حدثت في أوائل الصيف من هذا العام الشمسي (١٩٢٥م) ثورة في سورية لم يسبق لها نظير، اقتدح زنادها زعماء دروز حوران، وتولى القيادة العامة لها سلطان باشا الأطرش الشهير، وقد سبق لهم ثورة أخرى كان هو قائدها أيضًا، ولكنها كانت ثورة صغيرة موضعية، وأما الثورة الأخيرة فهي ثورة سورية كبيرة، لا يزال يمتد لهيبها ويتطاير شررها، ولم تكن قسوة السلطة العسكرية الفرنسية وشدتها في مقاومتها إلا كمحاولة إطفاء النار بزيت البترول والبنزين والبارود، أي لم تزدها إلا قوة واشتعالاً، وقد أسرفت السلطة في القسوة حتى إنها دمرت المئات من القرى والمزارع على رؤوس أهلها، وأطلقت المدافع وقذائف الطيارات على الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق، فتبَّرت أهمَّ أحياء المدينة عمرانًا وثروة وآثارًا قديمة، وقتلت عددًا كثيرًا من النساء والرجال والأطفال، وخرج كثير من المخدرات من بيوتهن مع أطفالهن ما بين حافيات وناعلات هائمات على وجوههن، وأجهض كثير من الحوامل، وَجُنَّ مَنْ جُنَّ مِنَ العقائل، وفعلت السلطة نحوًا من ذلك في مدينة حماة التاريخية أيضًا، فقتلت من قتلت، ثم عذبت من عذبت من الأبرياء كما ثبت بمحاكمتهم في محكمة عسكرية فرنسية. ليس من موضوع المنار استقصاء الحوادث التاريخية، ولا من دأبه الوصف الشعري ولا المبالغة في تصوير حقوق أمته ومصالح قومه، أو هضم حقوق خصومهم، ولا سيما إذا كان بالباطل، وإنما موضوعه الذي يعنى به قبل كل شيء بيان الحقائق وفلسفتها ووجوه العبرة فيها، وبذل النصح لكل مستعد لقبوله، وتقرير المعروف للترغيب فيه، وإنكار المنكر للزجر عنه، وإنني أذكر هنا من الحقائق ما يعترف به المنصف وإن كان من خصومنا أنفسهم. *** جناية رجال فرنسة على سورية وعليها (١) إن ما عمله رجال فرنسة في سورية في بضع سنين قد حمَّل حكومتهم نفقات باهظة تقدر ببضعة ألوف الملايين من الفرنكات، قيل: إنها لو قسمت على هذه السنين لأصاب كل سنة قرابة ألف مليون، وخسرت به صيتها الأدبي وسمعتها السياسية والإدارية، حتى إن أشد الناس كرهًا للترك وطعنًا فيهم صار يرفعهم فوق الفرنسيس درجات كثيرة. وقد كان ما نشر من أنباء موبقاتهم في هذه المسألة من المقالات في الجرائد وما نظم فيها من القصائد، مُشَوِّهًا لسيرة فرنسة في المشارق والمغارب، وهادم لما شيدته لنفسها من حسن الصيت في عدة أجيال، أو من عهد ثورتها الكبرى إلى الآن، تلك الثورة التي ثل شعبها فيه عرش ملوكهم الظالمين، وينكرون ما دونها على السوريين، فهم يفخرون بمقاومة الفرنسي للظالم له ولو من قومه، ويذمون مقاومة السوري لظالمه الأجنبي عنه! ! ولو كان ما فعلوه في سورية خيرًا لهم وموافقًا لمصلحتهم، لما كان لنا أن نتكلم فيه معهم، ولكن ثبت به أن احتلال فرنسة لسورية كان شرًّا لسورية، وشرًّا لحكومة فرنسة وشعبها جميعًا، وأن حكومة فرنسا هي الظالمة لشعبها بما تحمّله من أعباء هذه النفقات الثقيلة في هذه السنين النحسات، وهي أحوج إليها في عسرتها الحاضرة، وبما تحمله على سفك دمه فيما ليس له منه فائدة مادية ولا أدبية، بل فيما فيه ضياع الفائدتين معًا، وأما الظالم للحكومة الفرنسية نفسها في هذا وأمثاله فهم الرجال الذين توليهم أمر البلاد، وتطلق لهم فيها العنان، فيعيثون فيها فسادًا، ويسمُّون إفسادهم إصلاحًا، ويتخذون لهم شهداء من أنفسهم ومن صنائعهم وعمالهم في البلاد، ومن المشاركين لهم في غنائمهم من أرباب رؤوس الأموال وأصحاب الصحف ورجال الأحزاب في فرنسة، يكذبون على الحكومة، ويرونها الباطل حقًّا، والمفسدة مصلحة، ويطعنون لها في الأحرار الصادقين، إذا تظلموا أو احتجوا عليهم، ويوهمونها أن ما يتظلمون منه ما هو بظلم، بل هو عين العدل والفضل، ولكنهم ينكرون الجميل ويغمضون الحق، إما لبغضهم لفرنسة لخبث طباعهم أو تعصبهم، وإما لمطامع لهم باطلة لم يجدوا مع العدل الفرنسي وسيلة إليها، وإما خدمة لدولة أخرى أجنبية يعملون لها. *** تفسير الانتداب الفعلي والقولي (٢) كل هذا التقتيل والتعذيب، والتخريب والتتبيب، والتدمير والتتبير، وما يتبعه من المغارم والمآثم، وموبقات الفضائح والمحارم، كله تفسير وتنفيذ بالفعل لكلمة جديدة وضعت في معاهدة الصلح بعد حرب المدنية في قاموس السياسة، وهي كلمة (الانتداب) . وضعت هذه الكلمة دولُ الحلف البريطاني الفرنسي الذين كانوا يسمون قتالهم للتحالف الجرماني بقتال الحق والعدل والحرية والحضارة، وليس كذلك بل هو للباطل والجور والهمجية واستعباد الأمم، وفسروه بأنه عبارة عن مساعدة الشعوب المحررة من العبودية الجديرة بالاستقلال على النهوض بأعباء استقلالها، إلى أن يزول ما يحول دونه من فقرها وضعفها، وتصبح قادرة على السير وحدها، وزعموا أن الباعث عليه الرأفة والرحمة، لا مجرد العدل، والمكافأة على مساعدتهم في تلك الحرب، وأن النادب لهم والداعي إلى هذه المكرمة الإنسانية والضامن للدول المنتدبة الرقيب عليها في تنفيذها كما فسرت إنما هو جمعية الأمم المؤلفة من مسين أمة ونيف، فهل يجوز إذًا في شرع الرحمة والمحبة أن تترك الدولة المنتدبة هذه الفضائل الإنسانية كلها، وتخفر عهد هذه الأمم والدول كلها، لأن بعض الشعوب التي تبذل لها هذه المساعدة لتنتفع بما نالت من الحرية والاستقلال تتألم منها، تأبى أن تقوى من ضعف، وتغنى من فقر، وتعز بعد ذل، وتتحرر بعد رق؟ فإين الفضائل الإنسانية؟ وأين العهود الدولية؟ تلك إشارة إلى مسافة الخلف من أقوال منفذي الانتداب وأفعالهم، ثم إنهم يطلبون منا أن نصدق وعودهم، ونثق بعهودهم، وهم يعلمون أن هذا غير مستطاع، ولكنهم يريدون إكراهنا بالقوة على أن نحمد مساوئهم، أو نسكت عنها؛ لئلا تجد الأحزاب المعارضة في مجلسي نوابهم وشيوخهم حجة يسلبون بها منهم هذا السلطان الاستبدادي المطلق الذي هو أعظم اللذات التي فتن بها البشر، فهم لا يبالون بما نعتقد نحن فيهم، وإنما يبالون بمن يقول الحق ويطالب بالعدل في بلادهم، وقليل ما هم. *** الفرق بين الشرق والعرب في احترام القوة (٣) إن شعوب أوربة شعوب دموية ما زالت تعتمد في جميع شؤونها على القتال وسفك الدماء حتى صار غريزة فيها، فكل اعتمادهم على القوة المادية الحربية، بل لما صار ذم القتال وسفك الدماء مما يذم عندهم بالكلام، ويتبرؤون منه برياء القول، ويدعون أن ما ينفقونه في كل عام من قناطير الذهب المقنطرة التي تجتاح معظم كسب شعوبهم على الاستعدادات الحربية من برية وبحرية وجوية لا يراد به إلا السلم، على أن هذه الدعوى على ما فيها من كذب ورياء حجة قطعية على أنهم لا يمكن أن يرتدعوا عن ذلك إلا بالخوف من القتال؛ لأجل هذا يقيسون طباع الشرقيين على طباعهم، بل قلبوا الحقيقة وعكسوا القضية فصاروا يزعمون أن الشرقيين لا يخضعون إلا للقوة، ولا يطيعون الأوامر إلا بالإذلال والإهانة، ونتيجة هذا أنهم لا يقبلون ما يُسْدونه إليهم من نعم الحماية والوصاية والانتداب إلا إذا حمل إليهم وحُمِلوا عليه بقوة الحديد والنار، وأقنعوا به بلغة قذائف المدافع والطيارات، وتدمير السيارات والدبابات، فهم يكررون هذه الأقوال كلما صالوا على شعب شرقي فدافع عن نفسه ولو بالحجج القولية المنطقية، فيكف إذا حَمل السيف مستبسلاً لتحميله ما لا يطيق يائسًا من إنصافه، كما يقولون اليوم في قضية ريف المغرب وفي قضية سورية. والحق الذي يشاهد اليوم ويحفظه التاريخ من قبل أن الشرقيين يخضعون للدلائل العقلية، وللوجدانات القلبية، وينقادون بالمسَّلمات المثالية والتخيلات الشعرية، فتغلب عليه المعنويات، كما استحوذت على الأوربيين الماديات، وأن المبالغة في الأمرين، مما يعد من عيوب الفريقين. وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي واستذلال الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي، وقد نبه بعض عشاق فرنسة من وجهاء الموازنة بعض مندوبيها السامين إلى هذا النقص، ونصحوا لهم بأن يراعوه في إدارة البلاد؛ ليتم لهم أمر السيادة فيها بسهولة وتكون راضية عنهم. حدثني حبيب باشا السعد المشهور عن نفسه أنه قال للجنرال غورو: إننا نحن الشرقيين نحب المجد الكاذب، فولونا أعمال البلاد الرسمية، واكتفوا بوضع مستشارين ومراقبين منكم معنا، يرشدون رؤساء الموظفين إلى ما تريدون منا، ونحن ننفذه لكم بأحسن ما تنفذونه لأنفسكم، وقد نصح لهم بمثل هذا صديقهم عبد الله باشا صفير وهو مؤسس الحزب السوري الفرنسي بمصر، وأقام لهم الدليل عليه بسياسة الإنكليز بمصر التي نجح فيها لورد كرومر أتم النجاح، وقد ذهل سعادة الباشا عند إسداء هذه النصيحة قولاً وكتابة عما بين الفرنسيس والإنكليز من التباين في الأخلاق والغرائز وأساليب الاستعمار، وهي لا تخفى على مثله، وقد بينها الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتبه التي وضعها لمباحث علم الاجتماع، على أن الإنكليز لم يَسلَموا من شذوذ الغرور بالقوة، وقسوة العظمة، واحتقار الشرق وأهله كما فعلوا في (حادثة دنشواي) وفي العراق والهند أخيرًا، ولكنهم لم يبلغوا فيه عشر معشار الفظائع الفرنسية في سورية، وقد أيقنوا أنهم كانوا فيه من الخاطئين المخطئين، وما رجع بعض كتابهم في هذه الأثناء قول الفرنسيين: إن أهل الشرق لا يدينون ولا يخضعون إلا لقوة النار والحديد إلا خداعًا وتغريرًا لهم ليتمادوا في بغيهم. *** عظمة فرنسة وقوتها الحربية (٤) مما يعتذر به الفرنسيس عن أعمال القسوة، والإمعان في التخريب والتدمير، والتصميم على حل مشكلة الثورة السورية بقوة الجند، واشتراط تسليم الثائرين سلاحهم بلا شرط ولا قيد - أن كل ما عدا هذه الطريقة من إدارة البلاد ومعاملة أهلها يذهب بكرامة فرنسة، ويزيل مهابتها من القلوب، ويوهم أهل البلاد أن الثوار أقوى منها، وهذا الاعتذار خطأ محض مبني على النظرية التي بيَّنا فسادها آنفًا، وهي أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يعترفون بفضيلة ولا كرامة للدول والأمم إلا للقوة والقدرة على التقتيل والتخريب، والحق الواقع يفند رأيهم ويؤيد رأينا، فإنهم كلما اشتدوا في القسوة اشتدت مقاومة الثائرين واستبسلوا في القتال، واستهانوا بالموت، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يقاتلون مختارين، فقتالهم أدل على أخلاقهم وما في أنفسهم من قتال الجند الفرنسي وكل جند نظامي، فإن الجند النظامي إنما يقاتل مكرهًا ومضطرًّا، إذ هو يعلم أن الفارَّ من الزحف جزاؤه القتل قطعًا، وأن الذي يثبت يجوز أن يبقى وأن ينال مكافأة على ظفره، وقد كان موقدو نار هذه الثورة خاضعين لفرنسة قبل إهانتهم واحتقارهم وهضم حقوقهم، ومغترين بوعود رجالها، ولم يبق أحد يصدق لهم قولاً ولا يثق منهم بوعد. وإنا لنعلم أنه لا يوجد أحد من قواد الثورة ولا من مساعديهم يعتقد أن الثوار أقوى من فرنسة وأقدر على الحرب، ولا أن سورية كلها تساوي فرنسة أو تقاربها في القوة الحربية، وإنما يحاربونها لأن رجالها ألجأوهم إلى القتال إلجاءً، واضطروهم إليه اضطرارًا، إذ أقنعوهم فعلاً بأن سلطتها لا تطاق ولا تحتمل، وأن القتل الشريف في سبيل الاستقلال، أفضل من الحياة في الذل والفقر والنكال، ولأن في السوريين من لا يزالون يظنون أن في فرنسة فضيلة غير فضيلة القتل والقتال يرجى أن تنتصر عليها - وأعني فضيلة الحق والعدل والعمران - وأن الثورة هي التي يمكن أن توصل إلى محبي الحق والعدل والعمران صوتَ سورية الذي عجز عن إيصاله إليهم أحرار السوريين بالحجج والبراهين التي يُدلون بها كل عام، وعند كل حادثة عظيمة وخطب فادح بما يخاطبون به جمعية الأمم وكبريات الدول وفي مقدمتهم فرنسة، وما ينشرونه في جرائد العالم؛ فيتصدى لتكذيبهم والطعن فيهم أنصار الأحزاب المالية والعسكرية والجزويتية الذين يستغلون سورية بما قدمنا أنه ضار بفرنسة حكومتها وأمتها لا بالسوريين وحدهم، ويظنون أن هؤلاء يمكن أن يؤلفوا مع طلاب الاقتصاد والأحزاب المعارضة قوة في مجلسي النواب تجبر الحكومة الفرنسية على إنصاف سورية، والاعتراف بحقها في الحرية والاستقلال، فإن صدق ظنهم هذا أمكن أن تستعيد فرنسة بعض ما فقدت من حسن صيتها السابق، وكان خيرًا للشعب الفرنسي ولحكومة الجمهورية الفرنسية من اعتقاد سورية أن فرنسة فقدت كل فضيلة إنسانية، وصارت كالوحوش المفترسة، ليس لها صفة تفخر بها إلا القتال والتخريب ولو فقدت به ثروتها وشرفها الأدبي. *** حظ الإنكليز من ثورة سورية (٥) قيل: إن الثورة السورية الحاضرة هي من دسائس الإنكليز، وإنهم هم المحركون لها، والممدون لنارها بالوقود، ولثوارها بالسلاح والنقود، وقد خاضت في هذه التهمة بعض الجرائد الفرنسية والمصرية، وهي تهمة باطلة سببها اعتقاد جميع الشعوب أن الإنكليز هم شياطين الإنس، لا تقع فتنة إلا بدسائسهم ووساوسهم، وهم يستفيدون من هذه التهمة لأن فرنسة تضطر بتصديقها لذلك إلى استعتابهم واسترضائهم بمساعدة تبذلها لهم، أو مصلحة لها تنزل لهم عنها، كما نزلت لهم عن الموصل حتى لا يعارضوها في احتلال دمشق، وما يدرينا أنهم يحتاجون الآن إلى مساعدتها على الترك في مسألة الموصل أيضًا، وأنها ستبذل لهم هذه المساعدة كما بذلت لهم الموصل نفسها، وكانت من نصيبها في معاهدة سايكس بيكو. إن الإنكليز لا يمكن أن يساعدوا الدروز ولا غيرهم من السوريين على قتال فرنسة؛ لأنهم يعلمون أن الذي يتجرأ على قتال فرنسة يتجرأ على قتال إنكلترة، فإنها ليست أعظم من فرنسة قوة عسكرية بل دونها، وكيف يساعدونهم على ذلك وهم يطمعون في أخذ بلادهم كما قال أحد كبار رجالهم لعربي يثق بإخلاصه لهم وقد سأله: كيف تتركون سورية لفرنسة وهي بين فلسطين والعراق، فقال له: هل رأيت إنكليزيًّا يلبس ثوبًا مرقعًا؟ قال: لا، قال: فافهم. أنا أؤمن بأن الإنكليز يعتقدون أن مآل سورية لهم، كما أؤمن بأنهم ليسوا هم المحركين للثورة السورية وأنهم لم يساعدوها، وأنهم لا يرون من مصلحتهم ظفر الثوار بفرنسة، ولا أن يتفقوا معها، وأنهم يتمنون لو تقلل عدد المسلمين والدروز في سورية، ولا يكرهون أن تستبدل الأرمن بالدروز في حوران ثم لبنان، كما تفعل هي في تغليب اليهود على العرب في فلسطين، وأؤمن مع هذا بأن الثورة تمهد لهم السبيل لما يعتقدون من المآل الذي ذكرناه، ولما هو أبعد منه؛ لأنه يورث العداوة ويورث الحقد بين فرنسة والسوريين وكذا سائر العرب والمسلمين، فإذا يئس السوريون من الاستقلال الصحيح فإنهم لا يرون بدًّا من توطين أنفسهم على الانضمام إلى العراق وفلسطين لما في ذلك من الفوائد الاقتصادية والأدبية والقومية، فإذا اتحدت سورية الكبرى مع العراق يكون المجموع دولة عربية غنية، فأي سوري أبله يفضل على ذلك ما تفعله فرنسة من جعل سورية الصغرى عدة شعوب، لكل شعب منها حكومة تسمى دولة، وهي سخرية لا يجهل عوام الحراث والعمال سببها والغرض منها. إن للإنكليز حزبًا في سورية يستطيعون دفعه للعمل في كل وقت، ولا يوجد أقوى منه في البلاد إلا حزب الاستقلال المطلق، وهم لا يدفعونه إلى العمل إلا عند ارتفاع المانع ووقوع المقتضي، وهم مشهورون بانتظار الفرص والوثوب عليها عند سنوحها، وفرنسة تقرب لهم الزمن، وتمهد لهم السبيل، وما هذه بالأولى لها في ذلك ولا بالثانية ولا بالثالثة ولا بالرابعة. كنت مرة أتكلم مع أحد فضلاء المصريين منذ بضع عشرة سنة في خداع الإنكليز للفرنسيس فقال لي: كان يعلمنا التاريخ في المدرسة الخديوية عالم فرنسي باللغة الفرنسية قبل تحويل التعليم إلى الإنكليزية، فذكر مرة مسألة تاريخية من هذا القبيل، وقال عقب ذكرها: قد خدعنا الإنكليز في ذلك فانخدعنا، ثم ذكر في سنة أخرى مسألة مثلها وقال هذا القول، فذكرته بالمسألة الأولى وقلت له: وكيف انخدعتم لهم ثانية وقد علمتم أولاً أنهم خدعوكم؟ قال: وهل وقف الأمر عند هذا الحد؟ كلا، إنهم سيخدعوننا أيضًا فننخدع. لا يحسبن أحد أنني أقول هذا للإيقاع بين الدولتين كما هو دأب كتاب السياسة، إنني لست مغرورًا بنفسي إلى هذا الحد، إنما أنا أكتب ما أعتقد، ولست أستنبط اعتقادي هذا من الثورة السورية الحاضرة، بل أنا أعتقده منذ علمت بنبأ معاهدة (سايكس بيكو) في اقتسام الدولتين لبلادنا، وقد قلته لكثيرين أذكر منهم شاهدين سوريين وشاهدًا فرنسيًّا: إنني عقب هدنة الحرب الكبرى وبعد احتلال فرنسة لسواحل سورية ابتعت طائفة من الأقمشة لإرسالها إلى أهل بلادنا (القلمون) بجوار طرابلس الشام؛ لكسوة من تركتهم الحرب فيه عراة لا يجدون ما يكتسبون به، فقيل لي: إن فرنسة تمنع ذلك، ولا بد من إذنها، فذهبت إلى دار معتمدها السياسي لطلب الإذن، فلقيت عند السكرتير الشرقي للمعتمد (وهو فرنسي يعرف العربية) حقي بك العظم وخليل أفندي زينية المشهورين، فجرى بيننا حديث في موضوع سورية أفضى إلى أن قلت للثلاثة: إنكم تعلمون أنني داعية استقلال لوطني، لا أرضى بحماية ولا وصاية من فرنسة ولا إنكلترة، وأقول لكم الآن: إنني أعتقد اعتقادًا مبنيًّا على طول التفكر والتروي أرجو أن تسمعوه وتكتبوه في مذكراتكم، وتدَعوه للزمان يصدقه أو يكذبه، وهو أن سورية لن تكون في المستقبل لفرنسة، بل هي ستكون مستقلة خالصة لأهلها إن شاء الله، أو لإنكلترة لا سمح الله. ولا يستطيع أحد من الفرنسيس ولا من أشياعهم أن يتهمني بأنني من حزب الإنكليز أو أبث الدعوة لهم، فإنهم جميعًا يعلمون أنني خلفت أستاذنا الأكبر السيد جمال الدين في الجهر بمعارضة السياسة البريطانية في المسألة العربية والمسألة الإسلامية بما يعلمون من الشدة، وأنني ما اشتددت في معارضة سياسة الشريف حسين وأولاده لجهلهم وظلمهم وسوء تصرفهم فقط، بل ذنبهم الأكبر أنهم صنيعة الإنكليز ويعملون لهم، وقد صرحت لكل من كلمته في هذه المسألة من كبار رجال فرنسة كغيرهم بأننا نعلم كغيرنا من الواقفين على أحوال الدول والأمم أن إنكلترة ألين ملمسًا وأحسن سيرة في الاستعمار من فرنسة، كما يشهد بذلك الدكتور غوستاف لوبون أكبر فلاسفة الاجتماع والتاريخ في فرنسة نفسها، وكنا نعلم هذا قبل أن نقرأ كتب هذا العالم الكبير، وقبل أن نرى في بلادنا شرًّا مما كنا نسمع ونقرأ من أخبار مستعمراتها الإفريقية، فماذا نقول اليوم؟ وقد عملوا في الشام ما لم يسمع بشر منه في تاريخ الشعوب الهمجية كلها إلا أن تكون فظائع التتار، ولقد ثار أهل العراق وأهل مصر في وجوه الإنكليز، وقتل العراقيون في ثورتهم من الجنود البريطانية أكثر مما قتل السوريون من الجنود الفرنسية أضعافًا، ولم تفعل جنود إنكلترة في القاهرة ولا في بغداد مثل ما فعلت جنود فرنسة في دمشق وحماه، دع تدميرها لقرى الفلاحين على رؤوس أطفالهم، نعم إن الإنكليز فعلوا نحوًا من هذا في الهند، ولكنهم لم يبلغوا شأو الفرنسيس ولا قاربوا. وجملة القول في هذه المسألة أن فرنسة تمهد لإنكلترة في سورية اليوم كما مهدت لها في مصر من قبل بطبعها لا بطوعها، وإنها لن تستطيع أن تبقى في سورية إلا تحت رحمة الإنكليز ولهذه الرحمة أجل وغاية، وإنها لا بد أن تؤدي لهم على سكوتهم عنها إلى منتهى ذلك الأجل أجرًا أو جعلاً أو مكافأة كلما أرادوا ذلك منها (أو كلما دق الكوز بالجرة) وأن ما أشير عليها به من الاقتداء بعمل الإنكليز في العراق لن يجعلها إن فعلته مساوية للإنكليز في نظر السوريين بحيث يفضلون بقاءها في سورية على اتحاد سورية الكبرى بالعراق، ولو تحت وصاية الإنكليز أو رعايتهم، وإنما الذي يمكن أن يفضلها به السوريون ويتبعهم فيه جميع العرب وكذا جميع المسلمين هو شيء آخر معقول عندنا، ويمكن أن يعقله الفرنسي في فرنسة لا في سورية، فإن الفرنسي إذا جاء سورية تبدل عقله وشعوره؛ لأنه يصير ملكًا مطلقًا يتمتع بجميع ما يشتهي في هذه الأرض فينسى مصلحة فرنسة لا مصلحة سورية فقط، وقد ذكرته لأحد كبار رجالهم في مصر فوافقني عليه، ولكن أمر تنفيذه ليس إليه، الذي يرضون به هو الاستقلال الحق المطلق مع مساعدة كالمساعدة التي بذلوها لمحمد علي باشا، وهم يبذلون لفرنسة من الجزاء المادي والأدبي عليه ما هو خير لها من هذا التحكم الجائر بسلطانهم القومي والتصرف القاسي، الذي يتلذذ به موظفوها المعددون، وتخسر هي من أموالها ورجالها وصيتها الأدبي ما ذكرناه في أوائل هذا المقال. (للمقال بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))