للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح علي


تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة
الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري
رئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية [١]

مولاي:
إن جامعة مصرية تدرس فيها آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية لجديرة بأن
تكون فيها حلقة لتعليم تاريخ الأدبيات العربية، فإن هذا التاريخ يا مولاي على تعدد
موارده وغزارة مناهله، لا يزال إلى وقتنا هذا شتيتًا، لم يقم بعد من يؤلف بين
أجزائه في رسالة يعول عليها سواء بالعربية أو بأية لغة أجنبية.
ما كان [٢] لأحد من رجال الأدب في العالم الإسلامي على سعته أن يفكر
في جمع مثل هذا المؤلف، فبقيت هذه الثغرة مفتوحة من وقت أن كانت سوق
الأدب نافقة إلى وقتنا هذا.
نحن لا ننكر أن بين أيدينا كثيراً من أمهات الكتب الأدبية، ولكن ليس فيها يا
مولاي ما ينقع الغلة ويبرئ العلة. فإن كتاب الأغاني مثلاً ومعجم الأدباء لياقوت،
ووفيات الأعيان لابن خلكان على جلالة قدرها، ليست إلا كتب تراجم. كما أن
كتاب الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لملا كاتب جلبي وكتاب اكتفاء القنوع
بما هو مطبوع للأستاذ إدوارد فان ديك Dyck Van E أولى لها أن تسمى فهارس
من أن تعد في طبقة الكتب التي تبحث في تاريخ الأدبيات العربية.
أخذ المستشرقون في أوربا منذ صدر القرن التاسع عشر الميلادي يكتبون عن
آداب العرب كتبًا بعضها يكاد يفي بالحاجة وبعضها ناقص من كل وجه، فكتب من
يدعى يوسف برلنجتن Berligton goseph رسالة صغيرة بالإنجليزية ترجمت فيما
بعد إلى الفرنسية (سنة ١٨٢٣) ، ثم جاء من بعده نويل ديفر جير الفرنسي
Dcsvergers Noel صاحب كتاب (بلاد العرب L'arabie) فاختص بعض
صحائف من كتابه بهذا الموضوع (سنة ١٨٤٧) ، وحذا حذوه في ذلك سديو edillot
صاحب كتاب (تاريخ العرب Arabas des L'histoire) سنة١٨٥٤، وفي سنة
١٨٩٠ قام أربثنوت Arbuthnot المستشرق الإنجليزي فألف رسالة عنوانها
(المؤلفات العربية Authors Arabic) غير أنها لا تفي بالغرض؛ لما فيها من
النقض. أما روسية وإيطاليا فقام فيهما عالمان هما فلادمير جرجاس Guirgass. V
والكافالييري فيلبو دي باردي Bardi de Filippo Cav. كتب أولهما رسالته
المسماة (خلاصة الآداب العربية) وألف الثاني رسالته المسماة تاريخ الآداب العربية
في عهد الخلفاء (Storia della Litteratura Arape sotto il Califfato) سنة
١٨٦٤ وكلتاهما على نفاستها لا تفي بالغرض.
أما اللغة اللمانية (الألمانية) فقد كتبت فيها بعض رسائل في الأدبيات العربية،
فقام المستشرق المجري همر برجبستال Purgstall - Hammer بتأليف رسالة
عنوانها (تاريخ آداب العرب der Araber Geschichte Litteratur) ظهرت في
مدينة ويانة بين سنة ١٨٥٠ وسنة ١٨٥٦ في ستة أجزاء، ولكن هذا العالم مع كثرة
بحثه في الكتب العربية، لم يخرج كتابه للناس تامًّا، فاستحق قول الشاعر.
ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام
ولكن جاء بعد العلامة بروكلمان Brokelmann الأستاذ بجامعة برسلاو
Breslau فأصدر أحدث كتاب في الموضوع سماه (تاريخ الآداب العربية
litteratur Arabischen der Geschichte) وهو يقع في جزئين اثنين، ظهر
أولهما في مدينة ويمار Weimar سنة ١٨٩٧ و١٨٩٨، وطبع الثاني في برلين
Berlin سنة ١٩٠٢، ومما يؤسف عليه أن هذا الكتاب النفيس قد شوهت محاسنه
إغلاط كثيرة في الطبع من حيث التواريخ، وفوق ذلك فإن تبويبه ليس كما يجب أن
يكون، وعبارته جافية ليس عليها مسحة من العذوبة التي يرغب فيها الأديب، فهو
من هذا القبيل أشبه شيء بالفهارس منه بكتب التاريخ، غير أنه كتاب لا بأس به
في هذا الباب، جزى الله مؤلفه عنا خير الجزاء، هذا، ولا يفوتني يا مولاي أن
أذكر أنه قد ظهر بعد كتاب الأستاذ بروكلمان بقليل مؤلف آخر لمستشرق فرنسي هو
مسيو هيوار Huart الأستاذ بجامعة اللغات الشرقية الحية speciale ecole
vivantes orientales des langues عنوانه (الأدبيات العربية LaLlttcratute
Arabe) وهو على صغر حجمه، يكاد يكون أوفى ما ألف في هذا الفن إلى
اليوم.
إذا تقرر ذلك بان لنا أننا لا نزال مدينين لعلماء أوربا في تدوين تاريخ الآداب
العربية، وإن كان هذا التدوين لم يصل بعد إلى طور الكمال.
ظهر يا مولاي في مصر من عهد قريب كتاب صغير الحجم عنوانه (أدبيات
اللغة العريبة) ، ولكنه لم يتعرض لتاريخ الأديان، بل اقتصر على ذكر مقتطفات
يسيرة من الشعر والنثر العربي مرتبة على العصور؛ ليتيسر حفظها لطلبة المدارس
الثانوية المصرية، فهو من هذا القبيل كتاب مطالعة أدبي أو صورة مصغرة من
كتاب مجاني الأدب المشهور، لا علاقة له بتاريخ الأدبيات العربية، ذاك التاريخ
الجليل.
هذا، ومما لا نزاع فيه يا مولاي أنه بالرغم عن ضياع جزء عظيم من أمهات
الكتب العربية، لا تزال البقية لباقية على قلتها (سواء كانت من الآداب المحفوظة
أو المطبوعة في الشرق أو الغرب) كافية جدًّا؛ لإنشاء تاريخ كامل لأدبيات اللغة
العربية.
إن قيام العلماء المستشرقين بأوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي بنشر
المتون العربية وترجمة بعضها إلى اللاتينية أولاً ثم إلى كثير من اللغات الأوربية
ثانيًا، وعنايتهم بجمع فهارس مضبوطة للمخطوطات العربية المحفوظة بخزائن
الكتب في أوربا (ذاك العمل الشريف الذي تم منه جزء عظيم للآن) وكذا نشر
فهارس الكتب المحفوظة في مساجد الآستانة وفي دار الكتب الخديوية بالقاهرة، كل
هذا يا مولاي قد ساعد علماء الإفرنج مساعدة عظيمة في درس الآداب العربية، ومن
السهل أن يساعدنا نحن أيضا على بناء هيكل بديع لتاريخ آدابنا إذا بعث الله فينا من
بين أدبائنا من يقوم بهذا العمل المجيد.
إن درس الآداب العربية منذ نشأتها، والبحث في أطوار نمائها ونهضتها ثم
سقوطها وعثرتها ثم بعثتها من رقدتها؛ إنما هو يا مولاي درس مفيد كله عبر،
وكيف لا يكون كذلك، ونحن نعرف بالبداهة أن تلكم المحاضرات النفيسة التي
يلقيها الشيخ الجليل العلامة جويدي في الجامعة المصرية، لا تخرج عن كونها بابًا
واحدً أو فصلاً من باب من أبواب تاريخ الأدبيات العربية، مقصورًا هذا الباب أو
الفصل على علمي التاريخ والجغرافيا.
إذا تقرر ذلك، علمنا أن درس هذه الأدبيات يجب أن يحل المحل الأول في
جامعة مصرية؛ إذ أن مما يؤسف عليه يا مولاي أن عدد من يعنى بهذه الأدبيات
بيننا معاشر المشارقة (سواء في مصر أو في سائر بلاد المشرق) لا يكاد يعدو
أصابع اليدين، وإذا تصفحنا أسباب هذا الجمود رأيناها ترجع إلى أمرين: ندرة
المؤلفات الكافية في هذا الفن من جهة، وانعدام المدارس الجامعة في بلادنا من
أخرى.
وبهذه المناسبة أورد هنا مسألة واحدة على سبيل الاستشهاد، ذلك أني لاحظت عند سماع المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي أن معظم الطلبة
(إن لم يكونوا كلهم) كانوا يجهلون أسماء مشاهير المؤلفين؛ كالمقدسي وابن واضح
وابن خرداذبه وابن حوقل وغيرهم، وهي حقيقة تثبت أن ناشئتنا في حاجة كبرى
إلى تعلم تاريخ الآداب العربية على طريقة منتظمة. أليس مما يؤلم يا مولاي أن يكون
المصري المتعلم ملمًّا بآداب الإنجليزية والفرنسية قبل أن يعرف شيئًا من
آداب أسلافه؟
هذا، وإني أتشرف يا مولاي، أن أقدم في طي تقريري هذا ملحقًا يشتمل
على برنامج مختصر عن سلسلة محاضرات في تاريخ الأدبيات العربية، وهو
برنامج لا بأس من إدخاله في الجامعة هذا العام، من غير أن يحدث ضررًا أو ينشأ
عنه تهويش ما في النظام الحالي.
فبدلاً من أن يكون عدد المحاضرات واحدة فقط في أيام الآحاد، يحسن إبلاغه
إلى اثنتين: تختص أولا هما بالحضارة القديمة، وتكون الثانية للآداب العربية. ثم
لا بأس من تخفيض عدد المحاضرات النفيسة التي يلقيها العلامة جويدي إلى ثنتين
في الأسبوع، حتى يحصل هنالك فراغ يتسنى شغله بمحاضرة ثانية على تاريخ
الأدبيات العربية.
(هذا ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أن تلكم المحاضرات الجليلة
التي يلقيها الأستاذ جويدي، لا تستغرق (على نفاستها) في الدفعة الواحدة أزيد من
ثلاثين إلى أربعين دقيقة؛ أعني أن هناك ثلاث محاضرات، مقدار كل منها أربعون
دقيقة، وهو ما يساوي مائة وعشرين دقيقة أو ساعتين في الأسبوع.
فلو جعلت محاضرات هذا العلامة ثنتين، مقدار كل منهما ستون دقيقة لما
اختل النظام في شيء، ولكان عدد المحاضرات مضروبًا في عدد الدقائق معادلاً
لمائة وعشرين دقيقة أي: ساعتين في الأسبوع وهو المطلوب) .
مولاي، إذا أتيح للجامعة أن تعثر على مدرس لتاريخ الآداب العربية، أصبح
عدد المدرسين ستًّا، يصيب كلاًّ محاضرتان في الأسبوع؛ أعني بذلك أيام العمل
الستة بعد استثناء أيام الجمع.
أنا يا مولاي، لا أعلم علم اليقين إذا كان ميزان دخل الجامعة، وخرجها في
استطاعته أن يحتمل مرتب هذا المدرس الجديد، غير أني أكاد أجزم أن هناك
بعضًا من الأدباء الضليعين بهذا الفن (على قلتهم في بلادنا) مستعد للتطوع في هذا
السبيل الوطني الشريف عند أول نداء، ثم هو لا يريد بعد ذلك جزاء ولا شكوراً.
مولاي، إنه ليس من الضروري أصلاً أن يكون انتقاء مثل هذا المدرس من
بين المتعممين، فإن مجرد حذق فني النحو والصرف والإلمام بكتابين أو ثلاثة من
كتب الأدب أو التاريخ، ليس كل ما يلزم توفره في هذا الباب. إنما يحب أن يكون
مدرس هذا الفن أديبًا بكل معاني الكلمة، وفوق ذلك فإنه ينبغي عليه أن يكون على
علم بالنهضة الأدبية القائمة سوقها الآن في أنحاء المشرق والمغرب، ولا يكون ذلك
كذلك حتى يكون عارفًا على الأقل بلغتين أجنبيتين الإنجليزية والفرنسية، كيما
يتمكن من تتبع خطى الحركة الأدبية في أوربا، ويطالع بإمعان أمهات الكتب التي
تكتب من آن إلى آخر بأقلام كبار العلماء المستشرقين، أولئك الذين وقفوا حياتهم
على إحياء آدابنا، بعد أن كاد يدركها العدم.
مولاي، لو كان هذا العاجز من أصحاب الألقاب الضخمة، أو ممن يتربعون
في دست الوظائف الكبرى في خدمة الحكومة لقدم نفسه طائعًا مختارًا جذلاً مرتاحًا
لخدمة الجامعة لا كأستاذ - فمعاذ الله أن أكون مغرورًا بنفسي أو مغرورًا بها إلى حد
أن تتطلع إلى ما لا تستحق - ولكن كخادم مخلص، أو بعبارة أخرى كوطني يقدم
نفسه، وما ملكت يمينه فداء للوطن المحبوب.
... ... ... ... ... ... القاهرة في ٣٠ يناير سنة ١٩٠٩
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح علي
... ... ... ... بمصلحة الري بنظارة الأشغال العمومية بمصر
(المنار)
أحسن الكاتب في اقتراحه وبيانه لوجه الحاجة إليه وترشيح نفسه له، ولعله
لم يكن يعلم أن هنا لجنة تؤلف كتابًا حافلاً في تاريخ الآداب العربية، وسيظهر
الكتاب بعد زمن قريب، إن شاء الله تعالى.