للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكرامات والخوارق
المقالة الثالثة عشرة
في أنواع الخوارق وضروب التأويل

(النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء)
قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي
الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة
منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع
الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن
حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في
جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء
والمركب وسرنا.
وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب
المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات،
وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى
ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من
اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات
يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن
روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر
عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه.
إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر
تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص
والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال
أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في
تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو
غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن
المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض
حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها
ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم،
إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن
تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل.
وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو
من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في
الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد
خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا
بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي
يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون
به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟
وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى
نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم
كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في
الأمور الروحية في موضع آخر.
(النوع الرابع: انقلاب الأعيان)
قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ
إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم
يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات.
أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك
ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في
إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم
في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا
هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي
الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب
في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة
بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت
البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث
كان الماء.
ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال
الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه،
فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع
الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار
لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو
أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه
التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه
لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من
أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل.
(النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها)
قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى
زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر
المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول:
إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال
فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على
أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم
أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما
يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء
وغيرهم قال:
وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها
وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك
زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه
كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع
الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين
لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع
صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع
الحكايات تواترًا معنويًّا؟ !
ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس
والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف
سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي
الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه
ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار
حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم
مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي
من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من
المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون
الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون.
هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما
التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر
في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح
فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر
النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية
فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر
فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس.
((يتبع بمقال تالٍ))