وأن تلك التعاليم المخالفة لهذا المنهاج القويم هي التي أوقعتنا في الرجز الأليم. (٢) التعليم: إنما يؤخذ الدين بالتعليم، كذلك تلقاه النبي عن الروح الأمين، وكذلك تلقاه عنه الصحابة وهكذا، كان التعليم بالقول والعمل، ثم صار بعد ذلك صناعة، والصناعات تقوى بترقي العمران، وتضعف بتدليه، وقد ضعف عمراننا؛ فضعف تعليمنا حتى كاد يكون فهم الدين منه متعذرًا، إن دين الإسلام هو دين الفطرة، وهو أسهل الأديان تعقلاً، وأقربها مثالاً، وأسهلها على النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعثتُ بالحنيفية السمحة، ليلها كنهارها، وكان الأعرابي يتعلم الدين من صاحبه في مجلس واحد، وإننا نرى اليوم الذين يقدمون لتأدية امتحان التدريس في الأزهر، يخرج الكثير منهم مجروحًا في العقائد والفقه والتفسير، ويكون قد قضى في الأزهر نحو عشرين سنة ولم يفهم الدين، فإذا كان التعليم محصورًا في الطريقة الأزهرية، فمتى يتأتى تعميمه بين المسلمين؟ ترون في الجرائد آنًا بعد آن خلقًا كثيرًا قد دخلوا في الديانة الإسلامية، وأن سبب دخولهم فيها هو سهولتها وتعقل عقائدها وأحكامها، سبب متفق عليه بين الجرائد الأوروبية والجرائد الإسلامية، هذا وإن الدين لم يبق على سذاجته الأولى؛ لأن أحكامه امتزجت بمسائل الفنون الحادثة في المِلَّة، ووجد في كتبه ما يتبرأ الدين منه، فما بالكم لو كان الدين وأهله في هذا الزمن الذي اتصل به العالم بعضه ببعض على ما نعلم من حالهما في النشأة الأولى. (٣) البصيرة في الدين: لا يؤدي الدين إلى غايتيه اللتين ذكرناهما ما لم يكن الآخذون به على بصيرة فيه، فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) ولا يكون الإنسان على بصيرة فيه إلا إذا كان موقنًا بعقائده لأخذها ببراهينها، ومذعنًا بأن أحكامه وآدابه موافقة لمصلحته ومصلحة الأمة كلها إذعانًا يمازج روحه، ويخالط وجدانه بحيث يصدق عليه قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: ٢٢) ولا يتناوله الويل المشار إليه بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزمر: ٢٢) العلم بالدين على هذا الوجه لا نصيب منه لأهل التقليد الذين يعتقدون لأن قومهم اعتقدوا، ويعملون لأن أباهم أو شيخهم عمل، وقد عاب الله تعالى في كتابه هذا الفريق من الناس في آيات كثيرة، فإن قيل: إنك تحاول بهذا أن يكون كل فرد ولو أميًّا عالمًا دينه بالدليل والبرهان، وهذا لم يحصله إلا القليل ممن انقطع للعلم الديني، فكيف يحصله بتعليمك حتى الصناع والزراع؟ أقول: إن المنقطعين للعلم إنما يتناولون الدين من كتب يتوقف فهمها على إتقان علوم وفنون كثيرة لا يتقنها إلا قليل منهم، لسوء أساليب التعليم، بل إنهم أهملوا المهم منها، كالتفسير والأخلاق، وعلم النفس والاجتماع، وتركوا تطبيق العلم على ما في الوجود، إذا أنا قرأت لكم العقائد بالبراهين المنطقية فلا شك في أنه لا يستفيد منها إلا نفر قليل، ما لي وللقياس الاقتراني والاستثنائي، ولبرهان التطبيق والخلف، أنا أحب أن أشرح المسائل بعبارة يفهمها كل سامع، وأقيم عليها الأدلة الواضحة التي تتقبلها العقول، وتشربها القلوب، وتسكن إليها النفوس بحيث يكون متناولها على نور من ربه، فلا يرجع عنها ولو رجع جميع العالمين، وبهذا القدر يخرج من مضيق التقليد المذموم الذي هو الأخذ بقول الغير بغير بصيرة. (٤) قواعد الدين: شرع الله الدين لتصحيح العقائد وتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال، فمقاصد علوم الدين ثلاثة، أما علم العقائد فخصصوا مباحثه في ثلاث قواعد (١) ما يعتقد في الله تعالى و (٢) ما يعتقد في الأنبياء والرسل و (٣) ما يعتقد تفصيلاً في عالم الغيب، أي ما جاء به الدين من الأخبار التي لا تعرف إلا بالسمع، كوجود الملائكة والجنة والنار إلخ، يجب الاعتقاد بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعُلِم من الدين بالضرورة غير مختلف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، والحسد والكبر، فمن كان لا يعتقد بهذه الأشياء لا يكون مسلمًا، وإنما قصروا علم العقائد على القواعد الثلاث؛ لأن سائر ما يجب اعتقاده يبحث عنه في العلوم التي تبين أحكامه بالتفصيل، وسيأتي كل شيء في محله إن شاء الله تعالى. هذا مجمل الدرس ومن حضره يتذكر منه التفصيل، والله الهادي إلى سواء السبيل. ((يتبع بمقال تالٍ))