وطعنه في دين الدعاة إلى الاهتداء بالكتاب والسنة من الأئمة كابن حزم وابن تيمية والشوكاني والأستاذ الإمام
قد علم الخواص والعوام ما يبثه بعض محرري مجلة الأزهر المسماة باطلاً بنور الإسلام، من الصد عن الاهتداء بالكتاب والسنة والطعن في المهتدين بهما من المتقدمين والمتأخرين، ومن تأييد البدع والدعوة إليها والدفاع عن متبعيها المتقدمين والمتأخرين كالمفتونين بعبادة القبور، من دعاء للموتى واستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وطواف بقبورهم ونذور لها، ولم يكتف هذا المحرر بالنشر في هذه المجلة حتى بدأ يبث ذلك في جريدة جديدة اسمها الإسلام؛ لأنه بلغه أنها يقرؤها كثير من العوام، الذين لا يزالون يقبلون كل ما ينسب إلى علماء الأزهر، ثم في جريدة المقطم السياسية لعلمه بأنها منتشرة في غير مصر من البلاد العربية، فهو يريد تعميم ضلالته. وآخر ما نشره في هذا الشهر (جمادى الأول - سبتمبر) مقالة في جريدة الإسلام صرَّح فيها بكفر من يؤمن بظاهر آيات الصفات من القرآن، ومقالة في المقطم لا غرض له منها إلا الطعن على صاحب المنار، والأستاذ الإمام، بعد أن طعن في الشهرين اللذين قبله في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي الشوكاني؛ لدعوتهم الأمة إلى اتباع القرآن والسنة دون من يخالفهما كائنًا من كان. أما جريدة الإسلام فقد أرسلت إليها مقالة في تفنيد ما نشرته له في هذه المسألة فلم تنشرها خلافًا لما يجب عليها من تحذير قرائها العوام من الاغترار بقول هذا الحامل للقب الأزهري: إن الإيمان بظاهر القرآن كفر، ونخشى أن يكون رئيس تحرير هذه الجريدة يعتقد ذلك؛ إذ لم يتعقبه ولم ينشر الرد عليه بل طالب مرسله بأن يبين له اسمه ليرى رأيه فيه! ! والمسألة مسألة عقيدة دينية لا شأن للأشخاص فيها، ولكن نشرته جريدة السياسة الغراء، وهذا لا يسقط الإثم عن جريدة الإسلام فيجب عليها أن تبين لقرائها ما يوجبه عليهم دينهم من الإيمان بظاهر القرآن، أو بتحريف الدجوي أو تأويله نشرته له، وإن كان هذا هو الواجب عندها فكيف السبيل إلى تلقينه لكل قارئ للقرآن الكريم، ومقتن للمصحف الشريف؟ وأما جريدة المقطم فإن ما نشره فيها من الطعن في الأستاذ الإمام وإسناده إلى صاحب المنار فهو كذب وتحريف بجهل وسوء نية نبينه ليقيس عليه قارئها غيره مما ينشره هذا الشيخ، ويعلم أن سبب إعراضنا من قبل ومن بعد عن الرد عليه هو ما صرَّحنا به في المنار من عدم ثقتنا بنقله ولا بعلمه ولا بفهمه ولا بحسن نيته. قال في مقالة المقطم الذي صدر في تاريخ ١٦ جمادى الأولى ٦ سبتمبر ما نصه: (ومن الغريب أن صاحب المنار يقول: إن مشيخة الأزهر تمنع الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله) إلى أن قال: (وإني لأعجب له كيف يقول: إن الأستاذ الإمام كان ينقم على الشيخ أحمد الرفاعي وأمثاله عدم الأخذ من القرآن والسنة، فهل يريد أن يقول: إن الأستاذ الشيخ محمد عبده كان مجتهدًا يأخذ من الكتاب والسنة، وهو الذي يرميه في الجزء الأول من المنار سنة ١٣٥٠ صحيفة (٢١) بالجهل بالسنة، وأنه كان يجمع الصلوات؟ ومعنى ذلك عند كثير ممن يقرأ عبارته هذه أن الشيخ عبده كان لا يصلي، فهل يتفق هذا والاجتهاد في الدين؟ وهل يرى صاحب المنار أن الجهل بالسنة لا ينافي الاجتهاد؟ ا. هـ بحروفه. هذا نص ما نشر في المقطم بإمضاء (يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف) وإننا نبين ما في هذا القول من الكذب والتحريف والجهل بأصول الدين وفروعه؛ ليعتبر به مَن يظنون أن جميع أعضاء هيئة كبار العلماء بالأزهر ثقات يصدقون فيما ينقلون، وأمناء على العلم والدين فيما يثبتون وينفون. وإنني قبل أن أنقل لهم نص عبارة تلك الصفحة بحروفها أبين لهم أنها جاءت في مقدمة الجزء الأول من (تاريخ الأستاذ الإمام) في سياق الاستدلال على أنني سلكت في هذا التاريخ مسلك المؤرخ العادل فيما للأستاذ رحمه الله تعالى وما عليه، لا مسلك دعاة الأحزاب السياسية والاجتماعية والدينية الذين يقتصرون في الكلام عن زعمائهم وأئمتهم على بيان ما لهم دون ما عليهم، فالعبارة مجملة في المقدمة مبينة بالتفصيل في موضعها من التاريخ، وهذا نص عبارة المقدمة: فإذا رأى القارئ أنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي كان بها جديرًا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام، أثبت أنه كان مقصرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من علماء الأزهر. هذا نص العبارة بحروفها، وهاك بيان ما فيها من افتراء الكذب والجهل. الشواهد على افتراء هذا الطاعن الكذب: (الفرية الأولى) زعم هذا المفتري أنني رميت الأستاذ الإمام بالجهل بالسنة بالإطلاق الذي يدل على أنه غير عالم ولا مطلع على كتب الحديث كالصحيحين وموطأ مالك والسنن الأربعة وشروحها وكتب الجرح والتعديل أيضًا. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن رواية الحديث وحفظه قد فقدا من الأزهر منذ قرون كما بينته في كتابي (المنار والأزهر) وكذلك العناية بالجرح والتعديل، وهذا لا يقتضي الجهل المطلق بالسنة نفسها في هذه القرون، فإن العلم بها من كتبها المدونة التي شرحها الحفاظ والفقهاء كافٍ فيما اشترطه علماء الأصول للاجتهاد كما سيأتي، وهو الذي كان له بقية في عهد تلقي الشيخ محمد عبده للعلم في أواخر القرن الهجري الماضي، وزالت في هذا القرن باعتقاد مثل الرفاعي وتلاميذه ومتبعيه كالدجوي والظواهري أنه لم يبق للعلماء بها حاجة في معرفة الإسلام والعمل به؛ لأن العمدة في عقائده عندهم كتب المتكلمين، وفي أحكامه كتب المتفقهين المقلدين، وأما حكمه وآدابه وسياسته وحججه على المخالفين فمما لا يخطر ببالهم أنها من هدايته، وأنها تطلب من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وقد أقمنا عليهم الحجة بالمنار وبتفسير المنار، وبكتاب (الوحي المحمدي) المقتبس من نوره، والذي شهد من اطلع عليه من علماء العصر وعقلائه بأن لم يسبق له نظير في إثبات النبوة المحمدية، وحجة الإسلام على أهل العلوم المادية، والحضارة العصرية. وجملة القول أن قولي: إنه مقصر في الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره لا يقتضي عدم علمهم بهذه الثلاثة مطلقًا، وأن عدم العلم لا يدل على جهلهم بالسنة نفسها، فكيف أباحت له ديانته التعبير بذلك ونقله عني؟ (الفِرْيَتَان الثانية والثالثة) نقله عني أنني قلت: (إنه كان يجمع الصلوات) هكذا بالجمع والإطلاق وهو كذب مفترًى، وهذا نص عبارتي بحروفها: (وإنني على إعجابي بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده، صرحت بأنه كان يجمع بين الصلاتين في الحضر أحيانًا ترخصًا اجتهاديًّا خالف فيه المذاهب الأربعة، ولكنه وافق حديثًا صحيحًا أخذ به غيرهم من الأئمة) . فزَعْمه أنني قلت: إنه كان (يجمع الصلوات) بهذا الإطلاق يتضمن فريتين (أولاهما) دلالة اللفظ على أنه كان يجمع الخمس كلها، وأنا لم أقلها، وإنما قلت: (بين الصلاتين) والعامي يعلم الفرق بين الصلاتين والصلوات كلها، وكل متفقه في دينه يعلم أن الجمع بين الصلاتين كالظهر مع العصر والمغرب مع العشاء مشروع دون جمع الصلوات كلها. (الثانية) دلالة الإطلاق على أنه كان يفعل ذلك دائمًا، وأنا لم أطلقه في الصلاتين كما أطلقه هو في الجمع، بل قلت: إن الأستاذ قد يفعله أحيانًا أخذًا بحديث صحيح في الجمع بينهما أعني في الحضر. وأقول هنا: إن هذا الحديث الذي أشرت إليه قد رواه الإمام مالك في الموطأ والإمام الشافعي في سننه، ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما حاصله أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعًا ثمانيًا والمغرب والعشاء جميعًا سبعًا من غير خوف ولا سفر ولا مطر (لئلا يحرج أمته) . (الفرية الرابعة) قوله: إن معنى عبارتي عند كثير ممن يقرؤها (أن الشيخ عبده كان لا يصلي) بهذا الإطلاق، وقد رأيتم أن عبارتي صريحة في الإعجاب بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده، فهل يكون المتصف بهذه الصفات - ومنها المحافظة على التهجد بالصلوات في جنح الظلام - تاركًا للصلوات الخمس المفروضة على الإطلاق؟ كلا إن المفتري نفسه -على سوء فهمه وسوء نيته- لا يفهم هذا من العبارة، ويعلم أنه لا يوجد عاميٌّ يفهمه منها فضلاً عن خاصيٍّ، ولهذا حرَّفها بما تقدم فكيف أباح علمه ودينه وأمانته ذلك؟ (الفرية الخامسة) زعمه أنني قلت: (إن الأستاذ الإمام كان ينقم على الشيخ أحمد الرفاعي عدم الأخذ من الكتاب والسنة) وأنا لم أقل هذا، وإنما نشرت في السنة الأولى من المنار الذي صدر في شعبان ١٣١٦ (محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر أنكر فيها الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي قوله عن علم الحديث: لا حاجة إليه في هذه العصور ألبتة، وقوله في تعليله إنه: (لا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق) . قلت: (فتعجب الأستاذ وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة المعصوم الذي يعتقد صحته وأنه قاله، ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق عمدًا وخطأ هو الزنديق) . (فقال الشيخ صاحب الكلمة (أي الرفاعي) يجوز أن يكون الحديث الذي يأخذ به ضعيفًا أو موضوعًا) فأجابه الأستاذ (إن كلامنا في حديث يُعْتَقَدُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لقول أيِّ إنسان من الأناسي) . فعلم من هذا أنني لم أقل: إن الأستاذ الإمام نقم من الشيخ أحمد الرفاعي عدم الأخذ من الكتاب والسنة أي الذي هو شأن المجتهد، فالأستاذ الإمام كان يعلم أن الرفاعي هذا لم يكن مجتهدًا ولا ممن يبيح الاجتهاد، وسأذكر الفرق بين ما قلته وما افتراه هذا المدعي للعلم عليَّ، ولو كان رواة الكتاب والسنة كلهم مثله لضاع الإسلام كله، ولم يثق أحد منه بشيء، ولكان المسلمون في دينهم كالذين من قبلهم في تحريف بعض كتبهم وإضاعة بعض. هذه خمس شواهد على افتراء هذا العضو من هيئة كبار العلماء وتحريفه للكلم، وتجرده من الأمانة في العلم، والصدق في النقل، ومن فقد الأمانة والصدق، فأي شيء يبقى عنده من فضيلة العلم؟ إلا أن فقدهما ثبوت لثلثي النفاق [*] والثلث الثالث من العلم الفهم، وهاؤم اقرءوا الشواهد من عبارته المتقدمة على مبلغ حظه منه. الشواهد على عدم الفهم أو العلم (الشاهد الأول) فهم عضو هيئة كبار العلماء المذكور أن ما قلته في إنكار الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي يدل على أنني أقول: إنه مجتهد يأخذ من الكتاب والسنة، والعبارة لا تدل على ذلك بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام، فإن موضوعها أن يعرف مسلم حديثًا صحيحًا ويعتقد أنه صحيح كأن يطلع في كتب الحديث الصحاح عليه، أو يرى في الكتب المعتمدة أنه رواه الشيخان في صحيحهما أو أصحاب السنن وصححوه، ثم يقول له أحد المنتمين إلى فقه المذهب بوجوب مخالفته له وأنه إنما يجب عليه العمل بالمذهب دون الحديث، فهل مقتضى دين الإسلام أن يطيع المسلم هذا الفقيه أو اللابس لباس العلماء الفقهاء. وإن كان يعتقد أنه بطاعته يكون عاصيًا لرسول الله؟ أو أن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره الله، وكما بلغ عباده قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: ٣١) وقوله: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء: ١٤) . قال الشيخ أحمد الرفاعي عفا الله عنه , ويقول الشيخ الدجوي تاب الله عليه: إنه يجب عليه أن يتبع العالم المنتمي للمذهب، ويحرم عليه أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن اتباع الرسول اجتهاد خاص بالمجتهدين، بل قال الأول: إن الذي يقول: أتبع الرسول في مثل هذا الحديث دون المذهب فهو زنديق، ونحن نقول: إن هذا ليس من دعوى الاجتهاد المطلق في شيء، كما يعلم من تفسير علماء الأصول للاجتهاد وهو استفراغ الفقيه الجهد لتحصيل الظن بحكم شرعي، ومن اتفاقهم على أن ما فيه نص يمتنع الاجتهاد فيه. مثال ذلك أن يرى المسلم المتعلم في صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن أو يسمع من قارئها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (يحذر ما صنعوا) ولعن المتخذين عليها السراج، وهذا الأخير في السنن الأربع وغيرها، فيعتقد أنه يحرم عليه ما ذكر، ومنه نذر الشمع وإيقاده على قبر من قبور أهل البيت أو غيرهم من المشايخ المعتقدين وهي كثيرة، ثم يفتيه الشيخ الدجوي أو الشيخ الظواهري مثلاً بأنه مشروع ويثاب عليه بناء على أنهما من علماء المذهب ونقلته، فهل الواجب عليه أن يعمل بما فهمه من الحديث أم بقول الشيخ الأكبر شيخ الأزهر والشيخ الدجوي مفتي مجلة نور الإسلام؟ بل نقول: هل يكون زنديقًا إذا عمل بالحديث وامتنع من نذر الشمع أو تقديمه لأجل أن يوقد على القبور، وإن خالف مفتيه منهم ما يعتقده هو من حديث الرسول الصحيح الصريح في لعن فاعله، وإن كان أيضًا لا يأمن أن يكون جاهلاً بالنص النبوي وبمذهب الإمام معًا، ولا أن يكذب في الفتوى، وأن يتبع فيها المنفعة والهوى، كما يعلم من كثير منهم، فهم يفعلون البدع والخرافات التي لم يقل بها إمام مجتهد قط، ويدعون فيما يبغون من اتباع الناس لهم حمل الناس على اتباع الأئمة الذين هم أعلم بالسنة؟ إن غرور بعض علماء السوء بنسبتهم إلى الأزهر، ومجازفتهم بإطلاق لقب الكفر والزندقة على من لا يقلدهم في دينه على جهلهم وعدم أمانتهم، ويخالف في ذلك ما يعلم من كلام الله ورسوله النبي الواضح - لهو مصاب في الإسلام كبير، إن كلمة الزنديق التي أطلقها الشيح أحمد الرفاعي على من يخالف فقيه مذهبه ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم دونه معناها من لا دين له، ويقول بعض الفقهاء: إن الزنديق كافر لا تقبل توبته فلا بد من قتله، ولو كانت حكومة عصرنا تأخذ بأقوالهم لفعلوا بنا شرًّا مما فعلته الكنيسة في عهد محاكم التفتيش المشهورة في قرونها الوسطى من قتل الناس وتعذيبهم حتى بالنار لمخالفتهم لفهم رؤسائها. ولكن الله عز وجل يقول في رسوله صلى الله عليه وسلم في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣) . بل الأمر في صد المسلمين عن دين الله بدعوى حماية المذاهب أعظم من ذلك، وهو حمل الناس على تقليدهم في مسائل الاعتقاد والإيمان بما يخالف ظاهر القرآن، كما فعل هذا الطاعن في الأستاذ الإمام في المقال الذي نشره في جريدة الإسلام فقد صرح فيه بكفر من يؤمن بظاهر القرآن في صفات الله عز وجل، فهو قد بدأ يجعل جريدة الإسلام كمجلة نور الإسلام، صادة عن اتباع القرآن، واتباع خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام في كل من العقائد والعبادات والأعمال، بتأويلات مبتدعة اجتهادية ما أنزل الله بها من سلطان، وهو ليس بأهل للاجتهاد فيما دون هذا من فروع الأحكام، ولا فيما يعيش به من شراب وطعام، وهم يقررون أن المقلد في عقيدته مختلف في صحة إيمانه، وإننا نذكر هنا عبارته مع الإشارة إلى بطلانها بالإيجاز استطرادًا. قال في أول الصفحة ١٣ من السنة الثانية من جريدة الإسلام: (يتمسك كثير من الناس بظواهر الآيات وهو غلط فاحش يؤدي إلى الكفر، وقد قال لي قائل: يجب اعتقاد أن الله في السماء فإنه يقول: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: ١٦) إلخ فمن لم يعتقد ذلك فهو كافر، فقلت له: إن من يعتقد ذلك على ظاهره فهو الكافر) . هذا نص عبارته بحروفها، لم ننقلها كما ينقل أقوالنا بحسب ما يزعم من معانيها مع تحريفها، وإننا لم يبلغنا أن أحدًا من مبتدعة هذه الأمة ولا من أهل الكتاب تجرأ على مثل هذا القول في كتاب ربه، فزعم أن المؤمن به على ظاهره هو الكافر به، أي دون من يحرفه أو يتأوله برأيه أو تقليده ولو لبعض أدعياء العلم. نعم إنه علَّل زعمه أن المؤمن بظاهر القرآن هو الكافر بقوله: (فإنه جعل لله ظرفًا يحيط به، ومكانًا يستقر فيه، ومن اعتقد ذلك فيه، فقد شبهه بخلقه، ومن شبَّهَه بخلقه فهو كافر) وهذا الاستدلال باطل من وجوه أكتفي منها في هذا الاستطراد من ناحية اللغة بأن لفظ السماء في أصل اللغة: ما علاك، ولا يلزم أن يكون ظرفًا ولا مكانًا، بل المعلوم من جملة الآيات أن المراد بالسماء في هذا المقام إما العلو المطلق، وإما العرض الذي هو أعلاها، واستواؤه تعالى على عرشه يقتضي أنه فوقه بالمعنى اللائق به، وأنه فوق جميع خلقه بائن منهم حيث لا مكان ولا زمان {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (البروج: ٢٠) . وأكتفي من جهة العقيدة بأن الإيمان بظاهر القرآن واجب بالإجماع فإن أو هم تشبيهًا جزمنا بأن التشبيه غير ما ورد بدليل العقل والنقل، وفوَّضْنَا الأمر في كيفية ذلك وتأويله أي ما يؤول إليه إلى الله عز وجل، لقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: ٧) وهو ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث والفقه المجتهدين، وكل مسلم يعتقد أن ربه وخالقه مُنَزَّه عن مشابهة عبيده المخلوقين، ولا يحتاج إلى تأويل كلامه برأيه كالملاحدة أو المبتدعين، ولازم المذهب ليس بمذهب، على أن اللزوم هنا ممنوع، وناهيك بمنعه في باب التكفير. وإذا كان من يؤمن بحقيقة الآية ويتأول ظاهرها المشكل عنده بما يعطيه أسلوب اللغة لا يكون كافرًا، ولكنه إذا خالف فيه المأثور عن السلف يكون مخطئًا أو مبتدعًا، وإذا أطلق العنان لكل متأول تتفرق الأمة شيعًا، فكيف يحكم بكفر المؤمن بالظاهر المأمور به في ضمن الإيمان بكتاب ربه، ومقتضى إيمانه بالظواهر أن يكون منزهًا له عن التمثيل بخلقه؟ وجملة القول أن تكفير هذا الدعي في نسب العلم لمن يؤمن بظاهر الآيات المتشابهات، وهو تكفير لسلف الأمة من الصحابة والتابعين وحفاظ الحديث والأئمة المجتهدين، وهو عين ما يتهم هو به أئمة المحدثين، ومن بعدهم من السلفيين، ولا شبهة له إلا دعوتهم الناس إلى اتباع ما أنزل الله، وما بيَّنه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يفهم ذلك ولا يعقله؛ لأنه لا يفهم القرآن ولا لغته، ولا يعلم ما ورد من بيان السنة له، ولا آثار السلف الصالح في عقائد الملة، فعلم منه أن ما كفرهم به هو صحيح الإيمان، وأن ما يدعو الناس إليه هو عين الكفر والابتداع، فإن كان معذورًا بالجهل، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى بعد ما هديناه إليه من العلم، وآية التوبة أن ينشر هذه الحقيقة في المجلتين اللتين يبث فيهما دعوته إلى ترك الناس عقائد القرآن وهداية السنة. * * * ثم أعود إلى بيان بقية الشواهد على جهله بالاصطلاحات العلمية فأقول: (الشاهد الثاني) في سؤاله إياي هل أريد أن أقول: إن الشيخ محمد عبده كان مجتهدًا يأخذ من الكتاب والسنة وقد رميته بالجهل بالسنة - إلى قوله - (وهل يرى صاحب المنار أن الجهل بالسنة لا ينافي الاجتهاد) ؟ أقول: (أولاً) قد علم مما سبق في بيان مفترياته أنني لم أرم الأستاذ الإمام بالجهل بالسنة ولا بترك الصلاة (وثانيًا) أنني لم أعن بعبارتي تلك أن الأستاذ كان مجتهدًا وهي لا تدل على هذا (وثالثًا) هب أنني أردت منها أنه كان مجتهدًا وهو كذلك، فما ذكرته من تقصيره في الحفظ والعناية بالجرح والتعديل لا ينافي الاجتهاد كما صرح به علماء الأصول الذين قرأ المفتري كلامهم، ولم يفهمه أو نسيه أو تناساه، اتباعًا لهواه في الطعن على المرحوم الأستاذ الإمام وعلى صاحب المنار. قال التاج السبكي في الكلام على ما يُشْتَرَط في المجتهد من العلم بالحديث من جمع الجوامع (ويكفي في زماننا الرجوع إلى أئمة ذلك) قال شارحه المحلي في بيان هؤلاء الأئمة من المحدثين كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم فيعتمد عليهم في التعديل والتجريح لتعذرهما في زماننا. (الشاهد الثالث) إن فرضنا أنني عنيت بإنكار الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي أنه يدل على جواز الاجتهاد في موضوعه الذي بَيَّناه آنفًا فهو يصدق بالاجتهاد الجزئي دون الاجتهاد الكلي الشامل لجميع الأحكام، وقد صرح علماء الأصول بجوازه، وهو بديهي، وإن لم يصرحوا به، ولا سيما الاجتهاد في بعض الأحكام الجزئية كالذي فسرنا به المسألة، وهو إيقاد السُّرج على القبور، وقولهم: يشمل الاجتهاد في بعض أبواب الفقه برمتها كالفرائض فمن العلماء المتأخرين من نبغ فيه دون بقية الأبواب، فجوازه وإمكانه في المسائل الجزئية أَوْلَى. فعُلِمَ مما ذكر كله في هذا العضو من أعضاء هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف أنه لا ثقة بنقله ولا بصدقه ولا بأمانته ولا بفهمه، وأنه مغرور بلقبه وبثقة شيح الأزهر به، لموافقته له في رأيه ومشربه، حتى بلغ من غروره الطعن على أئمة الكتاب والسنة في مجلة المشيخة وغيرها والتسلق إلى محاولة تصحيح أغلاطهم. وتنفير الناس من كتبهم الداعية إلى الاهتداء بالنصوص، وزعمه أنهم بهذه الدعوة يكفرون جميع المسلمين؛ لأن اتباع الكتاب والسنة حتى في العقائد يؤدي عنده إلى الكفر والمروق من الدين. فعلى شيخ الأزهر أن يَكُفَّهُ عن إفساد عقائد عوام المسلمين الذين يغترون بلقبه وثقة المشيخة به، وإلا كان شريكًا له في إثمه، وإن ادعى الشيخ الأكبر أنه مصيب فإنا ندعوه هو - أي شيح الأزهر - ومن شاء من هيئة كبار العلماء المنافقين لهما (إن وجدوا) إلى المناظرة الكتابية في هذه المسائل، وعرض ما يكتب على علماء الأمة وعقلائها في العالم الإسلامي كله، فالعلم بالإسلام حر مطلق من قيود الرياسة الدولية والشهادات الرسمية، والسيطرة الكهنوتية، والسلام على من اتبع الهدى.