للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسين الهراوي


الفصل السادس
أثر التوحيد الاجتماعي

لم يكن الفضل في مبادئ الإسلام لشخص معين، قد علمت أن محمدًا - عليه
السلام - كان يضع نفسه موضع الإنسان، لا موضع صاحب السلطان، وكان
وحده المثل الكامل في البذل وفي العدل؛ فلم يستغل يومًا مركزه ودعوته العظمى
لنفسه ولا لشيء من حطام الدنيا، بل كانت دعوته خالصة لله ولتحرير الفكر، فلم
يأخذ نصيبًا من غنيمة يزيد على نصيب سواه، ولم يدِّع لنفسه شيئًا خارقًا، ولم
يقل أن صلته بالله - تعالى - تزيد على صلة العبد - وكلنا عبيد لله - ولم يفضل
الناس إلا بأنه رسول الله، وهذه منزلة اختاره لها الله، سبحانه وتعالى.
وكان أصحابه - عليه السلام - ينظرون إليه هذه النظرة أيضًا؛ ولذلك قال
أبو بكر حين توفي - عليه السلام - ودهش الناس للخبر: (من كان يعبد محمدًا
فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) .
وفي حياته - عليه السلام - لم يكن مستبدًّا برأيه في أمور الدنيا، بل كانت
أمور المسلمين شورى، وكان أصحابه يختلفون معه في الرأي، والتاريخ يدلنا على
أن سيدنا عمر اختلف في الرأي مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين
مسألة وعزز الوحي رأي عمر دون رأي رسول الله، أشهرها: مسائل قتل أسرى
بدر، ومسألة الحجاب، ومسألة الخمر، ومسألة الاستغفار للمنافقين، إلى غير ذلك.
هذه الحقيقة ترشدنا إلى مغزى كبير، وغاية كبرى من مغازي التوحيد والنظر
إلي أن الإسلام لا يجعل سلطانًا على النفوس والعقول والأفهام إلا الله وحده، وما
دون ذلك فالجميع سواء وآراء الناس كلهم قابلة للشورى والفحص ولو كان الرأي
لرسول الله نفسه.
وليس بعد ذلك وضوح لتقديس حرية الفكر، التي هي دعامة من الدعامات
الأصلية في الإنسان وهذا هو أظهر معنى من معاني الإسلام.
ولكن جماعة المستشرقين يعمدون إلى القاموس ويتفهمون منها معنى كلمة
الإسلام، ويقولون عنه ما قال مرجوليث إن معناه (الذل والخضوع) ومع ذلك لا
يقولون أنه استسلام لله، بل يقولون أنه الخضوع فقط.
ولقد رأيت في فصل التوحيد أن المعنى الذي تعبر عنه كلمة الإسلام هو معنى
تضيق به صفحات الكتب الضخمة، وأن له معني روحيًّا أو اجتماعيًّا كما سبق ذلك.
ولذلك كان أول أثر من آثار توحيد الله وترك المعتقدات القديمة هذا التوحيد
بين القلوب في قبائل العرب، وهذا التوحيد في الإخاء بين الشعوب المتفرقة،
وهذه النهضة الكبرى التي جمعت الأمم كلها تحت طابع واحد حين افتتح العرب
الأقطار وورثوا ملك الفرس والرومان.
وإنك إذا تصفحت التاريخ لعلمت أن الأمم الفاتحة الغازية لا تخرج عن واحدة
من ثلاث:
١ - أمة تتخذ الحرب صناعة وحرفة وموردًا للرزق كالأتراك الأقدمين في
فتوحاتهم؛ فلا يعمرون ما يفتحون.
٢ - أمة تجارية كالفينيقيين وإنجلترا تغزو الممالك لفتح أسواق لتجارتها.
٣ - أمة تطلب السعة من الأرض لضيق أهلها بها؛ فتغزو البلاد طلبًا لمنفذ
جديد يعيش أهلها فيه.
وهناك من الأمم من يفتتح الممالك حبًّا في الفتح، كالإسكندر، ونابليون
وأمثالهما، وهؤلاء تموت فتوحاتهم بموتهم.
ولم يحدثنا التاريخ أن أمة من الأمم فتحت الممالك لأجل بث فكرة، أو نشر
مبدأ غير العرب بعد الإسلام، فالعرب قاموا بفتوحاتهم لنشر المبدأ والفكر،
وتعميم الوحدة البشرية.
يتجلى لك ذلك من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك والأكاسرة،
ولم يكن في هذه الدعوة غير نشر فكرة التوحيد، ولم يكن - عليه السلام - من
زخرف الدنيا بحيث يحاكي من كاتبهم في الأرستقراطية والعظمة؛ ولكنه كان
يدعوهم دعوة ديمقراطية متواضعة.
يقول مرجوليث: (إن الإسلام هو الدين الحربي) مشيرًا بذلك إلى
الغزوات، وإلى مبدأ القتال في الفتح الإسلامي، وإلى تخيير الأمم غير الإسلامية
بين القتل والجزية.
وليست المسألة في غموض يدعو إلى كل هذا الغمز واللمز، فالجزية هي
نوع من الزكاة على غير المسلم [١] ، والإسلام دين فيه كل معاني الديمقراطية
الاشتراكية والحرب وسيلة.
ليس من ينكر أن للجهل عقوبة، وليس من ينكر أن الجمود الفكري
والاستسلام للتقاليد نوع من الرجعية العالمية، وليس لمستشرق أن يلوم الإسلام على
هذا، وليس له أن يضع رأيه في كفة ميزان ورأي عقلاء العالم أجمع في الكفة
الأخرى.
فها نحن أولاء قد عرفنا أن دعوة الإسلام لله وللعلم، وليس في هذه الدعوة
عار على الإنسانية.
وقد رأيت أن الزكاة فرض على كل مسلم، فكيف يعيش غير المسلم في هذا
الوسط من غير زكاة؟
وليس بيت مال المسلمين بمقصور على معاونة المسلم فحسب، بل وغير
المسلم بلا قيد ولا شرط.
وليس أدل على تفسير هذا المعني من مبادئ الإسلام التي شرحها النبي صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده، وقد رأينا من أعمالهم المساواة المطلقة بين
المسلم وغير المسلم، وفي قصاص سيدنا عمر من ابنه لأجل حق امرأة مسيحية
قبطية ألف دليل ودليل.
وفي قوله رضي الله عنه: (متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا)
كل مبادئ الإسلام من الحرية والإخاء والمساواة.
وفي وصايا سيدنا علي للأشتر النخعي الذي ولاه على مصر ما يزيد الشرح
ويجلي البيان، ولقد قال له:
(اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل
وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة
قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.. . ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم
أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) .
إلى قوله: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين،
وأهل البؤس، والزمْنَى فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا، واحفظ لله ما استحفظك
من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام
في كل بدل، فإن للأقصى منهم مثل ما للأدنى، وكلٌ قد استرعيت حقه، فلا
يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذربتضييعك التافه لإحكامك بالنظر في الكثير المهم) .
ومن هذا ترى أن الجزية والخراج هما تنظيم للإحسان، بلا فرق بين الأديان؛
لأنهم متساوون في نظر الإسلام من جهة الخلق، وليس جعل الإحسان قانونًا بعارٍ
على الإنسانية، وقد رأينا أن استجداء الضمائر للإحسان أخفق ولم يثمر في كثير
من البلاد المتمدنة، والارتكان على العاطفة الإنسانية وحدها لم يكف منذ هجر
الناس مبادئ الإسلام إلى اليوم.
ولعمري إنك لو اتخذت رسالة سيدنا علي هذه على حقيقتها لوجدتها تفسيرًا
واضحًا للسياسة الإسلامية، ويكفي قوله لعامله: (إن الناس إما أخ له في الدين أو
نظير له في الخلق) أن يعرف الناس جميعًا أن الإسلام لا يفرق بين الأديان في
المعاملة، والأخص في الإحسان، والحق في بيت مال المسلمين.
والتفسير النفسي لكل ذلك هو أن الإسلام يعامل الغرائز البشرية بميزان العقل
والحكمة، والتشريع الأوروبي يعامل الناس بالتجارب والاختبار، ولم يهتد إلى
الآن إلى أن الإسلام مبني على معرفة أدق بعلم النفس، فالله الذي خلق النفوس حدد
عقوباتها وحدد معرفتها، إذا علمت ذلك فلا اعتراض، ومن يقل: إن هذا ليس من
عند الله - فليأت ببرهانه المنطقي الذي لا شعوذة فيه، ويكفي أن مبدأ تحريم الربا أخذ
الآن يتطور في أوربا الحديثة إلى شكل الإفلاس في الدفع بتغيير أسعار العملة
وتخفيض قيمتها فلا يدفع المدين لدائنه شيئًا، ويكفي أن ألمانيا قللت من سعر عملتها
إلى الصفر لتجمع ذهب العالم، ثم ألغت هذه العملة.
وليس من المجهول أن عقوبة الجمود لازمة.
فالتعليم إجباري في كل بلاد أوربا له قوانين تحميه، وعقوبة الحبس توقع
على من لا يعلّم أولاده، وعقوبة السجن لمن يزوِّر في إيراده حتى لا يدفع ضريبة
الدخل، وضرائب الدخل والربح أصبحت مبدأ أوربيًّا بعد أن قررها الإسلام بشكل
أدق منذ أربعة عشر قرنًا في ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة.
فهذه المبادئ التي تتقدم إليها أوربا نتيجة الاختبار والتجارب هي المقررة في
الشريعة الإسلامية، فطلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، والنظام
الاجتماعي في الشورى، والسياسة العامة في الأمن، والعلاقات الشخصية كلها من
تعاليم القرآن.
ولعل أبلغ رد على تعامل أوروبا بالربا - وهي المعاملة التي حاربها الإسلام
وحكم عليها بالموت - هي تلك الظاهرة الغريبة التي تبدو في أوربا اليوم من قيام
حكومات اشتراكية محضة تحرم الرأسمالية وجمع الثروة في أيدي فئة خاصة وهو
سر تحريم الربا؛ لعدم استئثار فئة من الناس بالسلطة المالية والاستبداد بالعالم.
فهناك لما وقعت أوروبا في الأزمة المالية التي تنبأ بها الإسلام من التعامل بالربا،
لجأت أوروبا وأمريكا إلى طرق الحيلة بفصل العملة عن الذهب فهبط ثمن النقود،
وأخذت تراود في دفع الفوائد بعد أن نقصت رأس المال تخلصًا من ذلك الكابوس
الاقتصادي.
أفليست بهذه الطريقة تتلمس طريقها في الظلام لتهتدي إلى طريق الخلاص،
وشعاع واحد من أشعة الإسلام يجلو عن العالم ذلك الظلام الدامس وهو عدم التعامل
بالربا، ثم انظر إلى الخراب الذي حل بمن استدانوا من المصارف المالية وبيعت
أطيانهم بأبخس الأثمان، وما في ذلك من العبر.
إن العالم يسير اليوم على نظام اقتصادي أصبح ثابتًا، وليس من السهل
زعزعته بين يوم وليلة، ولكنه على أي حال نتيجة اعتماد الناس على تكفيرهم،
ولكنهم أيضًا يلجئون إلى التخلص منه من طريق التجارب، وهم يقتربون نحو
الحقيقة بخطوات وئيدة.
((يتبع بمقال تالٍ))