قلنا: إن الطريقة المثلى لإبطال منكرات الموالد (وغيرها) إنما هي طريقة الوعظ والتعليم، وقلنا: إن ذلك على ثلاثة ضروب: الخطابة - وقراءة علم الأخلاق والآداب - وسلوك طريق التربية عملاً وتحققًا وهو المعبر عنه بالتصوف. ولا شك أن هذه الثلاثة لو أعطيت حقها من العناية لنهضت الأمة نهضة الأسود، فاستردت مفقودًا، وحفظت موجودًا، وبعثها الله مقامًا محمودًا، هذه الثلاثة هي الأركان التي قام عليها بناء الإسلام، وحفظ مجده بمراعاتها إلى أجل مسمى، وما انثلمت هذه الأركان في مكان إلا انثلم شرف الإسلام، وما تقوض صرح عزة في قطر إلا بعد أن تقوضت هذه الأركان الثلاثة، يشهد بهذا تاريخ هذه الأمة لمن نظر بعين التأمل والاعتبار. ولا نطلق للقلم العنان للجري في هذا المضمار، كما يشاء، فقد وعدنا أن نخص القول فيما يتعلق بمنكرات الموالد، ووفاء بالوعد نقول: الركن الأول: الخطابة يمكن للجنة العلماء التي تجتمع للمذاكرة في إبطال المنكرات أن تكلف أحد أعضائها الفصحاء بإنشاء خطب تزجر عن هذه المنكرات زجرًا مفصلاً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وتبني للناس حقيقة التوحيد، وأن الأولياء أحياءً وأمواتًا {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} (الفرقان: ٣) ، بل توضح لهم أن القرآن صرح بأن النبي (بله الولي) بشر مثلنا وإنما يتميز على سائر الناس بما منحه الله به من الوحي الذي يعمل به على الوجه الأكمل، ويعلمه الناس، وأنه ليس عليه إلا البلاغ والتعليم، فلا يقدر على هداية أحد من نفسه {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: ٢٧٢) {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: ٥٦) ، وإذا كانت الهداية التي جاء لأجلها لا يقدر على إيصالها للناس، وإنما عليه بيان طريقها فقط، فهو لا يقدر على إيصال المنافع الدنيوية إليهم بالطريق الأولى (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، إلا ما يكون مما يتعاون به الناس بعضهم مع بعض، وتنبه على أن المعجزات والكرامات ليست من الأسباب التي تناط بها مصالح المعاش، وتبنى عليها الأعمال الكونية، بل هي من الأمور النادرة التي لا يبنى عليها حكم، وليست مما يحصل بقدرة من تصدر على يديه وإرادته، كالأفعال الاختيارية التي يتمكن من فعلها متى شاء، بل لا يجريها الله تعالى على أيدي أصفيائه إلا لحكمة بالغة، كإقامة الحجة على صدق الأنبياء في دعواهم النبوة، وتشرح لهم أن الله تعالى تفضل على عباده فجعل لكل شيء يحتاجه الإنسان في حياته أسبابًا تؤدي إليه، وهدى الناس إلى اتباع هذه الأسباب، فجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرونه باستعمالها فيما خلقت له على الوجه الذي تجتنب فيه المضار، وتجتلب المنافع، وإذا هم شكروه باستعمالها زادهم نعمًا بهدايتهم إلى ما لم يكونوا يعلمونه من أسباب السعادة بما علموه وعملوا به منها: (من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) ، وإذا هم كفروا النعمة بإهمال أسباب السعادة التي أنعم عليهم بها تكاسلاً، أو اعتمادًا على الخوارق وإبطال سنة الله تعالى في الكون، فإن الله يعذبهم بالحرمان من السعادة، كما هو منصوص في الكتاب السماوي ومشاهد في كتاب الكون الإنساني {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: ٧) ، وكفى بكتاب الله تعالى حجة، وبمشاهدة سنته في خلقه عبرة (ولكن أكثر الناس لا يعقلون) . بمثل هذه المواضيع تنشأ الخطب ويوحى إلى الخطباء أن يخطبوا بها لا بمدح الأيام والشهور، وذكر المواسم التي يعرفها الجمهور، بل والناس أجمعون. فإذا أنشأت اللجنة خطبًا منبهة على الحق، منذرة بخطر الانحراف عنه في الدنيا وفي الآخرة، وعهدت بها إلى خطباء القطر في جميع البلاد، فلا شك أن الخطباء تلبي طلبها وتمتثل أمرها ويكون لذلك أثر ظاهر {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: ٥٥) . ثم إن الخطابة لا تنحصر بمنابر المساجد فينبغي للعلماء الأتقياء الذين يغشون مجامع الناس في الموالد أن يخطبوا فيهم في كل مجتمع، ويحذروهم من اجتراح السيئات واقتراف المنكرات، ويبينوا لهم ما نزل إليهم بعبارة واضحة، يسهل عليهم فهمها، وإذا كانت عامية أو قريبة منها يكون حسنًا. أما وسر الحق لو انتهج أهل العلم هذا المنهج مع العامة لما رأوا منهم إلا إقبالاً وقبولاً، فإنهم قوم لا يتمارون بالنذر، ولا يستنكفون عن الخضوع للحق، لا سيما إذا جاء بعنوان الدين على لسان العلماء والصالحين. إن الذي يستمسك بالباطل إذا توهمه دينا كيف يكون حاله إذا سطع نور الحق في قلبه بالإرشاد والتعليم الصحيح، لا جرم أن استمساكه به يكون عظيمًا. انظر تاريخ الشعب المصري وتأمل حالته اليوم. تراه في جميع الطوارئ وأدواره خاضعًا لرؤسائه، لا يفتات عليهم، ولا يستبد دونهم بشيء. فجميع ما طرأ على هذا الشعب وجميع ما هو فيه الآن إنما مبدؤه ومصدره الرؤساء سواء كان ذلك في الأمور الدينية أو الشؤون الدنيوية. ربما أضر هذا الخُلُق (الخضوع والانقياد) بالمتخلقين به في بعض الأطوار. لكنه يكون في طور الإصلاح والإرشاد أكثر للخير إسراعًا وأشد في مضماره إيجافًا وإيضاعًا. دخل كاتب هذه الكلمات إحدى الخيام في المولد فرأى شيخًا من البهاليل المعتقدين، وقد التفت عليه النساء، وأحدق بهن الرجال، والبعيد من هؤلاء وهؤلاء يجتهد في أن تصل أطراف بنانه إليه فتلمسه، وعند ذلك يرى نفسه سعيدًا، وقد شبرق القوم من التجاذب ثيابه، يرجون بركة ذلك وثوابه، فسألت مَن في حاشية المجتمع عن الشيخ فقيل لي: هو الشيخ عبد الغني أبو الغيط، وهو من الأولياء الذين يفيضون البركات، ويكشفون الكربات، فأنشأت أبين لهم معنى الولي، وأنه إنما يمتاز عن الدهماء بالعلم والعرفان، وتقوى الله تعالى في السر والإعلان ... إلخ. ثم بينت لهم غلوهم في الأولياء، وغرورهم وانخداعهم بالدجل، أمزج الكلام في ذلك بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومنثورات مما يؤثر عن الصالحين، فأقبل القوم علي بعد إنكار قليل، وتركوا الولي والنساء، ثم أجلسوني وأحاطوا بي، وطفقوا يسألون وأجيب. وألقيت عليهم في خلال ذلك ما يجب اعتقاده في الله تعالى، وأطلت بعض الإطالة في بيان الوحدانية، ثم أفهمتهم معنى سلوك الطريق، وأن جماهير المنتسبين للصوفية اليوم منحرفون عما كان عليه أسلافهم من الحق والاعتصام بالكتاب والسنة، وأدخلوا في الطريق بدعًا وعادات لم يكن يعرفها الأولون. فسلموا بجميع ما قلته لهم تسليمًا، ورغبوا إلى أن أسلكهم الطريق على وفق الكتاب والسنة، كما حكيت لهم عن سلف الأمة، فاعتذرت لهم وفارقتهم وهم آسفون، وما كادوا يسمحون لي بمغادرتهم حتى أظلنا الليل وشيعوني باحتفال حافل، وتقبيل أنامل. هؤلاء هم المصريون، إن شئت قل في سوادهم الأعظم: إنه من شر الشعوب حالة في الدنيا والدين، وإن شئت قلت: إنه خير الشعوب وأفضلها؛ لأن خير ما يمتاز به الإنسان هو قوة قابليته للتربية والتعليم. وللشعب المصري من ذلك السهم الأوفر والقدح المعلى، وإنما قصر بهم الأساتذة والمعلمون. فيا هداة الأمة ويا وُرَّاث الرسل أدركوا هذا الشعب بالإرشاد والتعليم الصحيح الذي يهديهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. أدركوا قومكم من قبل أن يخرج أمرهم من أيديكم، فإن آراء وتعاليم أخرى تدب إلى نفوسهم من حيث لا يشعرون. إن الخرافات التي يتراءى للبعض أنها تعطيهم قوة وصلابة في الدين، حيث قد أخذت بعنوان الدين، هي التي يخشى أن تكون العاملة على هدم الدين وتلاشيه، إذا تنبهوا لفسادها، وحالة العصر تقضي أن سيتنبهون. إن الحق لا يأتي من طريق الباطل، وإن الهدى لا يحتاج في حفظه إلى الضلال. فأدركوا الأمة قبل أن تفقدوها، فأنتم عنها مسؤولون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: ١٠٤) . الركن الثاني: قراءة علم الأخلاق والآداب الدينية هذا العلم هو الذي يعرّف الإنسان حقيقة الدين، ومنه تستمد الخطابة والوعظ. فإن من درس هذا العلم ومارس أحكامه وتوسع فيها يعطيه ذلك قوة على الوعظ والإرشاد، وإذا حاول الوعظ وزاوله وثابر عليه حينًا من الدهر انطبعت في نفسه ملكة صحيحة وصار خطيبًا حقيقيًّا (في هذا الموضوع) ، فنرجو من سادتنا علماء الأزهر الشريف أن يعطوا هذا الفن حقه من الاعتناء، ليخرج الطلاب من هذا الجامع متفقهين في الدين عارفين بحقيقته عاملين على إحيائه في بلادهم وأوطانهم {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: ١٢٢) . إلا أن قراءة أحياء العلوم خير من قراءة الكتب التي تميتها - كحاشية الصبان ونحوها - من الكتب المملوءة بالآراء التي هي أمشاج وأخلاط من فنون شتى، بل ليست بشيء من الفنون. وإن البحث عما يطبع ملكات الفضائل في النفس، أفضل من التفرقة بين اسم الجنس وعلم الجنس، وإن معرفة أمراض الروح وعللها وكيفية معالجتها والأدوية التي تعيد إليها صحتها هي أحرى بالعناية وأجدر بالتوسع والتطويل من التوسع في معرفة علل الكلام، والتطويل بالقيل والقال، لا سيما على الوجه المعروف الذي يفسد الأذهان، ولا يقوِّم اللسان، بل إن إشغال الوقت في عرفان طريق التخلية عن الحسد والعجب والكبر، والترفع عن الكذب والخيانة والوقاحة وسائر الرذائل التي تفسد أعمال الإنسان، وتهبط بذويها إلى أسفل درجات الذل والهوان، هو أولى من إشغاله السنين الطوال بمعرفة دقائق أحكام المدبر والمكاتب وأمهات الأولاد، ونوادر الفروع في الجنايات، والحدود والعقوبات وما أشبه هاتا من المسائل الفقهية التي أهملها أهلها، فصارت آثارًا تاريخية. فما بالك بالأبحاث العقيمة لذاتها، التي يهبها الإنسان عمره النفيس جزافًا بلا عوض، كالبحث في الماهيات هل هي مجعولة أو غير مجعولة. وعن الجعل البسيط والمركب، والهيولي والصورة، والوجود هل عين الموجود أو غيره، والجزء الذي لا يتجزأ، وعن مناكحة الجن، وصحة الاقتداء بهم، ونجاستهم إذا تشكلوا بصورة حيوان نجس أم لا، وعن الحيوان المتولد بين نوعين مختلفين، وغير ذلك المستنبطات التي وصلوا بها إلى حد فرض المستحيلات العقلية والمادية (كما صرح بعضهم) والتي بها عاب الإمام حجة الإسلام فقهاء عصره، وبيَّن أنهم أهملوا الفقه في الدين (التهذيب) ، واشتغلوا عنه باستنباط مسائل تمضي الأعمار ولا يحتاج إلى شيء منها. ولا أطيل في القول فإن كل من لاحظ أن العلم إنما يراد للعمل وأن العمل ينتج السعادة يعلم علم اليقين أن علم تهذيب الأخلاق هو أحق بالعناية من سائر العلوم، وأولى بالتقديم على ما سوى العقائد، بل قال بعض الأئمة (وأظنه إمام الحرمين) : (إن الأخذ بتهذيب الأخلاق علمًا وعملًا هو أول ما ينبغي أن تتحلى به نفس الإنسان) . وقد بينا في العدد الرابع: أنه سعادة الدنيا والآخرة في التهذيب، وأيدنا ذلك بالآيات العقلية والنقلية، وقد صرح الفقهاء بأن هذا العلم من الفروض العينية التي يجب على كل مكلف من ذكر وأنثى معرفتها، فكيف لا يكون أحرى بالعناية من فنون اللغة ومعاملات الفقه الواجبة على سبيل الكفاية. لم يغفل عن هذا مجلس إدارة الأزهر فقد حتم (أيده الله تعالى) في قانون التدريس إقراء هذا الفن الجليل، ومن الأسف أن نرى الجماهير غير ملتفتة إليه، وعسى أن يروا في الامتحان ما يحملهم عليه. ولنمسك عنان القلم، فقد جمح بنا حتى خرجنا عن الشرط الملتزم. الركن الثالث: التصوف أو سلوك الطريق ليس من غرضنا الآن البحث في اشتقاق لفظ التصوف أو بيان تاريخه، ولا شرح حدوده ورسومه، وإنما نقول: إن التصوف في الإسلام هو عبارة عن التخلق بالأخلاق الفاضلة، وما تتبعه من أعمال البر والتقوى، وذلك هو الإسلام الحقيقي الذي كان عليه سلف الأمة الصالح، ولما حدثت الفتن في المسلمين وطفق الناس ينحرفون عن الدين، تميز المتمسكون بما كان عليه السلف الصالح بأخلاق وأعمال صاروا بها فرقة مستقلة، ثم مازجت كتبهم تعاليم غريبة، وحدثت لهم اصطلاحات خاصة، حتى عدهم بعض مؤرخي الإفرنج فرقة من الفرق التي انفرقت من الإسلام، ثم طرأت عليهم أحوال، وصدمتهم من المخالفين أهوال، فرقت شملهم، ونثرت عقد انتظامهم، حتى صار الصوفي كالعنقاء، إن كان موجودًا فتحت حجاب الخفاء {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} (مريم: ٥٩) وجعلوا طريق القوم شارات وإشارات، وهم الذين يعرفهم القارئ بأنهم مصدر تلك المنكرات، ومعهد هاتيك الموبقات (إلا من حفظه الله تعالى) ، والذي ينفسح لنا مجال القول فيه الآن مما يتعلق بإصلاحهم: هو استلفات أنظار شيخ الشيوخ صاحب السماحة السيد محمد توفيق البكري إلى منع الجهلة والدجالين من التصدي لإسلاك الطريق، وإناطة ذلك برجال من أهل العلم والتقوى، يعرفون كيف يستأصلون البدع، ويزيلون المنكرات، ولقد ذاكرنا سماحته في هذا الموضوع فأفادنا أن ذلك من مطامح رغبته ومرامي همته، وعسى أن يكون العمل قريبًا. ((يتبع بمقال تالٍ))