للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرد على الشيخ بخيت
تابع لما في الجزء السادس
المسائل الدينية
(المسألة الأولى: متن الحديث)
نص حديث جابر عند ابن ماجه أورده الشيخ بخيت محرَّفًا فأشرنا إلى ذلك في
تلك الجملة الوجيزة، وكان غرضنا من تلك الإشارة الفرق بين عبارة الحديث عنده
وهي (إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سَوْطَه) وعبارته عند راويه (ابن ماجه)
وهي (إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه) فقوله: (بسلطان) معناه
(بسلطة) فيشمل كل سلطة لكل قوي. وقد اكتفينا بالإشارة لأنه لم يكن من
غرضنا تفصيل خطأ المستنبط الجديد بل عدم الثقة باستنباطه، فلما أراد أن يرد
علينا كل ما قلناه - وإن كان حقًّا - رجع إلى الكتب التي من شأنها أن تذكر هذا
الحديث وكتب بعد ذكر عبارتنا في تصحيح الرواية ما نصه (ص٣٢) :
(ونقول في الرد عليه: قد ذكر في (البرق الوميض) حديث جابر باللفظ الذي
ذكرنا وعزوناه في الرسالة إليه، وقد ذكره في (كنز العمال) مطولاً ونسبه للبيهقي
وفيه ألفاظ لا توجد في البرق، وجاء في آخره: ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً ولا يَؤُمَّنَّ
أعرابيٌّ مهاجرًا ولا يَؤُمَّنَّ فاجرٌ مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه.
اهـ. وقد ذكره في منتقى الأخبار باللفظ الذي ذكره المعترض، ولعله لقصوره
قصر الرواية عليه) . اهـ.
ثم ذكر بعد هذه الجملة أن الحديث ذكر في (المهذب) و (شرح الإقناع) قال
(وذكره ابن ماجه في سننه مطولاً) وذكر آخره عنه وفيه: (إلا أن يقهره بسلطان)
ثم ذكر أسماء بعض الفقهاء الذين أوردوه في كتبهم واستنبط من ذلك أن (كل من احتج
به في موضع اقتصر منه علي موضع حاجته في الاحتجاج، وكل ذلك جائز لم يقل
بمنعه أحد ولا ضرر في اختلاف الألفاظ مع اتحاد المعنى، ألا ترى أن ابن ماجه قد
ذكره في سننه بلفظٍ، والبيهقي قد ذكره بلفظٍ، ومنتقى الأخبار قد ذكره بلفظٍ؟
ولكن حب الاعتراض على الناس يُعْمِي ويصمُّ، نعوذ بالله من ذلك) . اهـ.
أقول: قد أخطأ الشيخ بخيت في هذا المقام من وجوه:
(أحدها) أن كلامه في رسالة السكورتاه كان في رواية ابن ماجه لحديث
جابر لا في الحديث علي الإطلاق، ورواية ابن ماجه ليس فيها اختلاف وليست كما
أورده فهو قد نسب إلى ابن ماجه تحريف الحديث، أو نسب إليه ما لم يروه. ولا
يخرجه من هذه الورطة كون غير ابن ماجه قد رواه باللفظ الذي ذكره إن صح ذلك.
(ثانيها) قوله: إنه عزا حديث جابر إلى (البرق الوميض) غير صحيح،
فإن المتبادَر من عبارته في رسالة (السكورتاه) أنه نقل الحديث عن سنن ابن ماجه
نفسها فإنه قال ما نصه: (ومما يدل علي أنه لا يشترط للسلطان الذي يقلد
القضاة ويأذن بالجمعة أن يكون مسلمًا، بل يجوز ذلك من السلطان الكافر - ما
أخرجه ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: ... ) وساق الحديث وذكر في آخره (اهـ) ثم قال في
ابتداء كلام هكذا:
(ولذا قال في النهاية وغيرها: ويجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز
من العادل وذكر في (الملتقط) والإسلام ليس شرطًا فيه، أي في السلطان الذي يقلد.
اهـ. كلامها) .
ثم ابتدأ كلامًا جديدًا هو حكاية قال في آخرها: اهـ. من البرق الوميض،
فهل يفهم أحد من ذلك أنه نقل حديث ابن ماجه من البرق الوميض؟ ! كلا، بل هو
يغالط أو يكتب ما لا يريد ثم لا يفهم ما يكتب!
(ثالثها) : إن البرق الوميض ليس من كتب الحديث التي يُعتمد عليها
ويوثق بها فاحتجاجه بنقله لحديث ابن ماجه لا قيمة له. ولعل اقتصاره على نقل
الحديث عنه أدل على قلة الاطلاع - ولا نقول على الجهل بالحديث وكتبه - من
اقتصارنا على عبارة منتقى الأخبار الذي هو من كتب الحديث المشهورة المعروفة
بالضبط وصحة النقل.
(رابعها) قوله: إن (كنز العمال) نسب حديثه المطول إلى البيهقي يفهم منه
أنه لم يعزُهُ إلي مخرجه الذي عزاه هو إليه، وهو ابن ماجه، والصواب أنه عزاه
إلي ابن ماجه فالبيهقي ولا نقول: إن الشيخ بخيتًا لا يعرف أنهم يرمزون إلي ابن
ماجه بحرف (هـ) .
(خامسها) ذكره ابن ماجه في جملة من رووا الحديث، والكلام في روايته
خاصة تحصيل حاصل لا يصدر من محصل.
(سادسها) إن الذين احتج باختلافهم في إيراد الحديث ليسوا كلهم رواة له
وإنما هم ناقلون، فالراوي للحديث هو ابن ماجه، وكذلك البيهقي كما في (كنز
العمال) وليس صاحب (كنز العمال) من أهل التخريج وإنما هو ناقل، وكذلك
الفقهاء الذين ذكرهم، فلا يحتج بنقل أحد منهم، وإنما يجب الرجوع إلي كتب أهل
التخريج وقد علمت نص ابن ماجه، وأما البيهقي فهذا نصه كما في السنن الكبرى
له:
(أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ببغداد أخبرنا أبو
جعفر محمد بن عمر بن البحتري أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي أنا يزيد بن
هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق حدثني الوليد بن بكير أخبرنا عبد الله بن محمد
عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل أن
تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له
وكثرة الصدقة في السر والعلانية تُؤجَروا وتحمدوا وترزقوا، واعلموا أن الله عز
وجل افترض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي
هذا إلي يوم القيامة من وجد إليها سبيلاً، فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودًا بها
أو استخفافًا بها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره،
ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا زكاة له ألا ولا حج له ألا ولا بر له حتى
يتوب فإن تاب تاب الله عليه. ألا ولا تؤمن امرأة رجلاً ألا ولا يؤمن أعرابي
مهاجرًا ألا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا لمن يقهره بسلطان يخاف سطوته) عبد الله بن
محمد هو العدوي منكر الحديث لا يتابَع في حديثه، قاله محمد بن إسماعيل البخاري.
اهـ. قول البيهقي.
أقول: ومنه تعلم أن طريقه هو عين طريق ابن ماجه لا طريق آخر كما زعم
الشيخ بخيت، وأنه أورد الحديث وبيَّن جرح راويه؛ ليعلم أنه لا يُحْتَج به.
ومن نص سنن البيهقي الموافق لنص سنن ابن ماجه في قوله (إلا أن يقهره
بسلطان) تعلم أن ما في كنز العمال من النقل عنهما محرَّف.
وأما الطبراني فلم يُخَرِّج هذا الحديث، وإنما حديثه خاص بفريضة الجمعة
ليس فيها ذكر الإمامة ولا القهر بالسلطان فهو لا يعد طريقًا ليقوى به الحديث، فما
هذا الغش والتلبيس؟ !
***
المسألة الثالثة: سند الحديث
ذكر الشيخ بخيت عبارتنا في تلك العجالة في كون الحديث منكرًا أو موضوعًا
لقول البخاري في رواية التميمي: منكر الحديث، وقول وكيع فيه: يضع الحديث،
ثم إننا أخذنا ذلك عن الشوكاني ونقل هو عبارة الشوكاني، وفيها ما ذكر عن البخاري
وعن وكيع ثم قال (ص٣٤) (ولم يقل الشوكاني: إن الحديث منكر أو موضوع كما
اجترأ عليه المعترض من نفسه، ولا يلزم من الطعن في رجال الحديث الطعن في
نفس متن الحديث علي ما سيأتي بيانه، ونذكر لك ما قيل في رجاله لتقف على حقيقة
الحال ثم نتبعه بما يتعلق بحال المتن) .
ثم ساق سند ابن ماجه ونقل بعض ما قيل في رجاله واحدًا واحدًا ثم قال (ص
٣٨) :
(ومما أوضحنا لك في الرجال تعلم أن كلاًّ من محمد بن عبد الله بن نمير
والوليد بن بكير ثقة عدل لا طعن فيه، وقد روى الوليد وهو ثقة هذا الحديث عن
عبد الله بن محمد العدوي ورواه محمد بن عبد الله بن نمير وهو ثقة عن الوليد، وقد
تابع محمد بن عبد الله العدوي في هذا الحديث عبد الملك بن حبيب، وأن الطعن فيه
غير مُسَلَّم ولم يتفقوا عليه وأن علي بن زيد قد روى عنه قتادة والسفيانان والحمَّادان
وخلق، وكفى بذلك توثيقًا وتعديلاً، وقد خرَّج له الأربعة والبخاري في الأدب
ومسلم في صحيحه، وإن قرن معه غيره. وبالجملة فلم يطعن على أحد من رجال
هذا الحديث بالفسق وعدم العدالة، وعلى فرض تسليم الطعن فغاية ما يقتضيه
ضعف هذا الراوي المطعون فيه، وضعف الرواة لا يسقط الاحتجاج بالحديث إلا
إذا عارضه ما هو أقوى فيقدم عليه، ولم يوجد ما يعارض هذا الحديث بل وجد من
الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع ما يشهد بصحة معناه ويؤيده كما يأتي، وكون
الراوي منكر الحديث لا يقتضي أن متن الحديث الذي رواه منكر فإن المنكر قد
اختلفوا فيه فقال في التنقيح: هو ما لم يروه أصحاب السنن والمسانيد والصحيح
ولا يوجد له أثر في كتاب من كتب الأمهات كمسند أحمد ومعجم الطبراني ومصنف
ابن أبي شيبة وغيرهم مع شدة حاجتهم إليه. اهـ) .
ثم ذكر أقوالاً أخرى في الحديث المنكر لمتأخري المحدثين، واعتمد قول
التقريب بالتفصيل فيه كالشاذ قال: (وقد عملت أن من الشاذ ما يكون صحيحًا وما
يكون حسنًا فيكون المنكر كذلك ... ) إلخ.
أقول: كلام الشيخ بخيت هنا يدل علي أحد أمرين: إما أنه لا يعرف علم
الحديث ولا بوجه الإلمام، وإنما يراجع الكتب عند الحاجة فيكتب عنها ما يلوح له
أنه يوافق غرضه، وإما أنه يحرف الكلم عن مواضعه ويدلس و.. و.. عامدًا
عالمًا. والأول هو الأظهر، ومن الدلائل علي ذلك من كلامه هذا ما ترى من أنواع
الخطأ وهي:
١- جعل الوليد بن بكير كمحمد بن عبد الله بن نمير عدلاً لا طعن فيه، وقد
قال الذهبي في الميزان: ما رأيت أحدًا وثَّقه غير ابن حبان، وقد نسب بعضهم ابن
حبان إلى التساهل في التعديل، وقالوا: إنه واسع الخطو في باب التوثيق يوثق
كثيرًا ممن يستحق الجرح، وفي تدريب الراوي للسيوطي وفتح المغيث للسخاوي
تفصيل في ذلك محصله أن له اصطلاحًا خالف فيه غيره منه أنه كان يجعل الحسن
صحيحًا، وأنه كان يوثق من لم يطعن فيه أحد. ولم يعتمد الذهبي قول أبي حاتم
فيه (شيخ) توثيقًا وكلمة (شيخ) عند أبي حاتم في المرتبة الثالثة قال في صاحبها:
(يُكتب حديثه ويُنظر فيه) أي يكتب لأجل البحث عنه، فهل يقال في مثل هذا:
إنه ثقة كمحمد بن عبد الله بن نمير الذي روى عنه الشيخان؟ !
٢- قوله: إن الطعن في عبد الملك بن حبيب غير مسلَّم، هو حكاية لقول
المقري المؤرخ صاحب نفح الطيب، وهو ليس من أهل الجرح والتعديل، وقوله
هذا لا يُعْتَدُّ به فإن الجرح المفسر مقدم على التعديل لا سيما إذا أيَّد بعض أهل
الجرح فيه بعضًا. وألفاظ الجرح فيه كثيرة منها ما نقله الشيخ بخيت عن الشوكاني
وعن ابن لباب ومنها ما ذكره الذهبي في الميزان عن ابن حزم أنه قال فيه: ليس
بثقة، وقال: روايته ساقطة مطروحة. وعن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس أنه قال
فيه إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث، وضعَّفه غير واحد ثم قال: وبعضهم اتهمه
بالكذب وقال ابن حزم: روايته ساقطة مطروحة أقول: فإذا أجللناه عن الكذب فهل
نُجِلُّهُ عن القول بالجهل بالحديث الذي أيَّد كلام ابن لباب فيه قول الحافظ أبي بكر
إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث؟ والحافظ الذهبي نفسه قد وصفه بذلك مع اعترافه
بعلمه فإنه قال فيه: (كثير الوهم صحفي) ويؤيد هذا ما نقله بخيت من مسألة
الغرارة، والجواب الذي نقله عن المقري فيها ليس بشيء فإن الذين يقولون
بالإجازة لا يعدون من أجيز بغرارة من الكتب (أي جولق) لم يقرأها ولم تقرأ عليه -
راويًا لها ضابطًا لما فيها بحيث يُحتج بمتابعته في تقوية منكر الحديث، فليت شعري
هل فهم الشيخ بخيت هذا فأغمض فيه أم لم يفهمه؟ !
٣- قوله: إن علي بن زيد قد روى عنه فلان وفلان وكفى بذلك توثيقًا -
مردود بأن رواية من ذكر عنه لا تدل على عدم الطعن فيه، بل الطعن فيه منقول
فقد قال الإمام أحمد فيه: هو ضعيف، وقال البخاري وأبو حاتم: لا يُحْتَجُّ به. ولا
ينافي ذلك رواية البخاري عنه في الأدب المفرد فإنه يروي فيه عن الضعفاء ولو لم
يكن ضعيفًا عنده لروى عنه في صحيحه. وكان ابن عيينة يضعفه وقال حماد بن
زيد أخبرنا علي بن زيد وكان يقلب الأحاديث. وقال الفَلاَّس كان يحيى القطان يتقي
الحديث عن علي بن زيد. وطعن آخرون فيه فراجعْ مع هذا سائر ما قيل فيه في
ميزان الاعتدل.
٤- قوله: بالجملة فلم يُطعن على أحد من رجال هذا الحديث بالفسق وعدم
العدالة - مما يُتعجَّب منه. فإن الطعن بالفسق ليس من ألفاظ جرح الرواة الدال على
عدم الاحتجاج بروايتهم، وكأن الشيخ بخيتًا ظن أن شأن المحدثين في الرواة كقضاة
المحكمة الشرعية في الشهود، بل كشأن تحوت العامة في طعن بعضهم بعض، فإن
كان هذا فهو آثم فإنهم رضي الله عنهم ما كانوا يقولون: إن فلانًا لا تقبل روايته لأنه
فاسق أو زانٍ أو مرتشٍ، بل جعلوا للجرح مراتب ليس فيها شيء من قبيل ألقاب
السباب إلا لفظ الكذب ويذكره الجمهور للضرورة، ومنهم من يتنزه عنه كالبخاري
وقلما يصرحون بفسق الفاسق، وكل ما نقلنا عنهم من ألفاظ الجرح في رواة هذا
الحديث معناه أن المجروح ليس عدلاً؛ إذ الجرح يقابل التعديل ولا حاجة إلي
التصريح بكلمة (غير عدل) وما في معناه. فليبحث في كتب هذا الفن عن مراتب
الجرح يتبين له ذلك ويعلم أن قوله: لم يطعن على أحد من رجال هذا الحديث..
إلخ - لا يفيده في تقوية سنده وجعله مما يحتج به. وقد علم القراء ما قيل في غير
محمد بن عبد الله بن نمير منهم، وحسبهم أن البخاري قال في راوي الحديث: إنه
منكر الحديث. ومن اصطلاحهم أن مَن قال فيه ذلك لا تحل الرواية عنه، فهل يقول
الشيخ إن مَن لا تحل الرواية عنه ثقة عدل يحتج بحديثه؟ !
٥- قوله: ضعف الرواة لا يسقط الاحتجاج بالحديث.. إلخ - خطأ يأتي بيانه
بعد.
٦- قوله: إنهم لم يتفقوا على الطعن بعبد الملك لا يفيد -على تقدير صحته -
إلا إذا كان يشترط في الاعتداد بالجرح الاتفاق عليه.. وليس الأمر كذلك بل الجرح
مقدم علي التعديل مطلقًا أو بشرط كونه مفسرًا.
٧- قوله: وكون الراوي منكر الحديث لا يقتضي أن الحديث منكر - لا يفيد
بل يقوي الحجة عليه إلا إذا صح قوله: إن ضعف الرواة لحديث لا يسقط الاحتجاج
به، ولن يصح فإن كون الراوي منكر الحديث جرح له يمنع الاحتجاج بحديثه عند
البخاري، وقد يكون الحديث منكرًا وهو مما يحتج به على القول بأنه بمعنى الشاذ،
وهو ما اعتمده وإن كان غير معتمد في نفسه، وإنما المعتمد من أقوال كثيرة أن بين
المنكر والشاذ عمومًا وخصوصًا من وجه يجتمعان في كون الراوي قد انفرد برواية
كل منهما، وينفرد الشاذ بكون راويه ثقة، والمنكر بكون راويه ضعيفًا (انظر
كشاف اصطلاحات الفنون) وإنما توهم أن الشاذ والمنكر واحد من اختلاف القوم
في الاصطلاحات.
وإنما قلنا في تلك العجالة: إن الحديث منكر أو موضوع بناءً على انفراد
محمد بن عبد الله التميمي به وعدم الاعتداد بمتابعة عبد الملك بن حبيب له؛ لأنه
ليس من أهل الرواية، وقد نصوا على أن التميمي هذا لا يتابع. وإذا تفرد منكر
الحديث أو من يضعه بحديث كان متن الحديث منكرًا أو موضوعًا. فإذا أثبت الشيخ
بخيت أن لهذا الحديث روايات أخرى يكون قولنا ذاك خطأً سببه عدم اطلاعنا علي
تلك الروايات وأين هي ومَن هم رجالها.
***
آية من آيات دقة الشيخ بخيت
في علم الحديث
قال في آخر (ص٤٠) بعد ما تقدم:
(وقول ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به شهادة نفي، قال في الرحمة المرسلة
للحافظ عبد الحي الكتاني الفاسي: وقد قال الحافظ ابن حجر في القول المسدد في
الذَّبِّ عن مسند أحمد في حديث قال ابن حبان فيه: (إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يقله ولا عمر ولا سعيد ولا الزهري) ما نصه: قول ابن حبان شهادة نفي
صدرت من غير استقراء تام على ما سنبينه فهي مردودة. اهـ. وقال الذهبي:
الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع. اهـ. فقول الشوكاني تالف
لا يقبل وقول وكيع: يضع الحديث، لا يقتضي أن هذا المتن موضوع ولو كان
موضوعًا ما رواه أولئك الأعلام ويسكتون عليه ولا يبينون ذلك وقد علمت متابعة
عبد الملك بن حبيب وعدم تسليم الطعن فيه وقول ابن حجر: واهي الحديث وقول
ابن عبد البر: هذا الحديث واهي الإسناد وقول البيهقي: لا يتابَع في حديثه - كل
ذلك لا يقتضي كون هذا المتن واهيًا، قال الحافظ عبد الحي الفاسي في الرحمة
المرسلة: لأن تعدد الطرق مانع من كون الحديث واهيًا شديد الضعف؛ لأن
الضعف إذا حصل له أدنى انتعاش واستئناس أحدث فيه قوة ومعلوم أن ضعيفين
يغلبان قويًّا!) . اهـ.
أقول: قد علم القراء أن هذا الحديث لم يُرْوَ إلا من طريق محمد بن عبد الله
العدوي التميمي الذي تكرر ذكره، والشيخ بخيت ينقل كل هذه المطاعن فيه وهي
أشد ألفاظ الجرح عند المحدثين ثم لا يراها جارحة له مسقطة لعدالته مانعة من
الاحتجاج بحديثه، ومن دقيق علمه أنه لا يفرق بين قولهم: فلان لم يحتج به،
وقولهم: فلان لم يقل كذا؛ إذ جعل الأول كالثاني شهادة نفي، ولعله عندما يعود
إلى عبارته هذه يستحي منها! وإذا علم أن تلاميذه رأوها وفهموها يستحي أن يظهر
بينهم بصفة المعلم؛ إذ لا أظن أنه يخفى عليهم أن قول أهل الجرح والتعديل: فلان لا
يجوز الاحتجاج به - معناه أنه غير عدل، فعبارة ابن حبان بمعنى قول البخاري منكر
الحديث أي لا تحل الرواية عنه أو هذه أشد، وأما قولهم: إن فلانًا لم يقل كذا، فلا
معنى له إلا أن القائل لم يعلم بأنه قال لعدم استقرائه.
وهل علمت أيها القاريء من هو الحافظ عبد الحي الكتاني الفاسي الذي يقتبس
الشيخ بخيت من علمه بالحديث ويحتج بقوله ورأيه؟ ! هو الشيخ الكتاني المغربي
الذي مر على القاهرة في العام الماضي و (الرحمة المرسلة) رسالة له حاول فيها
تحسين حديث البسملة (كل أمر ذي بال) وقد جعله الشيخ بخيت حافظًا ليحتج بكلامه
ولا فخر له في ذلك فإن الذي جعله من الحُفاظ لا يعرف علوم الحديث!
وجملة القول في سند هذا الحديث: أن الشيخ بخيتًا ادعى أنه لم يطعن أحد
في رجال سنده عند ابن ماجه بما يسقط عدالتها، وأنه مروي من عدة طرق يقوي
بعضها بعضًا، وأن الأعلام رووه وسكتوا عليه، وأن متابعة عبد الملك بن حبيب
للتميمي عليه معتبرة، وكل هذه الدعاوى باطلة كما علم مما تقدم على اختصاره.
((يتبع بمقال تالٍ))