ورأي صاحب جريدة وطن الهندية فيه وفي عبد الحميد خان
أرسل إلينا صديقنا الغيور مولوي محمد إنشاء الله صاحب جريدة (وطن) الهندية ما يأتي، فننشره مع تصحيح قليل لبعض الألفاظ من جهة اللغة والنحو ونجيبه عنه وهو: حضرة الصديق الفاضل: استلمت كتابكم الخصوصي مع العدد الرابع من مجلة المنار، وشكرت فضلكم وقد وصلني في نفس ذلك البريد أعداد من جريدة اللواء أيضًا خلاف المعهود وقد نشرت هذه الجريدة كتابي في أحد أعدادها، وردَّت عليه في العدد الآخر حسب ما رأت، فأشكره على لطفه أيضًا. وجنابكم تعلمون أني أظن حضرتكم محبًّا مخلصًا للإسلام والمسلمين؛ فلذلك أكلفكم في بعض الأحيان تكليفًا ما، وأطالع مقالاتكم وكل ما تسطرون في أمر الإسلام والمسلمين بمزيد العناية والتبجيل؛ بل وأسعى في إشاعته جهد طاقتي وحسب استطاعتي؛ ليستفيد العالم الإسلامي الهندي من آرائكم الحكيمة، وكذلك لا أشك في كون حضرة علي فهمي كامل بك أيضًا محبًّا غيورًا للملة والوطن. ولكن اعذروني يا سيدي بأني لا أرى بدًّا من أن أقول لكم كلمة صادقة؛ وهي أنني كنت دائمًا لا أرى رأيكم صحيحًا في أمر السلطان المخلوع، وإن ما كتبتم في العدد الأخير من مجلة المنار فقد قرأته بكمال الأسف والحيرة، وليكن في علم حضرتكم أني لا أظن عبد الحميد ملكًا معصومًا؛ بل أرى فيه من حيث هو إنسان من التقصيرات ومواقع الضعف البشري ما يجب أن يؤخذ عليها، ولا يخفى عليكم وعلى الذين طالعوا كتابنا تاريخ مشروع السكة الحجازية، بأنني أول مَن كتب بالصراحة التامة في ذم عمال عبد الحميد وعدم كفايتهم؛ حين لم تكن في استطاعة أي جريدة من جرائد مصر وسوريا أن تكتب في هذا الباب بمثل تلك الصراحة؛ لأني كتبت ذلك في شهر يناير سنة ١٩٠٨، وأظنكم غير ناسين مجريات مشروع السكة الحجازية، فإنه لما شاع اقتراحي هذا أول مرة خالفه السلطان عبد الحميد أشد الخلاف، وكتبت جريدته الرسمية (المعلومات) : أن هذا المشروع يكون أشد ضررًا للدولة العلية، ولكن يغفر الله للمشيرين المرحومين شاكر باشا وعثمان باشا غازي؛ فإنهما بعد أن تأثرا من مكتوباتي المتوالية أيّدا المشروع حق تأييده، وكانت نتيجته ما كان. إن حضرتكم وحضرة محرر جريدة اللواء تقولان: إن مخلصكم هذا (محرر جريدة وطن) ومسلمي الهند لا يعلمون من الحالات الأصلية للدولة شيئًا، فأقول بكل الأدب: إن قياسكما هذا ليس بصحيح، فإن سوء إدارة ولاية الحجاز والحالة السقيمة التي كانت لاحقة للجيش العثماني المرابط في الولايات البعيدة، والمظالم التي كانت تجلبها يد الجاسوسية على البلاد والعباد، كانت حديث كل ناد من أندية القوم في الهند والسند وأفغانستان، ولم يكن الفرق غير أننا خبيرين بذلك، والعثمانيون هم واقعون تحت نير هذا الاستبداد عملاً يذوق بعضهم من طعمها المر ويتأوه من شدائد هذه المظالم والآلام، وتعلمون حضرتكم حق العلم أن مسلمي الهند لم يكونوا بوجه ما منعمًا عليهم من السلطان المخلوع، ولا مرهونين بهمة من الأمة التركية. إن الأتراك أو الخليفة لم تُعْطِ ولا درهمًا واحدًا في إعانة مسلمي الهند حين ما ابتلوا ببلاء أو انتابتهم نائبة، مع أن مسلمي الهند لم يقصروا قط في مدِّ يد الإعانة للعثمانيين، حتى إن محرر جريدة وطن غير كونه مقترحًا لمشروع السكة الحجازية والبغدادية، جمع لها من أموال الإعانة زهاء مليون قرش، وأرسلها إلى اللجنة العليا في الآستانة، ولم تستطع جريدة من جرائد العالم الإسلامي أن ترسل مثل هذا المال لإعانة ذلك المشروع العظيم من الاكتتاب العام، وكذلك أرسلت في إعانة منكوبي جزيرة أقريطش آلافًا من الروبيات - احتسابًا وخالصًا لوجه الله - ما أردت أن أمن بها على أحد، ولما تشفع لي دولتلو ذهني باشا في حضرة السلطان بعطاء امتياز منذ سنتين، وصدرت الإرادة بإعطائي الوسام العثماني من الدرجة الرابعة، كتبت إلى حضرة الباشا المشار إليه؛ إنني لم أر من المناسب أن أرد عطاءكم، مع أنني لا أحسبه شيئًا بمقابلة الأجر الذي يحصل لي من الله الكريم؛ لأن تلك الصلة الدنيوية لا يمكن أن تفيدني فائدة ما، ولا يفوتكم أن هذا الامتياز لم يكن ليعتد به؛ لأن الذين زاروا الآستانة العلية من الأجانب من أي صنف وطبقة كانوا تَحَصَّلوا على امتيازات أجلَّ وأفضل من ذلك الامتياز، وغير ذلك فإني لم أكن أخدم هذا المشروع رغبة في صلة. يظنون بأن السلطان عبد الحميد هو الباني والمحرك لفكرة اتحاد الإسلام. ولكني أعلم حق العلم أنه لم يَسْعَ قط لإشاعة هذه الفكرة في مسلمي الهند ولا أحد من أعوانه، ولو كان كذلك، لكان لا بد أن أكون أول من يعلم به، وكيف كان من الممكن السعي في نشر أفكار اتحاد الإسلام بين مسلمي الهند؛ حينما لم يكن قنصل الدولة العلية في ثغر بمبي عالمًا بأسماء الجرائد الإسلامية التي كانت مشغولة في جمع الإعانات للسكة الحجازية أيضًا، وإني أعلم وأكثر مسلمي الهند مثلي في العلم: بأن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم توجد في عهد عبد الحميد إلى حد يجب أن نفتخر به، حتى قلت بنفسي في تأليفي كتاب (تاريخ خاندان عثمانية) الصادر في سنة ١٨٩٧ ما مفهومه: (لعلي أرى بجنب الجامع الحميدي وحميدية خسته خانه، وأمثال ذلك من المشروعات ترعة أو سكة حديدية أيضًا يفتخر بها العصر الحميدي إلى الأبد. ولعلكم تتعجبون من سماع هذا الأمر: إن جريدتي (وطن) كانت ممنوعة الدخول في الآستانة وبعض الممالك المحروسة كجريدة (وطن) المصرية، وإن كانت جريدتي لا يكون فيها غير مدح عبد الحميد وتأييد الخلافة العثمانية شيئاً، بل هي مخصوصة لذلك الأمر. ولكن مع ذلك كله، أعتقد أنا وجميع مسلمي الهند بوثوق تام أن تركيا الفتاة أو الأمة العثمانية قد ارتكبت خطأ جسيمًا في عزل عبد الحميد، بل كفرت نعمة الله تعالى، وقد علمتم من صاحبزاده عبد القيوم عظيم الأفغان؛ أن الصدمة التي أحَسَّ بها مسلمو أفغانستان والهند من عزل عبد الحميد، كيف كانت شديدة عليهم، وكل يوم يرد عليَّ من الكتب من أقطار الهند ما لا أستطيع نشره في الجريدة، وفيها ما فيها من إظهار التألم والتأثر في النفس، وأخاف لو نشرت أفكار المنار واللواء في جريدتي أن تأتي غالبًا بما هو عكس المقصود، واسمحوا لي أن أقول لكم بكل الأسف: إن ما كتبتم حضرتكم تعلقيًا على مقالتي أو في مكان آخر من مجلتكم هو خارج عن حد الاعتدال يشف عن ميلكم إلى الاتحاديين؛ ولذلك ترموني وجميع مسلمي الهند بالجهل بأحوال الدولة العلية، إن حضرتكم أو حزب تركيا الفتاة أو الرجعيين من العثمانيين الذين يرومون عود عصر الاستبداد، كلكم من المناظرين أو فريق من المتخاصمين، لا تستطيعون أن تبدوا أو تقيموا رأيًا صحيحًا. وأما نحن معاشر المسلمين في الهند ففي وسعنا أن نقيم الرأي الصحيح؛ لأننا لسنا من فريق، ولا واسطة لنا بهم غير الأخوة الإسلامية والتعلق الأدبي الذي هو روح الإسلام، وإنكم مثل الجندي الذي يكافح ويناطح الأعداء في ميدان القتال، لا يرى غير ما يكون حواليه، ولا يكون همه إلا قتل مبارزيه. ونحن كالمتفرجين من بعيد، نرى كل ما يجري بين الفريقين المتحاربين، وإنكم من الذين آذاهم العصر الحميدي حتى اضطروا لترك الأهل والوطن، فلا بد أنكم تسرون بزوال السبب الذي جر عليكم هذه البلاد، وإن يكن هو السبب البعيد والقريب غيره، وإلا فلم يكن يليق بحضرتكم أن تصوبوا سهام آيات الإنذار من القرآن الكريم إلى عبد الحميد الذي لم يبق له (شيء من) الحول ولا الطول، وهو الآن تحت رحمة أعدائه الذين لا تُشفى غلتهم إلا بشرب دمه. إن ما فعلوا بعبد الحميد هو ليس غير عزله من سرير السلطنة. ولكن ترون مئات من الملوك والخلفاء والقواد العظام الذين دالت دولتهم، قد صار مصيرهم أسوأ من عبد الحميد: إيش مضى على نابليون؟ وما جرى على مدحت باشا؟ قد قتل السلطان عبد العزيز وعزل السلطان مراد. بل الفاروق (رضي الله عنه) وذو النورين (رضي الله عنه) والإمام علي (رضي الله عنه) ، كلهم فازوا بالشهادة وإن لم ينزلوا من دست الخلافة، وأراد القاتل اغتيال معاوية (رضي الله عنه) وقتل الحسين (رضي الله عنه) مع رفقائه رضوان الله عليهم في أشد المصيبة، ولقد نجد التاريخ مملؤًا من أمثال هذه الحوادث الجسام، فما لنا أن نخص مفهوم الآيات القرآنية بعبد الحميد وحده، بل يجب علينا أن نحترز من مثل ذلك الخطأ. واعلموا أن ظنكم وظن جريدة اللواء؛ بأن الإنكليزفي الهند يسعون في إلقاء بذور الشقاق بين مسلمي تلك الأقطار والعثمانيين؛ للقضاء على الاتحاد الإسلامي والخلافة، فأقول لكم بكل الاحترام: إن ظنكم هذا ليس في محله بل أسأتم حيث ظننتم هذا؛ لأن الأمة الإنكليزية أمة حرة عادلة عاقلة، لا تتداخل أبدًا في مثل تلك الأمور. إن مسلمي الهند كانوا يجلون عبد الحميد؛ لكونه سلطان المملكة العثمانية وأحبوه؛ لأنه في رأيهم كان حافظ هذه السلطنة من المخاطرات الجسيمة لا غير. فكان تبجيلهم له ومحبتهم منه لأجل خدماته الجليلة التي خدم بها السلطنة والخلافة الإسلامية، وإن كان عطل الحكومة الدستورية السابقة فلأنه يحسبها مضرة أشد الضرر في حق الدولة والملة. إن المسلمين الهنديين يعلمون بأنه ليس من أحد في هذه الدنيا غير فان وباق غير الله الواحد القهار، إن الحجز على بسمارك ما صار سببًا لخراب ألمانيا، وعزل عمر بن الخطاب خالدًا - رضي الله عنه - عن القيادة العامة لجند المجاهدين؛ لئلا يحسبه المسلمون سببًا للفتوحات، ويتركوا الاتكال على الله تعالى وعلى شجاعتهم، وقد هلك آلاف من الصحابة الكرام بطاعون عمواس وفازوا بالشهادة في ميدان القتال، ومع ذلك لم تقطع سلسلة الفتح الإسلامي، كذلك عبد الحميد أيضًا لم يكن ليعمر إلى الأبد إن كان يموت فكان لا بد من مشي الأمور كما كانت تمشي قبل أيامه وفي عصره. ولكن مع كل هذه المُسلِّمات لن نتصور نحن المسلمين الهنديين عزله طاعة كبرى للدولة؛ لأن في آرائنا أن الدولة العلية فقدت بهذا الأمر إحدى يديها وعينيها، وصارت ذات يد واحدة وعين واحدة فقط بعد أن كانت ذات يدين وعنينين. نحن نقول: إن عبد الحميد لما أخذ كل أمور المملكة في قبضة يده قد أحسن نظرًا إلى الحالة الطارئة على البلاد في تلك الأيام؛ لأنه لو كان القوم كلهم أو جزء قويٌّ من أجزائهم يرى مثل رأي مدحت باشا، لكان من المحال سقوط ذاك الرجل المصلح، ولا يذهب من خاطركم ما فعله القواد العثمانيون العظام في حرب الروسية الأخيرة من أخذ الرشوة، وكيف كان حال العمال في ذلك العهد، فكان كل تبعة الجور والاستبداد على الوزراء والولاة. هذا هو حلمي باشا الصدر الأعظم الحالي لما كان واليًا في اليمن، أي شيء فعل في تلك البلاد التعسة؟ لذلك رأى السلطان عبد الحميد أن العافية في أن يأخذ كل أمور المملكة في يده، ويقبض عليها بيد من حديد، ومن الظاهر أن ترقية القوم الذين قد خيم الإدبار بجرانهم، لا يكون ممكنًا إلا بالحكم المطلق. كان حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقًا، وكان حكم الصديق (رضي الله عنه) والفاروق (رضي الله عنه) أيضًا كذلك. لا ننكر أن اجتماع الاختيارات في يد رجل واحد أعني عبد الحميد، قد صار في آخر الأمر موجبًا للخراب أيضًا؛ لأن الرجل الواحد لا يستطيع أبدًا أن يحكم على بلاد واسعة الأرجاء مترامية الأطراف، وقد اندكت قواه بكثرة الأشغال فظهر عليه ضعف الكهولة والشيخوخة، حتى صارت أكثر الأمور في يد رجال المابين، وهم يبرمون كما يشاؤون. ولكن نية عبد الحميد لم تكن سيئة قط؛ لذلك لما رأى أن جزءًا كبيرًا من القوم صار أهلاً للحكم الدستوري، أعاده عليه وأعطاه حقه، والظاهر أن هيئة الإدارة التي تشكلت في سنة ١٩٠٨ هي من أحسن ما يكون. ولا يسعكم إنكار أن المتعلمين المتنورين الآن في بلاد العثمانية قليلون جدًّا، والجزء الأعظم من تركية آسيا مملوءٌ من المسلمين الذين يميلون إلى بقاء القديم على قِدمه أكثر من الذين يرون الدستور حياة البلاد ومخلص العباد من شرك الظلم والفساد، ومحبو القديم هم يقدرون اقتدار جلالة السلطان حق قدره، ولا يبغون أن يكون السلطان مسلوب الاختيار، فإن بقاء السلطان عبد الحميد على سرير الملك، وقيام مجلس (المبعوثان) على العمل بإصلاح الحكومة والبلاد هما الأمران اللذان كانا يبعثان الطمأنينة في نفوس الفريقين، وبهذه الطريقة كان من الممكن أن يأخذ الدستور مجراه الطبيعي على سبيل التدريج والترقي، ولا تقع السلطنة في أخطار الحرب الأهلية والفتن الداخلية. ومن الجانب الآخر لا يكون بوسع الأعداء الخارجية أن يتلاعبوا مع الدولة العلية؛ لخوفهم من سياسة عبد الحميد ودهائه المشهور والمعلوم. ولكن الانقلاب الأخير (المشأوم) قد فتح الدور الجديد قبل أوانه، وزلزلت أركان حالة البلاد زلزالاً شديدًا. إن محمود شوكت باشا قد يستطيع أن يعدم كل جهال الآستانة وصوفتائها. ولكنه لا يستطيع أبدًا أن يمحو من الوجود الملايين من المسلمين القاطنين في بلاد العراق وكردستان وجزيرة العرب والأناضول وغيرها الذين هم من محبي الحالة القديمة والحكم المطلق، لا شك في أنهم ساكتون وصامتون الآن، وسيسكتون إلى بقاء الإدارة العرفية والسيادة العسكرية، ولكن متى وجدوا انفراجًا من هذا الضغط ولو قليلاً، فلا بد من انفجار المادة المشتعلة الكامنة الآن تحت هذا الضغط الشديد (لا قدر الله) . إنكم تقولون: إن الخليفة والسلطان هو موجود وجالس على عرش السلطنة. ولكن حجتكم هذه غير نافعة؛ لأن جلالة السلطان محمد الخامس هو كآلة صماء في يد فريق ليس له وجاهة خصوصية وقوة ذاتية. ونقول بعبارة أخرى: إن يدًا وعينًا واحدة من يدي وعيني الدولة تعملان الآن، واليد والعين الأخريين معطلتان، بل تريد اليد العاملة والعين المستعملة في ذلك الوقت قطع اليد الأخرى وقلع العين الثانية من جسم الدولة، وصلاح الدولة منوط باتحادهما في العمل؛ أعني: كان من الواجب أن يكون الفريقان من أنصار عهد القديم والدور الجديد متحدين في ترقية شأن الدولة وصلاح المملكة مثل اليدين والعينين، ويكون الصدر أو الرأس عبد الحميد، فيعملان حسب إشارته وينجحان في أعمالهما. إنكم تقولون: إن الحركة الجديدة في الدولة العثمانية هي: عين التوحيد والإسلام. ولكن التاريخ يقضي بخلاف ذلك. إن الفتيان من الأتراك (تركيا الفتاة) يتبعون أثر أقدام فرنسا؛ التي أسقطت الملك أولاً والعلماء الروحانيين ثانيًا، وقطعت علاقة العبد بالله تعالى أخيرًا، فصاروا بذلك من الماديين الدهريين. إن صبغة تعاليم الإسلام لتجدون في إنكلترا ألبتة (كذا) ولعل تركيا الفتاة إن لم يكن بوسعها أن تتقلد الخلفاء الراشدين، فكان اللازم عليها قراءة تاريخ إنكلترا، لا ريب أنه قبل قرون من هذا العهد، قد فعل كرامول في إنكلترا كما فعل شوكت الآن في الآستانة، ولكن أيش صارت نتيجة ذلك الفعل القبيح غير إراقة الدماء أعوامًا متواليةً، وأخيرًا قد حلت الملكية محلها، وثبت أن محوها محال. تقولون: إن عبد الحميد كان منبع جميع الشرور والمظالم. ولكن ما تقولون في أمر تركيا الفتاة والمشير شوكت باشا، فإنهم أنفسهم من الذين رباهم العهد الحميدي الزاهر، هل تسبونه على تهيئة مثل تلك النابتة النابغة؟ نقلتم أقوالاً للغازي مختار باشا في ذم عبد الحميد، وكأنكم ليس لكم علم بأن عبد الحميد كان واقفًا من مدة على سوء نية الرجل وأمياله العدائية نحوه. ولكن لم يتعرض قط لشأنه بل كان ينعم عليه ويكرمه، كما كان يسعى في جلب الفتيان الثائرين عليه من أوربا بالشفقة الأبوية والعفو السلطاني، أليس هذا سماحًا وكرمًا منه لا يوجد له نظير الآن. إن جمعية الاتحاد والقائد شوكت باشا يستطيع أن يأسر عبد الحميد ورجال الدور السابق، ويعدم من يشاء من معانديه، أفلم يكن يستطيع عبد الحميد أن يذلل المختار في زمان اقتداره؟ ولكن التاريخ يشهد له بأجلى بيان؛ أنه لم ينتقم من أحد لنفسه قط، بل كان يشدد ويلقي القبض على الذين يعدُّهم أعداء الدولة والملة. إن مراد بك وغيرهم من رفقائه يساقون الآن إلى السجن المؤبد أو المشانق، ومن الذي لا يعلم أنهم كانوا من أشد أعداء عبد الحميد، فعفا عنهم وطلبهم إلى الآستانة وأنعم عليهم، وعلى كل حال إن المسلمين الهنديين متألمون ومتأسفون جدًّا من جراء هذا الانقلاب؛ لظنهم أنه يضر بالدولة والملة العثمانية ضررًا بليغًا. ولكنهم إذا وجدوه مفيدًا بحقها، وثبت لهم ذلك من كر الليالي والأيام فلا بد من أن ينعم به بالهم، وتقر به أعينهم، ويقولون (الخير فيما وقع) وإلا فقد أفتى العالم الخارجي كله بأن (لا خير فيما وقع) . إنكم تنسبون تألم المسلمين الهنديين إلى دسائس الأجانب، وأكثر العقلاء يرون أن تركيا الفتاة مغرورة من جهة الأغيار في ارتكاب ذلك الخطأ الجسيم. إن عبد الحميد لم يكن قط بانيًا لتحريك اتحاد الإسلام. ولكن قد وجدت هذه بالحركة في عصره بين المسلمين بناموس الارتقاء البشري، وأيقنت أوربا مثل يقينه بعدم تناهي كنوز يلدز، وإن الثلاثمائة مليون من المسلمين كلهم في قبضة عبد الحميد، وكان ذلك اليقين كظن ثروة عبد الحميد الغير متناهية (بزعمها) مباركًا في حق الدولة، والأسف كل الأسف على ضياع هذا الاعتقاد بعزل عبد الحميد وتحريات ثروته! ! ! إن اتهام عبد الحميد بالجبن كالبصق على السماء، ينزل على وجه الرجل نفسه، لقد قال له الوزراء حين قدوم جنود الروسية في سان استفانوس أنْ يهرب إلى بروصه. لكنه لم يتزعزع من مكانه ولم يرض بترك دار الخلافة، ولما طلب الروس الأسطول، قال عبد الحميد: إنني أركب في السفائن وأدمرهم بيدي وأغرق معها. ولكن لا أقبل أن أسلمها للعدو أبدًا. هل يمكن طمس الحقيقة التاريخية التي تظهر بذكر ثبات عبد الحميد وقوة جأشه عند وقوع الزلزلة في القصر، وفرقعة الديناميت على بضعة أقدام من مركبته، حيث لم يكترث ذلك الطود العظيم بهذه الحوادث أبداً! ! ! وأكبر من ذلك أن يتهمه فاضل مثلكم بعقر الخمور (أستغفر الله) لأن وجود الخمر في قصره من لوازم ضيافات الأورباويين الذين كثيرًا ما كانوا يدعون كل يوم على مائدته؛ ولأجل ذلك لم يكن يشترك عبد الحميد قط في الطعام معهم. وتقول جريدة اللواء: (إن أنصار العهد القديم والرجعيين يمدون الجرائد الخارجية بالمال ويأخذونها وسيلة لنشر أفكارهم) يمكن أن يكون في مصر جريدة ما مثل ما قالته - ولكن لا يوجد في الهند عثماني واحد يحض جرائدها ببذل المال على تنقيص تركيا الفتاة والحكومة الدستورية، ومع ذلك فرصيفتنا اللواء تقول كذلك، وتظهر خطأها القياسي كالواقعة الحقيقية، فيمكن لنا أن نستدل ببقية بياناتها بأنها قياسات لا أصل لها. إن جريدة المقطم وغيرها من الجرائد التركية قد تجاوزا حد الآداب في ذم عبد الحميد، لم تكن تفعل واحدة منهم هكذا في عصره، ومن العجب أن أكثر جرائد العرب والشام وغيرها ينقلون مقالات المقطم في أشهر صحفهن، وهن يعلمن أن آراء هذه الجرائد كانت دائمًا مخالفة للحقوق التركية والمصرية في معاملة مصر؛ وفرحها وسرورها بعزل عبد الحميد يكشف الغطاء عن نيتها، ويظهر لنا جليًّا أنها ترى هذا العزل حسب مرادها. إن كان عبد الحميد ليس له عون ولا نصير، فلمَ يعدمون الآلآف المؤلفة من النفوس في الآستانة وسائر الجهات؟ لاشك في أنه فضل حقن الدماء، ولم يرض أن يكون مثل شاه العجم. إنه كان محبًا للملة، وخادمًا مخلصًا للوطن لا طالب الجاه، وكان يحب الحياة لكن لا للتنعم والالتذاذ بنعمات الدنيا الفانية، بل لخدمة الوطن والملة وظنه أن حياته رحمة إلهية لصالح العباد والبلاد. إن خير ما كتب في ذلك الشأن هو قول رصيفتنا اللواء: (إن عزل عبد الحميد عن عرش الخلافة ليس قتله بل إحياءه؛ لأنه خلص من متاعب الحكومة) ولكن أقول: إن عزله وإن يكن في حقه إحياء فلا يكون في حق الدولة إلا موتاً ونكالاً، لا يوجد رجل في جميع المملكة محنكاً مثله بل وأقل منه أيضاً في السياسة الخارجية؛ لذلك أرى من الواجب على الأمة أن تكرم مقامه، وتستشيره في الأمور المتعلقة بالسياسة الخارجية، ويكون العمل منوطاً بالأكثرية لا على إشارته. ولقد طال المقال رغم إرادتي الاختصار؛ لذلك أختم رسالتي بتقديمي فائق الاحترام لحضرتكم، وأرجو منكم نشرها كما ترون مناسبًا والرد عليها سالكين مسلك الإنصاف والحق وترك المجادلة بالباطل، والسلام. وقد أرسلت نقولاً من ذلك إلى بعض جرائد أخرى أيضًا؛ عسى أن يتكرموا بنشره. في ١٢ يونيو سنة ١٩٠٩. ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص محمد إنشاء الله ... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن) ... ... ... ... ... ... ... ... لاهور (بنجاب) الهند (جواب المنار) مقدمات ومسائل حول المقصد (١) كان لنا ألا ننشر رسالة صديقنا هذه؛ لأنه لم ينشر مقالتنا في الرد على رسالته الأولى؛ لأن الفائدة في نشر أمثال هذه المناظرات في الصحف هي بيان جميع ما يجب بيانه لقرائها في المسائل المتناظَر فيها؛ لأجل أن يكون حكم أولئك القراء صحيحًا لبنائه على العلم بالمقدمات التي يبنى عليها الحكم. ولكن صديقنا خشي من نشر ردنا عليه؛ أن يأتي بضد ما يراد منه كما قال، فكأن قراء جريدته لا يرضون منها إلا أن تكتب لهم ما يوافق ميلهم وهو يوافقهم على ذلك، وهي خطة فيها من النقد ما لا محل لشرحه هنا. أما نحن فإننا ننشر ما هو مخالف لرأينا ولمشرب جمهور قراء المنار؛ لأنه إن كان حقًّا قبلناه، وإن كان باطلاً دحضناه، وفي اعتقادنا أن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق. (٢) لا نسلِّم لرصيفنا وصديقنا المناظر لنا ما يدعيه من أن رأيه في عبد الحميد والدولة هو رأي جميع مسلمي الهند، فإنه يتعذر عليه أن يعرف آراء أولئك الملايين، وهو لا يعرف أكثرهم ولا هم يعرفونه. وإنما قصارى ما يمكن أن يظن هو؛ أن جمهور قراء جريدته موافقون له في رأيه وميله، وما هم إلا عدد قليل في أولئك الملايين. وقد اعتاد مثل هذه الدعوى بعض الجرائد المصرية وما زلنا ننكرها عليها، وإننا نرى بعض جرائد إخواننا مسلمي الهند تنشر من الرأي ضد ما ينشر صاحب (وطن) ، بل ترد عليه فيما يكتبه كجريدة (وكيل) التي تصدر في (أمرتسر) ، وبلغنا عن مسلمي عليكره أنهم مسرورون راضون عن هذا الانقلاب العثماني، وناهيك بمن هنالك، إنهم أنور مسلمي الهند عقولاً، وأرجاهم لخدمة العلم والملة. (٣) إن صديقنا المناظر احتج برأي عبد القيوم عظيم الأفغان، وإن هذا الرجل العاقل المنصف لم يفارقنا إلا وهو مقتنع بأن تشاؤم الكثيرين من مسلمي الهند والأفغان وخوفهم من عاقبة هذا الانقلاب؛ إنما سببه الجهل بالحقائق، وإن لبعض الجرائد تأثيراً سيئًا في ذلك، وإنه يجب السعي في إزالة هذا الجهل، حتى إنه اقترح إرسال وفد تركي يجوب البلاد الهندية والأفغانية؛ لإزالة سوء الفهم والجهل بالحقيقة. وقد كان هذا من المعقول في أول العهد بالانقلاب. أَمَا وقد طال العهد ونشرت الحقائق في الجرائد، فقد رأينا المنصفين من إخواننا مسلمي الهند مقتنعين بما ظهر لهم من الحق؛ ولذلك كان إصرار صديقنا صاحب جريدة (وطن) على ما كان عليه غريبًا عندنا يصعب تأويله. (٤) قرأنا رسالته هذه قبل نشرها على بعض أهل الرأي والاستقلال من مسلمين وغير مسلمين فعجبوا واستغربوا، وقالوا ما نذكره مع إنكاره على إطلاقه وإجلال صديقنا وتبرئته من سوء النية: إنه لا يعقل أن تكون هذه كتابة عارف مخلص.. وليس في هؤلاء من هو من جمعية الاتحاد والترقي، ولا من المنتصرين لها، بل هم ممن يعرفون لها وينكرون عليها. حقًّا إنه يصعب على العقل المجرد من الهوى؛ أن يتصور أن إنسانًا يعرف حقيقة حال الدولة العثمانية وحقيقة ما فعله عبد الحميد من الأفاعيل الضارة بها وبالأمة، ثم يكتب كلمة في مدحه والدفاع عنه، ويكون مخلصًا محبًّا للمصلحة العامة؛ ولذلك بنينا ردنا السابق على قاعدة جهل جرائد مسلمي الهند بمفاسد عبد الحميد ومضار حكمه؛ إذ لا وجه يتضح لاتهامهم بسوء النية وعدم الإخلاص. ولكن صديقنا ومناظرنا ينكر ذلك في رسالته هذه، ويدعي أنه هو وغيره من مسلمي الهند واقفون على جميع سيئات الحكم الحميدي، وإنهم أعلم بها وأقدر على الحكم فيها من العثمانيين الذين ذاقوها وتقلبوا فيها. ويبني دفاعه عن عبد الحميد ومدحه على ادعاء حسنات له لا دليل عليها، ولا يستطيع أن يزيد فيها على الدعاوي والمدائح الشعرية، كما بينا ذلك في ردنا الأول عليه، وزاده بيانًا صديقنًا رفيق بك العظم في مقالته التي نشرها في الجزء الماضي، ونزيده نحن بيانًا في هذا الجزء. (٥) إن كتابة صديقنا لهذه الرسالة بعد اطلاعه على ما اطَّلع عليه من كلامنا وكلام غيرنا في الانقلاب، لم نجد لها من تأويل مع ما نظن من إخلاصه إلا أن جريانه على مدح عبد الحميد سنين طويلة، جعل حسن اعتقاده فيه أمرًا وجدانيًّا كدين العجائز، لا يقبل بحثًا ولا استدلالاً يخالفه، أرجو منه العفو والسماح عن إبداء رأيي هذا، فإننا لم نر وجهًا آخر نفهم معنى إصراره وتناقضه وتهافته فيما يكتبه أولاً وآخرًا. (٦) إننا لا نعتقد صدق ما يظنه بعض الناس هنا من أن الإنكليز هم الذين أحدثوا في الهند فكرة سوء الظن بالدولة العثمانية في طورها الدستوري، وإن كنا نعتقد أنهم يحبون أن تنتشر هذه الفكرة؛ ليضعف تعلق المسلمين الديني بهذه الدولة وأن كل من يبطل ثقة المسلمين بالدولة العلية في البلاد التي للإنكليز فيها نفوذ يكون خادمًا لهم في الواقع، ونفس الأمر، وإن لم يكلفوه ذلك ويغروه به. (٧) إننا لا نعتقد أيضًا أن السلطان عبد الحميد هو الذي سعى في بث نفوذ الدولة الديني في مسلمي الأقطار أو في دعوتهم إلى التآخي والاتحاد مع سائر المسلمين. هو أقل وأصغر من ذلك، فمثله لا يسعى في عمل كبير كهذا. وإنني موافق لصديقي المناظر في كون هذه الفكرة المنبثة في المسلمين من روح التعارف والوحدة المعنوية ليست إلا أثرًا من آثار سنة الترقي في البشر. وقد كان شيخنا الأستاذ الإمام يقول: إن الحرب الروسية العثمانية هي مبدأ هذه الحركة، والصوت المحدث لهذه اليقظة الإسلامية العامة. وقد كان هو وشيخه السيد جمال الدين يكتبان في أثناء تلك الحرب المقالات المنبهة والموقظة. وقد رَأَيَا قبل ذلك أن إنكلترا حاربت الأفغان، فلم يكن أحد من المسلمين في مصر والآستانة وغيرهما يحفل بذلك. (٨) إنني لا أتعجب من منع جريدة (وطن) الهندية من دخول البلاد العثمانية في عهد عبد الحميد، وإن كان لا يخشى أن ينتشر بدخولها من الأفكار ما لا يحبه لجهل العثمانيين بلغتها، ولا مَنَعَ جريدة (وطن) المصرية - إن صح أنها أرسلت ومنعت على كونها قبطية لا يطمع صاحبها بنشرها في غير مصر - لأن العاقل إنما يعجب مما جاء على خلاف المعهود، ومثل هذا المنع هو المعهود في أيام عبد الحميد؛ لأن سياسته كلها وما يتعلق منها بمنع الصحف والكتب خاصة هي سياسة جنون، وهل يتعجب العاقل من المجنون إذا آذى من يحسن إليه؟ . (٩) إن ما ذكره من سيئات عبد الحميد يناقض من وجود ما ذكره في الرسالة الماضية التي نشرناها في الجزء الرابع التي ادعى فيها أنه أصلح مالية الدولة ورقى عسكريتها ومعارفها وعمَّر داخليتها، بل يناقض بعض ما جزم به في رسالته هذه كما سيأتي. (١٠) إننا بينا له خطأه فيما أطرى به عبد الحميد من الأعمال التي نسبها إليه وكان يعمل ضدها، فلم يستطع أن ينفي شيئًا مما أثبتناه، وهو مع ذلك يصر على إطرائه بعبارات شعرية، ودعوى ظَهَرَ بطلانُها لكل أحد كدعواه أنه منع الدستور لاعتقاده أن الأمة لم تكن أهلاً له، ثم أهلها له ومنحها إياه. (١١) لا نسلّم له أنه أول من كتب بالصراحة في ذم عمال عبد الحميد، فإن جرائد المشرق والمغرب قد فاضت بذم عماله وبذمه هو أيضًا قبل سنة ١٩٠٨ التي كتب صديقنا فيها، ولم يشذ عنه ذلك إلا الجرائد التي كانت تحت سيطرة ظلمه وجبروته أو المستأجرة بماله لمدحه، أو الجاهلة بحال الدولة العثمانية أو التي لا يهمهما شأنها كبغض جرائد أمريكا وأسبانيا مثلاً، (وعسى أن لا يعود صاحبنا إلى دعوى مثل هذه الأولية التي يسخر العقلاء من انتحال بعض الجرائد المصرية مثلها) . (١٢) إن ما ذكره عن جريدة (معلومات) غير صحيح، فهي لم تكن جريدة رسمية، ولم يكتب ما كتب فيها عن مشروع سكة الحديد الذي كان اقترحه الكاتب بأمر خفي أو ظاهر من السلطان عبد الحميد، وإنما ذاك رأي محررها في ذلك الوقت وهو صديقنا السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي الشهير، وهو الذي حدثنا بذلك عن نفسه. وإنما ذكرنا هذا الأمر مع كونه ليس من موضوعنا الخاص لغرضين: أحدهما: كونه مثالاً لعدم الثقة بمعلومات صديقنا صاحب (وطن) عن الدولة العلية. وثانيهما: معارضته في قوله: إن خطأ اللواء في بعض ما ذكره عن الهنود، يقتضي عدم الثقة بكل ما يكتبه. (١٣) دعواه أننا نحن السياسيين والمؤرخين العثمانيين لا نستطيع أن نحكم في قضية الانقلاب العثماني حكمًا صحيحًا؛ لأننا من قبيل الخصم يحكم كل لنفسه، وأن مسلمي الهند هم الذين يستطيعون ذلك. هي دعوى غير مسلمة؛ لأن التشبيه في غير محله، وإلا قلنا: إنه لا ثقة بما كتب مؤرخون فرنسا وساستها عن ثورتهم وحكومتهم؛ ولأن إخواننا مسلمي الهند غير واقفين على حقائق الأحوال، فيكون حكمهم فيها أجدر بالصحة. (١٤) إننا نعتقد إخلاص مسلمي الهند في حبهم للدولة، ونعد صديقنا ومناظرنا من أشدهم غيرة وإخلاصًا، بل نقول: إن خطأه جاء من شدة غيرته. المقصد وفيه مسائل (١) اعترف صاحبنا (بأن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم توجد في عهد عبد الحميد) ... إلخ، واعترف بأن أخذ أزمة المملكة بيده (صار في آخر الأمر موجبًا للخراب) وهذا مناقض لرسالته الأولى بِرُمَّتِها ولبعض مسائل رسالته هذه، كما أشرنا إلى ذلك في التمهيد والمقدمات. (٢) ادعى مع ذلك الاعتراف بأن عبد الحميد كان محسنًا في إبطال الدستور الأول واستبداده بالحكم المطلق، واستدل على ذلك بدليلين: أحدهما سوء حال الدولة وعدم استعدادها للحكم الدستوري؛ بدليل ما حصل مِن سقوط مدحت باشا المصلح، ومِن أََخْذ القواد العثمانيين الرشوة في الحرب الروسية، وسوء حال العمل في ذلك العهد، وعجز حلمي باشا عن إصلاح اليمن. وثانيهما: كون حكم الإسلام هو الحكم المطلق. نجيب عن دليله الأول من وجهين: أحدهما إنما يصح كونه محسنًا في ذلك لو كان عدل في حكمه المطلق وأصلح، وهو لم يكن إلا ظلومًا مفسدًا زادت الرشوة في زمنه أضعافًا مضاعفة. وثانيهما: أنه كان يمكنه أن ينفذ الدستور مع الرجال المستعدين لذلك، الذين وضعوه كمدحت باشا وإخوانه كما فعل ميكادو اليابان فيكون في أول الأمر دستورًا في الصورة وحكمًا بين المطلق والشورى في الحقيقة، وبذلك يقوى استعداد الأمة بسرعة. هذا ما نقوله مؤخرًا في الدليل نفسه؛ لأننا لا ننكر كون الأمة العثمانية لم تكن في عهد مدحت باشا مستعدة للدستور بنفسها؛ بل صرحنا بذلك مرارًا في خطبنا ومقالاتنا المنشورة في المنار. أما الجزئيات التي أيد بها ذلك فهي مجال للبحث، فإن عبد الحميد اغتال مدحت باشا بالحيلة الخفية بعد ما نقله من ولاية إلى ولاية، والأمة لم تفطن لكيده. وإن حسين حلمي باشا عجز عن إصلاح اليمن؛ لأن كل إصلاح مع استبداد عبد الحميد وخرقه كان محالاً، على أن حلمي باشا كان حسن الإدارة في اليمن، لا ينكر أهلها ولا غيرهم ذلك. ونجيب عن دليله الثاني بمنع زعمه أن حكومة الإسلام حكومة فردية مطلقة وقد أساء جدًّا في قوله: إن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم الصِّدّيق والفاروق - رضي الله عنهما - كان حكمًا مطلقًا - بَرَّأهُمْ الله مما قال - وإنما ذلك هو حكم الشورى الكامل، وحكم التقييد بالشرع في الظاهر والباطن، وقد بينا ذلك في المنار غير مرة مؤيدًا ببراهين الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الأربعة. فليراجع صاحبنا تفسير {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) من المجلد الحادي عشر، ومباحث الحكومة الإسلامية في المجلد الرابع، وغيرهما من المجلدات، وليستغفر الله تعالى مما قال. (٣) أذكر بعد زعمه أن حكومة الإسلام التي قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون كانت حكومة مطلقة، زعمه أنني قلت: إن الحركة الجديدة في الدولة العلية هي عين التوحيد والإسلام، ورده ذلك بزعمه أن فتيان الترك القائمين بهذه الحركة يتبعون خطوات فرنسا بإسقاط الملك فعلماء الدين، ثم بقطع العلاقة بين الناس وربهم، واختيار مذهب الدهريين. ونقول في جوابه: إن زعمه هذا من سوء الظن المتعلق بمنكوبات الصدور ومخبآت الغيب للمستقبل. وإذا كان صاحبنا ومناظرنا لا يعرف حقيقة الدولة الحاضرة وحال القائمين بها، فكيف يعرف ما خُبِّئ لها في الغيب؛ بل كيف يمكنه أن يدعي الاستدلال بالحاضر على الغائب. إن الأحرار الذين بأيديهم حديث الحركة هم النابغون من العثمانيين العرب: (كالقواد محمود باشا وهادي باشا وعلي رضا باشا) ، والترك: (كأنور بك من الضباط وغيره) والألبان (كنيازي بك من الضباط وغيره) ولم يعرف عن أحد منهم الكفر وانتحال مذهب الماديين. وكذلك النابغون من المبعوثين والأعيان؛ لم يعرف عنهم ذلك إلا ما نقل عن رضا نور مبعوث أدرنه من ذلك القول الذي اعتذر عنه، وهو لم ينقل على وجهه. ولم يعرف عنهم أنهم يفضلون الحكومة الجمهورية على الملكية. نعم.. إنني لا أنكر أنه يوجد في متفرنجي الترك - وكذا غيرهم من العثمانيين - كثير من الملاحدة؛ لفساد التربية في البلاد والتعليم في مدارس الحكومة، ولا يبعد أن يوجد منهم أفراد في مجلس (المبعوثان) وفي لجان جمعية الاتحاد والترقي. ولكن يوجد في هؤلاء الملاحدة من هم أحرص على جعل الدولة إسلامية من جميع المتنطعين في التدين؛ لأنهم يعرفون من فائدة ذلك ما لا يعرفه المتنطعون. فالملحد الغالي الذي يخشى من غلوه على شكل الحكومة الإسلامي قليل. واختلاف الآراء والأهواء في الحكومة طبيعي في كل أمة، فقد كان في عصر الإسلام الأول من يَميل إلى جعْل الحكومة حكومة أشراف؛ كشيعة عليّ كرم الله وجهه، ومن قال منا أمير ومنكم أمير، ومن يميل إلى الديمقراطية المعتدلة وهم الأكثر , ووجد في ذلك العصر الخوارج وناهيك بمذاهبهم في الحكومة. ونقول من وجه آخر: إذا كان ما ذكره عن فتيان الترك أو العثمانيين ونابتتهم المتعلمة صحيحًا، وكانوا هم المعدين لإدارة المملكة بمقتضى طبيعة الحال. ألا يكون من سوء إدارة عبد الحميد أنه لم يرب في ثلث قرن من يصلح لإدارة دولة إسلامية كدولته؟ إن مناظرنا الصديق يحتج علينا تارة: بأن عبد الحميد رقّى التربية والتعليم في الدولة حتى صارت أهلاً للدستور، فتكرم وتفضل بالإنعام عليها به مختارًا مسرورًا، وتارة يحتج علينا بأن هؤلاء المتعلمين ملاحدة، لا ينتظر منهم إلا الإلحاد والإفساد. وليت شعري! ماذا يفيد بقاء عبد الحميد في الملك مع التعليم والتربية التي تنتج مثل هذه النتيجة؟ أكانت كل رغبة مناظرنا وغرامه من التمتع بالحكم الإسلامي الحميدي هو أن يبقى لعبد الحميد استبداده إلى أن يموت على فراشه؟ أليس ما ظهر من عدل الله فيه مما يزيد الذين آمنوا إيمانًا؟ أما ما أشار إليه الصديق المناظر من استحسان الاعتبار بحال الإنكليز، والاقتباس من سيرتهم وتاريخهم، وكونهم أقرب إلى الحكومة الإسلامية الصحيحة من غيرهم، فهو مقارب لرأي أخيه ومحبه، هذا وقد نبهت إلى هذا في خُطَبٍ وأقوال كثيرة، وكتبته في المنار أيضًا في بعض المقالات ولعل الصديق رآه، وسنعود إليه بالبيان الكافي إن شاء الله تعالى. (٤) يقول صديقنا: إن المشير أحمد مختار باشا الغازي سيئ النية وعدو للسلطان عبد الحميد أي فلا يحتج بقوله فيه. ويقول لي: (كأنكم ليس لكم علم بأن عبد الحميد؛ كان واقفًا من مدة على سوء نية الرجل وأمياله العدائية نحوه) . وأقول: أولاً - كيف كان يعلم وهو في الهند من العلاقة بين مختار وعبد الحميد ما لا أعلمه وأنا في مصر أسهر الليالي الطوال مع مختار باشا، ونتحدث في أحوال الدولة بالحرية التامة، ويذكر لي كثيرًا من الأسرار؛ وهو يعلم أني أمين عليها، ومنها رأيه في السلطان ورأي السلطان فيه. وثانيًا - لماذا يكون مثل أحمد باشا سيء النية لعبد الحميد وشديد العداوة له، مع ما ذكر صديقنا المناظر من إنعامه عليه وإكرامه له؟ هل يعقل أن يكون لذلك سبب إلا اعتقاد هذا المشير الذي بذل في سبيل الدولة دمه غير مرة أن عبد الحميد جان عليها ومخرَّب لها، وهو الذنب الذي لا يغفره عند هذا الرجل العظيم الإنعام، ولا الإكرام الشخصي. وثالثًا - ليراجع صديقنا (ص ٦و٧) من منار هذه السنة، يجد فيها أن السلطان عبد الحميد كان يتهم مختار باشا بأنه يساعد جريدتي المنار والقانون الأساسي؛ لأنهما أنشئتا لمقاومته نفسه. ولو شئت لذكرت له كثيرًا من أمثال هذه الوقائع والحوادث والمكاتبات الرسمية السرية؛ ليعلم أنني إذا قلت فيه إنه لا يعرف حقيقة ما كان عليه عبد الحميد في دولته ورجالها، فإنما أقول عن علم واختبار لا يمكن لمثله أن يصل إلى ذرة منهما؛ لأن قصارى ما يصل إليه نتف متعارضة في الجرائد. وما قيل في أحمد مختار باشا يقال في محمود شوكت باشا وأمثاله من المشيرين وقواد الجيش وغيرهم من العقلاء الذين لم يصب أشخاصهم شر عبد الحميد وبغيه. فإذا كان مثلي في غيرته على الدولة والملة متهمًا عند الصديق (سامحه الله) ؛ لأن بغي عبد الحميد وحكومته أصابنا في أنفسنا وأموالنا وأهلينا، فبماذا يتهم هؤلاء؟ على أنه لو فكّر قليلاً لعدّ اضطهاد الحكومة الحميدية لمثلي من أسباب التعديل، لا من أسباب الجرح؛ إذ لولا الصدق والإخلاص لسهل عليّ أن أكون مطوقًا بذهب عبد الحميد دون سلاسل غضبه، ولا يعقل أن يكون بين أمثالنا وبينه عداوات شخصية. (٥) نرى آخر ما استقر عليه رأي صديقنا؛ إنه كان يجب إبقاء عبد الحميد على عرشه ومشاركة جماعة الدستور له واستعانتهم بتجاربه على إقامة الحكومة الجديدة. ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ إيثارًا للانتقام منه. ونقول: إن أكثر العقلاء من الأجانب والعثمانيين العارفين بالتاريخ يرون أنه كان يجب قتله عند الانقلاب الأول وإراحة الأمة من شره، وإن جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تدير القوة غلّبت العفو والسماح والرحمة على الشدة والانتقام، وظنت أنها تستطيع أن تنسخ سنة من سنن الاجتماع البشري، فتحدث انقلابًا في الحكم غير ملطخ بالدم، وقد كنت أنا ممن حذر من التعدي على شخص السلطان، ودعا إلى الاستفادة من تجاربه في الأمور الخارجية في أول مقالة كتبتها بعد إعلان الدستور. ولكن أبى الله ذلك فأبى عبد الحميد أن يعيش مع حكومة الشورى والدستور: (يرضى القتيل وليس يرضى القاتل) فأخذ يكيد لها كما كاد لسابقتها، فوقع في البئر التي حفرها. أما آن لك أيها العاشق لعبد الحميد أن تعرف الحقيقة التي عرفتها الأرض والسماء، ولم يبق منفذ للشك فيها. (٦) يقول: إن محبي الحكم المطلق من مسلمي العراق وكردستان وجزيرة العرب والأناطول، سَيَهُبُّون إلى مقاومة الدستور بعد انقضاء مدة الأحكام العرفية. يعنى أن مِن خَطَرِ الحكومة الدستورية على الدولة أنها مضادة لما عليه السواد الأعظم من المسلمين، وستكون سببًا للثورات والفتن الداخلية. ونقول: إن البلاد التي ذكرها إن كانت جديرة بعدم فهم منافع الدستور؛ لعموم الجهل فيها كما بينا ذلك في الكلام على تفاوت البلاد العثمانية في الاستعداد والعلم، فهي أيضًا لا تعشق الحكم المطلق تفضيلاً له على المقيد بحجة دينية أو عقلية، وإنما يخشى من الفتن فيها؛ لأن الزعماء الذين كانوا يتحكمون فيها بالدماء والأعراض والأموال؛ شعروا بأن أيديهم ستغل وسلطتهم ستزول، فهم لأجل هذا أحبوا ويحبون مقاومة الحكومة الدستورية كلما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. ولكن الحكومة ستطهر البلاد من شرهم في مدة أقصر من المدة التي دنسها بهم عبد الحميد إن شاء الله تعالى. (٧) يقول: إذا لم يكن لعبد الحميد أنصار محبون، فمن هؤلاء الذين تشنقهم الحكومة العرفية كل يوم. ونقول: إن أعوان عبد الحميد على تخريبهم المملكة لتعمير بيوتهم وإذلال أهلها لأجل تنفجهم وتعاظمهم لا يعقل أن يكونوا غير محبين له وللتمتع بنعيم سلطته، فهم كأولئك الزعماء الذين ذكرناهم في المسألة السادسة. (٨) أنني لا أقول شيئًا في طعنه بمولانا السلطان محمد الخامس إلا دعوته إلى التوبة والاستغفار من هذه المعصية، فإن لم يُجب الآن، فإنه سيجيب بعد زمن بعيد أو قريب يعلم فيه أن محمداً الخامس في بني عثمان كعمر بن عبد العزيز في بني أمية، كما أن عبد الحميد شر من يزيد، فسلطاننا الآن ليس آلة في يد أحد، كما أن الشرع والدستور ليسا آلة في يده يستعملها بهواه، كذلك المسلَّط بالبغي الذي أدال الله لنا منه. ومن التناقض أن يطلب صاحبنا الجمع بين الدستور واستبداد السلطان، وأعجب من ذا أن يعد هذا من الإسلام. (٩) قال: إن المقطم تجاوز الحد في ذم عبد الحميد، وإن جرائد بيروت تنقل عنه ... إلخ. ونقول: إن المقطم كان دائمًا يطعن في عبد الحميد وحكمه. ولكن يتحامى الطعن الشخصي الصريح الذي يخشى أن يعاقب عليه القانون المصري الذي يعد السلطان سلطانًا له، وبعد سقوطه زال هذا المانع. أما كونه كان (مخالفًا للحقوق التركية والمصرية) وسيئ النية، فنطلب من صديقنا المناظر الجمع بينه وبين ما مدح هو به الإنكليز من العدل وحسن النية وإرادة الخير، فإنه لا يختلف اثنان في كون المقطم كان ولا يزال مؤيدًا لسياسة الاحتلال؛ لأن مذهبه في حسن نية الإنكليز كمذهب صاحبنا. وأما كون جرائد سورية لم تكن تذم عبد الحميد في عهده فهذا من البديهيات التي لا حاجة إلى الكلام فيها. على أن أكثر هذه الجرائد السورية جديدة حدثت بعد الدستور. (١٠) قال: إنني اتهمت عبد الحميد بشرب الخمر واستغفَر هو الله من هذه التهمة بالنيابة عني، وقال: إن وجود الخمر في قصره كان لأجل ضيوفه الأوروبيين (الذين كثيرًا ما كانوا يُدعون كل يوم على المائدة) يريد أن يبرئ كل من كان في القصر من الشرب. وأقول لصديقي ومناظري الفاضل: إنني أعجب لقلبه الشريف الذي يملأه الحب، حتى لا يدع فيه مجالاً لشيء يزاحمه، وأتمنى لو أفوز بدوام حبه وصداقته ثم أؤكد له القول بأنني لم أستدل على شرب عبد الحميد للخمر بما نقلت الجرائد من وجود طائفة من الخمور في يلدز كما فعل اللواء، فإنني أعلم منذ سنين أنه يشرب الخمر، وإن أكثر من في يلدز كان يشربها بلا نكير، وأنها هناك من المؤونة الضرورية؛ أعرف هذا من الثقات الذين أكلوا فيها وخالطوا أهلها. وكثيرًا ما كان يذكر في البرقيات العمومية والجرائد شرب عبد الحميد للخمر في سياق الكلام عن صحته ومرضه، ومنها أنه في أوائل العهد بالانقلاب كان يتغذى بالروم المعتق. (١١) قال: إن عبد الحميد لم ينتقم لنفسه من مختار باشا وأمثاله من أحرار الترك؛ لإيثاره الحلم والعفو. وأقول: إنه لم يكن قادرًا على أن يعامل مختار باشا بأكثر مما عامله به، وصديقنا لا يعرف من معاملته له شيئًا قط ولا حاجة إلى إعلامه به. وأما انتقامه من الأحرار فلم يدخر فيه وسعًا؛ فقد قتل رئيسهم مدحت باشا وكثيرين غيره، وسجن ونفى خلقًا كثيرًا. وعوالم المدنية كلها تعرف ذلك، حتى إن الإفرنج يلقبونه بالسفاح وبالسلطان الأحمر. ولا أحب أن أناقشه فيما ذكره من مدح أخلاقه؛ فإنها شعريات لا يؤبه لها، وما أحببت له ذلك التشبيه الذي ذكره عند الكلام في شجاعته؛ لأن أدبه في نفسي أعلى من ذلك. والذي عليه المحققون؛ أن جمود عبد الحميد في موضعه يوم الزلزلة؛ قد كان من شدة الخوف واضطراب الأعصاب. وما قاله في مسألة الأسطول كلام في الهواء، لا عمل يستدل به. وليكن عبد الحميد شجاعًا فماذا جنينا من شجاعته التي لم نر أحدًا قال بها إلا صاحب الوطن، أو جبنه الذي يضرب به المثل غير الحنظل والزقوم. (١٢) أعاد صاحبنا صدى قول المؤيد: إن من ضرر الانقلاب الأخير إظهار كنوز (يلدز) ومخبآتها؛ إذ عَلِمَ من ذلك أنها ليست كما يظن الأوروبيون، وكان توهمهم أن فيها ما لا يحصى من الملايين قوة خفية للدولة تخيفهم من الإقدام على مناوئها، فهي كتوهمهم تعلق جميع المسلمين به. ونقول: إن هذا القول لا يصدر عن سياسي عارف إلا إذا أراد به الخلابة والمخادعة لفساده من وجوه (منها) : أن الوهم البين الواضح هو ما تخيله صاحبا (المؤيد ووطن) من أنه يمكن أن يوجد عشرات من الملايين من النقد الذهبي لا يعرف مكانه الأوربيون الذين يديرون ثروة العالم. ومن الشواهد الصغيرة على ذلك ما ذكرته جرائد الآستانة من أن مدير البنك العثماني فيها لاحظ أن عددًا يؤبه له من قراطيسه لا يعود إليه في دورة التعامل، فجزم بأنه في (يلدز) وهو ما وجد فيها. (ومنها) : أنهم يعرفون موارد الدولة أكثر مما كانت تعرفها نظارة ماليتها. (ومنها) : أنهم كانوا يعلمون أن عبد الحميد يودع في كل سنة ما يزيد على نفقاته والمال الاحتياطي لها في بيوتهم المالية (البنوك) ، وهم يعرفون مقدار ما أودعه في تلك البيوت. (ومنها) : أن الاعتماد على الوهم في صيانة الدولة وحفظها مما لا يجنح إليه عاقل؛ لأنه عرض زائل، فإنْ أفاد عبد الحميد مدة وجوده فهو لا يفيدها بعد موته. (ومنها) : أننا ما رأينا آية ولا علامة لخوف دولة من الدول من ثروة عبد الحميد وخلافته عند حدوث الحوادث، ونزول الكوارث وإنما كانوا يطلبون منه الأمر الشائن المذل له ولدولته، فإذا راوغ وهددوه أجاب صاغرًا، وخنع متضائلاً، ولم ينس أحد تهديد فرنسا له في مسألة الأرصفة، وإنكلترا في مسألة العقبة، وإيطاليا في مسألة البريد. وما كان يساورنا من الذل والمهانة من سياسته معهم. ثم إنهم انتزعوا في أيامه معظم الولايات الأوروبية من الدولة، حتى إنه لو بقي سلطانًا سنة أخرى، لذهبت الولايات المكدونية التي هي سياج العاصمة بلا نكير. فاتقوا الله أيها المنتصرون لذلك المدمر المخرّب، فقد وضح الحق في ذلك لكل أحد. (١٣) بقي ما انتقده الصديق عليّ من إيراد آيات الإنذار من القرآن في المقالة التي كتبتها للعبرة بالانقلاب الأخير. قال: إنه لم يكن يليق بي أن أصوّب سهام آيات الإنذار من القرآن الكريم إلى عبد الحميد الذي لم يبق له شيء من الحول والطول، وإن ما جرى له ليس أمرًا كبيرًا بالنسبة إلى ما جرى لغيره من الخلفاء والملوك والكبراء، وذكر بعض من قتل وعزل من المتقدمين والمتأخرين. وأقول: إن الصديق - نفعنا الله بمودته - قد حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء؛ أهمها أن الكلام في تلك المقالة ليس من باب إظهار الشجاعة بمقاومة عبد الحميد، بعد أن صار مثلي ليس له سلطة. ولا خطر في بالي أن عبد الحميد يقرأها أو يعلم بها. وإنما هي تذكير لقراء المنار بعواقب الظلم والإفساد والبغي والغرور بالقوة والغنى والملك والسلطان، ومحاولة الفرد إذلال الأمة وقهرها؛ ليهنأ له التمتع بلذة السيادة ولوازمها فيها: ولو قتل عبد الحميد غيلة كما قتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لم تكن العبرة التي شرحناها تامةً في شأنه. إن صديقنا نظر في المسألة من الجهة الشخصية، فعد سقوط سلطة عبد الحميد كقتل عمر وعثمان والحسين - رضي الله عنهم - وأسر نابليون وعزل بسمارك وقتل مدحت باشا. وما أبعد الفرق بين هذه الحوادث، وأشد اختلاف وجوه العبرة فيها. لو صح ما رمى إليه لَمَا كان لنا فائدة فيما ذكره الله تعالى من العبر في هلاك المفسدين والظالمين؛ كفِرْعَون وآله، ومن عينهم، ومن أَبْهَمَ قصصهم من السابقين؛ بل لكان ذكرها في كتاب الله تعالى من اللغو الذي يتنزه كلام الله عنه. قَتْلُ عمر لم يكن إلا كموته، فما خاب به سعيه، ولا حبط عمله، بل لا يزال يضرب المثل بعدله. وفي قتل عثمان من وجوه العبرة ما ليس في قتل عمر؛ لأن لينه لبني أمية الطامعين أوجد في الأمة مقدمات الاستبداد، وولّد فيها جراثيم الفساد، فأنتج ذلك من الشر ما أنتج. وفي قتل الحسين عبرة أخرى مِن حيث إنه لم يعدّ للظالمين العدة الكافية بحسب سنن الله تعالى، ولم يكن تأثير ظلمهم قد بلغ الحد الذي يوجب سقوط دولتهم. وأما نابليون فلم يكن إلا مفسدًا في الأرض مغرى بسفك الدماء، فالعبرة في خذلانه يعد من باب العبرة في خذلان عبد الحميد. والحاصل أننا نذّكر صاحبنا بأن العبرة بالحوادث العامة غير مسألة الشماتة بقتل الأفراد أو عزلهم، وذلك مما لا يخفى عن علمه. فوهمه لولا أنه متألم مما جرى لعبد الحميد تألمًا ملأ جوانحه؛ لحسن اعتقاده بسياسته، وهو مخطئ معذور في ذلك، فعسى أن يكون قد استبان له الحق فصار من أنصاره، كما يليق بفضله وإخلاصه.