للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


درس عام في التعليم الإسلامي

أول خطاب ألقاه الأستاذ الإمام في تونس على ملأ عظيم من العلماء والفضلاء
ولخصته جريدة الحاضرة التونسية الغراء ونحن ننقل عنها كل نقل المؤيد والثمرات
مع شيء من التصحيح بإذن الإمام.
إن بعض إخواننا الذين عرفناهم في تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو
محاورة وربما كان ذلك اصطلاحًا عندهم ثُم قالوا درسًا فسألني بعضهم عن ذلك
فقلت: نعم هو درس ولكن لا تظنوا أنه درس في تحقيق مسألة علمية فإن عندكم
من جلة العلماء مَن نعترف بفضلهم، فمن أراد تحقيق مسألة علمية فليراجعهم، أما هذا
الفقير فرجل سائح قصدت هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر في أحوالهم
وأمور دينهم من حيث العلم والتعليم ولذلك لما أجبت طلبهم في إقراء الدرس ما
قصدت إقراء درس حقيقي؛ ولكن التكلم فيما يختلج بفكري من أمر التعليم والعلم
والإعراب عما في ضميري مما أتمناه لإخواننا المسلمين من التقدم في العلم.
وقد رأيت في بلاد الإسلام التي سِحْتُ فيها عدة أناس يشتغلون بالعلم ولكني
وجدت عند الأغلب اشتباهًا في ما هو العلم الذي يُنفق الوقت في تحصيله. هذا فيما
يخص الأمر المهم الذي أكرره لكم ولا زلت أكرره من أهمية التعليم حتى يُنتج ذلك
التكرار ما نتمناه من التقدم ما دام الناس في حاجة إلى التكرار.
ثُم إن هناك مسألة مشتركة بيننا وبينكم عامة في سائر بلاد الإسلام وهي مسألة
الرضاء بالموجود ولها تعلق أيضًا بالتعليم. فإذا ذكرت نقصًا أو عيبًا في طريقة أو
في حالة من الأحوال قيل لك ماذا نصنع ونحن أناس متوكلون على الله وهذا مراد
الله من عباده؟ ! وهو عذر المقصر عند تقصيره في بلاد الإسلام وعون على ما
نراه من النقص في طرق تحصيل العلم ولذلك أردت ضمه إلى مبحث التعليم.
معنى العلم
أما الكلام في معنى العلم فليس الغرض منه الخوض فيما اصطلح عليه علماء
السلف الصالح أو غيرهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو غيرهم حتى من الزنادقة؛
لأن هذه ألفاظ اصطلاحية طالما شغلت أهل العلم بتغيُّرها والأخذ والرد في معانيها.
مع أن واضعيها إنما حددوا بها المعاني حتى تنضبط ويسهل تناولها والوصول إليها،
ولكن يصح أن يقال فينا وفيهم إنهم أرادوا خيرًا فاستعملنا شرًا. ولذلك أترك
الألفاظ الاصطلاحية وأتكلم في معنى العلم من حيث هو معروف في الكتاب والسنة
وسيرة السلف الصالح وعلى لسان العامة والخاصة.
العلم جاء ذكره في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) .. الآية، وهو استفهام إنكاري معناه أنه لا يستوي عالم
وجاهل. وقال تعالى: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: ١٦) : أي أن
الظلمة لا تساوي النور فبيَّن لنا تعالى أن الظلمة مثال لحال من لا يعلم وأن النور
مثال لحال من يعلم.
فتبيّن من ذلك أن عدم العلم يشبه الظلمة ونحن نعلم ما يكون من الإنسان إذا
اشتد به الظلام وهو سائر في طريق يقصد غايةً معلومة؛ فإن الظلام يعمي عليه
الطريق وربما سلك طريقًا يبعده عن مقصده. وقد يصادف مهواة فيسقط فيها فتدركه
هلكته قبل الوصول إلى غايته.
وهذه حال الجاهل بوسائل أي غاية من الغايات التي يعرض للإنسان قصدها
في حياته، فكلُّ مَن طلب غاية في حياته بدون علم لا يصل إليها.
وحينئذٍ فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى بيَّن لنا أن العلم للإنسان
كالنور لا بمعنى أن العلم سراج أو مصباح وإنما ذلك مثل لحال من يعلم الطريق
المُوصِّلة له إلى مطلبه والوسائل المؤدية إليه. فإن حاله يشبه من يمشي وبين يديه
نور يبين له السبيل ويكشف له ما فيه من الموانع فيتجنبها أو يذللها حتّى ينتهي إلى
غايته ظافرًا بعافيته وسلامته؛ لأن الآيات والأعلام المنصوبة لا يراها المغمور
بالظلام وإنما يراها المبصر بالضياء والنور ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير
في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله
تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: ١-٢) ..
الآية فافتتح الله الوحي بتعليم القراءة، والقراءة تَعَلُّم، وجاء في الحديث الشريف
أنه قال في أول مرة: (ما أنا بقارئ) وما زال الملك به حتى قرأ الآيات.
ثم بعد أن أمر تعالى بالقراءة من لا يقرأ عادة وبيَّن له أن الذي يأمره بالقراءة
هو الذي خلق الخلق كله وهو قادر على أن يقرئه بعد أن لم يكن قارئًا وأنه الذي
خلق الإنسان الحي الناطق المفصح عما في نفسه من علق أي دَمٌ منجمد لا عقل فيه
ولا نطق فهو قادر على أن ينشئ فيه القراءة والعلم وإن لم يسبق له تعلم.
بعد أن ذكر هذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٣-٥) فخص من العلم العلم بالقلم والكتابة تنويهًا بشأن التحرير
والبيان وتنبيهًا على عظم فائدته وهو إنما يكون بعلم اللسان والبراعة فيه. لا نريد من
العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكة الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر
بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلْنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاحُ الله
تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان
إرشادٌ إلى فضل العلم وحثٌّ على تحصيله خصوصًا العلم بالقلم.
فالعلم ما يبصر الإنسان في الغاية التي يطلبها ويهديه إلى الحق الذي هو مَعقد
النجاة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: ٢٢) ولم يقل للجاهلين أو الغافلين. فإذا
كان للعلم هذه المزية فلا يصح أن يكون العلم المُمَثَّل له بالنور إلا علم إرشاد وتبيين،
ثم جاء في الأحاديث والأدعية المأثورة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انفعني
بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا) [١] كأنه يقول اللهم اجعل علمي علمًا
صحيحًا ينطبق على ما بينته في كتابك، ويُروى أنه قال: (إذا أتى عليَّ يوم لا
أزداد فيه علمًا فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) [٢] ثم إننا نجد في الآثار
وأقوال العلماء غير ذلك ما يطول ذكره كما تجدون فيما يدور على ألسنة الناس عند
ذكر العلم ما يرشد إلى أنهم لا يفهمون من العلم إلا معنى التبصر في أي أمر من
الأمور والإتيان به على الوجه الأكمل بقدر الاستطاعة، فتبين من ذلك إذًا أن معنى
العلم الحقيقي الذي أثنى اللهُ عليه وميّز به المهتدين من الضالين هو الكشف عن الأمر
الحقيقي بحيث إذا أراد أن يُميلَك عنه مميلٌ لا يقدر على ذلك كمن عرف طريقًا
موصلة إلى غاية فلا يعدل عنها مهما حاول مضله.
فلا يكون العلم حقيقيًا ولا تنبعث النفس إلى تحصيله إلا إذا كان كذلك بالنسبة
إلى الغاية المطلوبة منه فإذا وجدنا من العلم ما يوصلنا إلى البصيرة بما نقصد من
الغاية في مدة قصيرة كيومين مثلاً ورأينا ما سمي علمًا ولكنه إنما يوصلنا في مدة
أطول كأربعة أيام مثلاً كان لنا أن نعد الأول علمًا حقيقيًا لأنه أرشدنا إلى أقرب طريق
مؤدية إلى الغاية وأن نعد الثاني غير علم لأنه عاقنا عنها وأوجد لنا العثار فيها
فالعدول إليه سقوط في الضلة.
وأولى بأن يسمى ضلة علمٌ يقصد بتحصيله غاية ثم هو لا يؤدي إلى تلك
الغاية بالمرة بعد إنفاق الزمن الطويل في تحصيله. فتسميته علمًا من الخطأ الذي لا
يتفق مع ما جاء في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة واستعمال الخاصة والعامة.
ولكن من الناس من يقول لك العلم يطلق بإطلاقات ثلاثة: الإدراك والقواعد والملكة،
فتحصيل القواعد وإن لم تحصل الملكة يسمى علمًا على الحقيقة فاشتغالنا بتحصيله
اشتغال بتحصيل العلم غير أن هذا القائل لم يراعِ ماذا قصد المسمي للقواعد علمًا
فإنه لم يضع لها هذا الاسم إلا لأنها توصل إلى الغاية في رأيه. فإذا استعملت لغير
الغاية فقدت معناها وعُدَّتْ من الشواغل عن العلم المطلوب، فإن شاء سمّى هذه
الشواغل جهلاً؛ لأنها ضلت عن العلم وإن شاء فليسمِّها علمًا كما يهوى، لا كما
يعرف الناس!
((يتبع بمقال تالٍ))