للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة
بسم الله الرحمن الرحيم
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} (الرحمن: ١-٣) ، فله الحمد
أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم على نبيه الرؤوف الرحيم،
الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك
أئمة وكانوا هم الوارثين.
الإنسان يمتاز بالعلم وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة. واللغات تتفاضل في
حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون
أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق
وسهولة اللفظ والإلقاء والخفة على السمع.
وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح،
يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم،
وضرب في أساليبها بسهم، ومن آية ذلك لغير العارف أن أولئك الشراذم والأوزاع من
أهلها قد حملوها إلى الأمم، التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها
بالإلزام، ولا بالتعليم العام، وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة
المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة
في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربا بعد ما طاف ساحل
أفريقيا الشمالي وإلى جدار الصين من الشرق - كل ذلك في زمن قريب لم يعرف
في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم
وتعميمها بالتعليم العام وضروب الترغيب والترهيب.
كانت لغة أميين وثنيين جاهليين فظهر فيها أكمل الأديان فكانت له أكمل
مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مَجْلَى، وصارت بذلك لغة الدين والشريعة،
وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عَدَتْ على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم
أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوّم من مقوّمات الأمم الحية، ومن تلك
المقوّمات الحقيقية اللغة؛ فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها
في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس.
ظهر ضعف اللغة في القران الخامس وكانت في ريعان شبابها وأوج عزها
وشرفها، وكان أول مرض ألمّ بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو ومدلول
الألفاظ المفردة والجمل المركبة والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي
التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه،
وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى
تدوين علم البلاغة ووضع قوانين للمعاني والبيان كما وضعت قوانين النحو عند
ظهور الخطأ في الإعراب، فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم
القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره واستبدت على المعاني، وأنه
يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أسرها.
كتب قبل عبد القاهر في البيان بعض البلغاء مثل: الجاحظ، وابن دُريد، وقدامة الكاتب. ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنًّا مرفوع القواعد، مفتح
الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم، فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض
علمائها وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم حتى إن
ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي
هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان
السكاكيّ إلا عيالاً على عبد القاهر تلا تلوه وأخذ عنه مع المخالفة في شيء من
الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عبارته، والتعقيد في بعض
منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من
الحدود والرسوم، فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته،
وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام.
كان السكاكيّ وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل،
وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا
بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم
تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز،
فضاعت حدوده بتلك الحدود، وَدَرَستْ رسومهُ بهاتيك الرسوم، وكان من أثر
فساد ذوق اللغة اختيارُ هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها على الكتب التي
تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها،
فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا
هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلّي والضعف، فمثل عبد القاهر
في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته، كالسلطان سليمان
العثماني في قوانينه.
رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألمّ بها حتى إذا نقهت أو أبلت
اشتهته وطلبته، وهذا هو مثلنا أمس واليوم، فقد كنا متفقين على أخذ العلم من كتب
علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون
يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم
الحيّ الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية؛ لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي
سماها الجهل علمًا.
ولما هاجرت إلى مصر في سنة ١٣١٥ لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت
إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده رئيس جمعية إحياء
العلوم العربية ومفتي الديار المصرية اليوم مشتغلاً في بعض وقته بتصحيح كتاب
دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة
ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام
المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار. فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في
طرابلس الشام نسخة منه. فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي
الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي وهي مما تركه له والده فلبى الطلب.
وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار
السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة فخرج
لنا من مجموعها نسخة صحيحة شرعنا في طبعها، ووضعنا في ذيل المطبوع شرحًا
لطيفًا ضبطنا فيه الكلمات الغريبة، وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق
التفسير، وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين.
أما كون عبد القاهر هو واضع الفن ومؤسسه؛ فقد صرح به غير واحد من
العلماء الأعلام أجلهم قدرًا، وأرفعهم ذكرًا، أمير المؤمنين، محيي علوم اللغة
والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز في علوم حقائق
الإعجاز) فقد قال في فاتحة كتابه. هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد
القاهر ما نصه:
(وأول من أسس من هذا الفن قواعده، وأوضح براهينه وأظهر فوائده ورتب
أفانينه الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد
الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزاهره، من
أكمامها، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل
الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه
كتابان: أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على
شيء منهما، مع شغفي بحبها وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم
منهما) .
وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي عرضه
على الأنظار مع التنبيه على مسألتين نافعتين:
(إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما
تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة، فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونًا
كليًّا يرشد إليها؛ فهو القاعدة، وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم؛ فهو المثل.
(والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة
والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة
بالصورة المجملة؛ إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل، وبهذه
الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم وهي طريقة عبد القاهر في
كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز.
على أن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها
بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من
كتب الفن؛ لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية،
تنكرها بلاغة الأساليب العربية، ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر،
الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر.
لهذا بادر الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام إلى تدريس
الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه، فأقبل على حضور درسه مع
أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة مدارس الأميرية. وقد قال
أحد فضلاء هؤلاء الأستاذين بعد حضور الدرس الأول: إننا قد اكتشفنا في هذه
الليلة معنى علم البيان.
وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من
الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في
الهوامش، فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولاً في آخر الكتاب إتمامًا
للفائدة، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا؛
فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل) اهـ. ويلي
هذا ترجمة المصنف.
((يتبع بمقال تالٍ))