للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محمد حافظ بك إبراهيم
شاعر مصر الاجتماعي

في السابع عشر من شهر ربيع الأول توفي شاعر النيل الاجتماعي الكبير،
وأديب مصر الشهير محمد حافظ بك إبراهيم عن سن وافت الستين، فاهتز لموته
عالم الأدب العربي واضطرب، كما كان يهتز لشعره من حماس أو شجو أو طرب،
ورثاه أشهر شعراء مصر، فشعراء العرب في الشرق والغرب، وأبَّنته الصحف
فأطرته أي إطراء، ولا تزال تنشر القصائد في رثائه وإطرائه إلى الآن، وقد توفي
بعده أمير من أكبر أمراء بيت الملك في البلاد، فلم يتجاوز ذكر موته مصر، ولم
يبلغ تأثير وفاته فيها معشار ما بلغ تأثير موت حافظ من إكبار وحزن وتأبين ورثاء،
على تفاوت ما بين مؤبني الرجلين من داعيتي الإخلاص والرياء، وأين بيت
حافظ إبراهيم في أهل المسكنة والبؤس، من أعلى قصور الإمارة والملك.
والعبرة في هذه أنه آية بينة على ارتقاء الأمة العربية في آدابها النفسية
والاجتماعية، يبشرنا بقرب زوال العظمة الوهمية، عظمة الألقاب الموروثة
والثروة المادية، وإعقاب العظمة الحقيقية لها، عظمة العلم والأدب وخدمة الأمة.
لو لم يمت هذا الأمير الكبير في هذه الأيام لذكرنا في مقام هذه العبرة موت
غني من أكبر أغنياء مصر فيها ممن كان يحسدهم حافظ على ثروتهم ويعاتب الأقدار
على ما كان يشكو من بؤسه تجاه جدتهم، وهو المرحوم محمد بدراوي باشا عاشور
صاحب العقار الكبير، والمزارع الواسعة التي تُقَدَّر بعشرات الألوف من الفدادين،
ومئات الألوف من الجنيهات المودعة في المصارف المالية (البنوك) العديدة،
مات البدراوي باشا أغنى فلاحي مصر وأحسنهم سيرة، فلم يهتز لموته عالم العلم
والأدب، ولا أكبرت نعيه المجلات والصحف، ولا رثاه الشعراء ولا أبنه العلماء
والأدباء، فكان هذا دليلاً آخر على أن الشعب المصري قد ارتقى شعوره المعنوي؛
ولكنه دون الدليل الذي قبله، وقد كان هذا الشعب أعرق الشعوب الشرقية في إكبار
الأمراء والحكام والخنوع لهم، ثم في تعظيم الأغنياء والازدلاف إليهم؛ ولكن لا
يزال المال هو المقصد والغاية لطلاب العلوم والفنون وقلما تتوجه عناية أحد منهم
لبلوغ الغاية من الأدب والإمامة فيه لذاتها.
كان محمد حافظ يشكو البؤس وينظم نفسه في سمط البائسين، وتلك شنشنة
الأدباء والشعراء في كل حين، حتى كان من القضايا المسلَّمة أن حرفة الأدب علة
للبؤس والعيشة الضنك، وما هي بعلة طبيعية ولا عقلية، ولكن من أعطى كل
عقله وفهمه للأدب أو أي علم من العلوم لا يجد من استعداده النفسي ولا من وقته ما
يصرفه في الكسب وتثمير المال الذي هو طريق الثروة الواسعة، والشعراء أحرص
من العلماء على نعمة الدنيا وزينتها، وأكثر تمنيًا لها، لتزيين خيالهم لها في أنفسهم،
فمهما يصبهم منها - وقلما يكون وافرًا يرضي طمعهم وخيالهم - فإنهم يستصغرونه
ويشكون حظهم منه، ألا ترى أن أحدهم قد ذم العيشة الوسطى بين بؤس الفقر
وطغيان الغنى وشواغله، وهي أفضل حالة في الرزق يمكن أن تكون للإنسان
بقوله:
مذبذب الرزق لا فقر ولا جدة ... حظ لعمرك لم يحمق ولم يكس
وكان حافظ يتمثل بهذا البيت بعد أن نال راتبًا شهريًّا من الحكومة يكفي لنفقة
أسرة تعيش عيشة معتدلة، وهو خفيف الحاذ لا زوج له ولا ولد، ذلك بأنه كان
مسرفًا في الترف مفنقًا في التنعم، وقد أوتي من الحظ المعنوي بأدبه وشعره ما لم
يؤت أديب في مصر في عصره غير أحمد شوقي بك إذ كان شاعر الأمير فصار
يدعى أمير الشعراء، ولعله لو نشأ في حجر الترف ونعمة العيش كشوقي لما كان
له من نفسه ما يبعثه إلى النبوغ في الأدب النافع، فأكثر حكماء الأدباء وحكماء
العلماء وأصحاب الأفكار الإصلاحية الناضجة كانوا من أهل التقشف والبؤس في
بدايتهم، إما اضطرارًا وإما اختيارًا كالذين سلكوا الرياضة الصوفية، ومن أمثال
الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية مشرقة.
وقد أشار شيخنا الأستاذ الإمام إلى هذا المعنى في بؤس حافظ فيما قرَّظ له به
الجزء الأول من ترجمة كتاب البؤساء فقد قدَّمه إليه حافظ وتوجه باسمه بكتاب
خاطبه به فرد عليه بجواب جعلهما حافظ في مقدمة الكتاب، وإنا ننشرهما هنا؛
فإنهما خير ما يُنشر في ترجمة صديقنا الأديب رحمه الله تعالى: