(٣) تابع ما قبله ومما تقدم تعلم أن القول بقيامة المسيح لم يكن - كما يزعم المبشرون الآن- الحصن الوحيد الذي وقى المسيحية من السقوط، ولا كان محتمًا لإنقاذ التلاميذ من هاوية السقوط والقنوط. ومن أكبر ما حدث للنصارى بعد ذلك هو - كما زعموا - اضطهاد نيرون لهم سنة ٦٤ ميلادية، وهذا الاضطهاد إذا سلم أنه وقع عليهم فهو بإجماع المؤرخين لم يكن سببه إلا سياسيًّا، أي اتهامه لهم بحريق رومية، ولم يكن لعقيدة قيامة المسيح أدنى دخل فيه (راجع أيضًا رسالة الصلب صفحة ١٤٠ - ١٤٢) بل ولا في أيِّ اضطهاد من الاضطهادات الرومانية العشرة الشهيرة من سنة (٦٤ - ٣١١ م) وإلا فلينبئونا مَن منهم أو مِن رسلهم قُتل فيها من أجل هذه العقيدة؟ فقول المبشرين أنهم إنما اضطهدوا لمجاهرتهم بالقول بقيامة المسيح، لا أساس له ألبتة من التاريخ، وإذًا فقولهم: إن النصارى إنما صبروا على كل ما أصابهم لوثوقهم من هذه القيامة، قد خوى على عروشه واندكت دعائمه كما لا يخفى؛ إذ لو لم يقولوا بها مطلقًا لأصابهم ما أصابهم، وهم قائلون بها ما داموا حزبًا ناميًا مخالفين لغيرهم في كثير من أفكارهم وآرائهم وشئونهم وسياستهم وأمانيهم وسائر أمورهم؛ ولذلك أصيب اليهود في بعض هذه الاضطهادات بما أصيب به النصارى؛ لاختلافهم أيضًا عن الرومانيين في مثل ما تقدم؛ فالقول بالقيامة وعدمها سواء بالنسبة لاضطهادهم وصبرهم عليه. وكيف نسلم صحة كل حكايات الاضطهاد هذه بعد الذي علمناه عن النصارى من المبالغات والتحريف والأكاذيب والزيادات؟ (راجع رسالة الصلب ص١٢١ و١٤٠ - ١٤٢) . ومن الذي قال: إن جميع القائلين بعقيدة القيامة هذه كانوا كذابين وأنهم ما كانوا معتقدين لها في الواقع ونفس الأمر، وإن كانوا فيها واهمين؟ وما يدرينا أن أكثر الاضطهادات التي يحكونها كانت تحصل لهؤلاء المساكين الصادقين في عقيدتهم؛ إذ مثل هؤلاء هم الذين يندفعون عادة ويتعرضون للناس ويدعونهم إليها من غير أن يحسنوا السياسة معهم، والرؤساء من ورائهم يحرضونهم سرًّا ويشجعونهم طمعًا في نجاحهم ونكاية بخصومهم وهم عن الأذى بعيدون؟ وهل حصول الاضطهاد لشخص اعتقد شيئًا ما يدل على أن عقيدته صحيحة؟ مع أننا نرى كثيرًا من الناس يتوهمون شيئًا ويعتقدونه فينالهم أذى كثير في سبيل ذلك ولا يتحولون عنه، وما من دين في العالم أو أي مذهب إلا ونال أتباعه الأولين أذى كثير واضطهاد فظيع؛ فهل جميع الأديان والمذاهب صادقة وهي كلها متناقضة؟ ! ولنرجع إلى أصل موضوعنا فنقول: من العجيب أن بولس يذكر كل هؤلاء الأشخاص الذين أريناك حقيقة أمرهم ويترك ذكر مريم المجدلية وهي أول من قالت أنها رأت المسيح (يو ٢٠: ١٨ ومر١٥: ٩) ولها فضل السبق في الذهاب إلى القبر، وقد ذكرت الأناجيل الأربعة اسمها، وهي في الحقيقة البطل الأعظم لهذه الرواية، ومع ذلك لا يذكرها بولس، ويذكر أشخاصًا آخرين لم تذكرهم الأناجيل، فما السبب في ذلك يا ترى؟ السبب الأكبر في ذلك هو أن بولس - ككل العقلاء الحريصين - يرى أن شهادات النساء في مثل هذه الحلة لا قيمة لها وخصوصًا لأنها كانت امرأة مختلة العقل ومصابة بالشياطين كما تقول الأناجيل (لو٨: ٢) ولذلك قال بولس في النساء (١ كو ١٤: ٣٤) : (لتصمت نساؤكم في الكنائس؛ لأنه ليس مأذونًا لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضًا) وهو صريح في بيان رأيه في قيمة النساء عندهم خصوصًا في المسائل الدينية، وكذلك نرى أن شهادتهن ما كان يُعَوَّل عليها عند قومه اليهود حتى ما كانوا يقبلونها في محاكمهم، فلهذا ولعدم ضرورة التملق لهن لضعفهن وعدم الخوف منهن ترك بولس ذكر شهادة النساء في مسألة القيامة، مع أن شهادة مريم هذه عند النصارى هي أول شهادة وأعظمها في هذه المسألة. فمما تقدم يظهر لك شدة مبالغة بولس في هذه المسألة التي هي أصل دعواه، وأساس دعوته كما قال هو نفسه (١ كو ١٥: ١٤) وذكره أشياء فيها - سياسة منها كما بيَّنا - لم يذكرها أحد قبله ممن رأوا المسيح وشاهدوا أعماله، وهو مع ذلك لم يقل أنه رواها عنهم، بل قال في رسالته إلى أهل غلاطية (١: ١٧ - ١٩) أنه بعد إيمانه بالمسيح لم يصعد إلى أورشليم إلى الرسل بل ذهب إلى بلاد العرب ثم رجع إلى دمشق وبعد ثلاث سنين ذهب إلى أورشليم، ولم يقابل فيها أحدًا من الرسل إلا بطرس ويعقوب وجاء في سفر الأعمال (٩: ١٩ و٢٠) أنه كان في دمشق يكرز بالمسيح أي قبل ملاقاة الرسولين، فهل كان إذًا يكرز بقيامته أم لا؟ فالظاهر أن كرازته هذه وإخباره بمسألة القيامة والرؤية بعدها مبنية على دعواه لنفسه الوحي بها لا لسبب آخر، وهيهات أن يثبت ذلك له، ولذلك قال في رسالته إلى أهل غلاطية (١: ١١ و١٢) أن إنجيله لم يأخذه عن أي إنسان، بل بإعلان يسوع المسيح، فهذه هي قيمة شهادته من الوجهة التاريخية فهو لم يكن راويًا شيئًا في هذه المسألة وغيرها عن تلاميذ المسيح باعترافه بنفسه [١] ! ! فمبالغاته السابقة في رؤيته هو وغيره للمسيح لا يعول عليها، فإن من يدعي ويقول لأهل غلاطية (في آسيا الصغرى) إن المسيح صلب بينهم ورأوه بأعينهم أمامهم مصلوبًا (غل ٣: ١) لا يبعد عليه أن يقول ما شاء وشاء هواه. فإن قيل: إن المراد بهذه العبارة التي تشير إليها هو أنهم رأوا رسمه وصورته مصلوبًا [٢] كما ترجموه في النسخ العربية، أو المراد تصويره لهم وصفًا وتعبيرًا. قلت: وما فائدة هذا الكلام إذًا وما قيمته؟ وأي حجة فيه على أهل غلاطية أو غيرهم الذين سماهم أغبياء؛ لأنهم خالفوه ولم يذعنوا له؟ وهل مثل هذا التصوير الكلامي أو الكتابي يكفي لإقناع الناس بمسألة الصلب أو بصدقه فيما يدعيه؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) ولماذا أضاعه النصارى إن كان مقنعًا للناس لهذه الدرجة؟ الحق والحق أقول: إن النصارى في دينهم واهمون، وعن طريق الصواب ناكبون، هداهم الله إلى الطريق القويم والصراط المستقيم. * * * تذييل للفصل السابق جاء في إنجيل يوحنا (يو٢٠: ٢٣) أن المسيح حينما قابل تلاميذه بعد قيامته من الموت قال لهم: (من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت) ومن لم يأت في عبارته هذه بقيد ولا شرط غير ما تراه فيها من تفويض الأمر كله للتلاميذ؛ فلنسأل هنا الأسئلة الآتية: ١- هل إذا غفروا لمذنب لم يتب تغفر ذنوبه أم لا؟ فإن غفرت فأين إذًا العدل الإلهي، وقد ساووا الطالح بالصالح بكلمة منهم واحدة؟ وأي فائدة للتوبة والاستقامة ما دام الأمر موكولاً لهم يهبونه لمن شاؤوا متى شاؤوا ولو لم يستحقه؟ وهل لا يحمل قول المسيح هذا - إذا صح - النفوس على ترك كل عمل من أعمال البر والتقوى، والسعي فقط فيما يرضي هؤلاء التلاميذ ونوابهم كالملق لهم أو دفع مال، أو غير ذلك، وترك ما يرضي الله تعالى ما دام الأمر في يدهم لا في يده تعالى؟ فأي إباحة للشرور والمفاسد أعظم من ذلك؟ وهل لا تُعذر النصارى الذين عبدوا هؤلاء القديسين من قديم الزمان بعد أن علموا - من نصوص كتبهم - أنهم يمكنهم أن يفعلوا بهم ما لم يفعله الله نفسه فيغفروا ذنوبهم ولو كانوا على العصيان والشر مقيمين؟ وأي قدرة أكبر من ذلك؟ وإن لم تغفر ذنوب المذنب إلا بالتوبة إلى الله والعمل الصالح فلمَ لم يشترط ذلك المسيح في عبارته هذه، وجعلها مطلقة كما ترى؟ وإذا اشترط ذلك فما تكون إذًا فائدة غفران تلاميذه؟ وأي فرق بين وجوده وعدمه؟ وما مزيتهم على غيرهم؟ وهل لا تكون هذه العبارة عبثًا ظاهرًا وقدرة موهومة أعطاها لتلاميذه؟ وكيف يصل علم هؤلاء التلاميذ إلى أسرار نفوس الناس والوقوف على حقيقة أمرهم حتى يعلموا إن كانت توبتهم صادقة صحيحة يستحقون لأجلها الغفران أم لا؟ فهل أصبحوا آلهة بكلمة المسيح هذه؟ فغفرانكم أيتها الآلهة، غفرانكم للعاصين مثلي، الكافرين بكم. ٢- وإذا لم يغفروا لمذنب تاب ورجع إلى الله وحده، فهل يُغفر له أم لا؟ فإن غفر الله له فما حاجة الناس إذًا إلى طلب الغفران منهم؟ وكيف قال المسيح: (من أمسكتم خطاياه أمسكت) وإن لم يغفر الله له فكيف وعد التائبين (راجع مثلاً: حز ١٨: ٢١ - ٢٤) بالغفران، ولم يشترط شيئًا آخر غير التوبة والصلاح في جميع كتب الأنبياء السابقين، أي حتى قبل عمل الكفارة المزعومة بصلب المسيح؟ فهل لم يعلم الله في تلك الأزمنة بأولئك الآلهة الذين أشركهم - بزعمهم - المسيح معه فيما بعد حتى استقل بالعمل وحده بدون مراعاة رضاهم على التائبين، فماذا يفعل إذا هم خالفوه في ذلك يوم القيامة؟ وكيف تكون التوبة قبل هذه الكفارة أسهل منها بعدها، فإنها كانت قبلها قاصرة على إرضاء الإله وحده، وأما بعدها فلا بد من إرضاء غيره معه وهم كثيرون؟ تعالى الله عما يشركون، وكيف لا يقدر الله الغفور الرحيم (مز ٨٦: ٥ وخر ٣٤: ٦) على الغفران بدون إذنهم حتى تكون مشيئته تابعة لمشيئتهم: أما مشيئتهم فنافذة - بمقتضى وعد المسيح هذا - كالسهام بحيث لا تقف أمامها إرادة الله نفسه، فهم إذًا أقدر منه تعالى وأولى بالعبادة دونه وأحق، فأي باعث على الشرك وعبادة البشر أكبر من ذلك؟ فالآلهة إذًا عندهم ليسوا ثلاثة فقط، بل هم كثيرون متعددون، فما معنى توحيدهم، وأي فائدة منه بعد ذلك؟ وأي ذل واستعباد للناس أكبر من ذلك؟ وأي مبادئ أشد حضًّا من مبادئهم هذه على استبداد رؤسائهم وطغيانهم وتصرفهم فيهم كما يشاؤون؟ وكيف بعد ورود مثل هذه العبارة في الأناجيل ينكر مبشرو البروتستنت الآن أن كل ما حصل في أوربا في القرون الخالية من مظالم رجال الكهنوت وغيرهم من رؤسائهم (انظر رو ١٣: ١ و٢) وأكلهم من أموال الناس بالباطل ومفاسدهم واستبدادهم وسفك الدماء والمذابح العظيمة والشقاق الدائم بين فرق النصارى، وغير ذلك إنما هو كله كان من النتائج اللازمة لتلك المبادئ التي قررتها كتبهم التي يقدسونها إلى الآن. وكيف يعقل أن عبارة المسيح السابقة هي من عند الله؟ أليست هي مما اختلقته الشياطين ونسبوه كذبًا لعيسى عليه السلام، وهو منها ومن أمثالها - والله - لبريء [٣] ؟ وإلا فكيف تتفق هذه العبارة مع قوله عليه السلام لمن سألته أن يجلس ابنيها واحدًا عن اليمنى وواحدا عن اليسار في مجده، قوله لها: (وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا الذين أعد لهم من أبي) . (راجع متى ٢٠: ٢٣ ومرقس ١٠: ٣٧ - ٤٠) فإذا كان هو نفسه لا يمكنه أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله فكيف إذًا تعطي تلاميذه الغفران لمن شاءوا ويمنعونه عمن شاؤوا؟ إن هذا لأمر عجيب! وإذا كان النصارى يعتقدون قدرة التلاميذ على التصرف في الكون (مت ١٦: ١٩ و١٨: ١٨) وغفران الذنوب ودينونة الخلائق والملائكة يوم القيامة (١ كو ٦: ٢ و٣) وأن كلمة أحدهم تنقل الجبال ولا يستحيل عليها شيء كما سبق (مت ١٧: ٢٠) فأي شيء أبقوه لله تعالى بعد ذلك كله سوى عمله بحسب مشيئتهم وانقياده لأوامرهم ونواهيهم؟ وهل هذا هو التوحيد الذي جاء به عيسى وجميع الأنبياء قبله؟ وهل إلى هذا الشرك والوثنية يدعون المسلمين الموحدين ولا يخجلون؟ فأي عقل أسخف من هذا؟ ومن الذي جن حتى يقبل ذلك منهم؟ ومما تقدم هنا تعلم حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمن الذي بعث فيه، ومقدار حاجة العالم إليه وقتئذ، وحكمة إكثاره - قبل كل شيء - من الدعوة إلى التوحيد الحقيقي والتنزيه بعد أن امتلأ العالم كله بالشرك والوثنية والتشبيه والتجسيم، فهو إمام المصلحين وسابق المتأخرين منهم جميعًا الذي أزال غياهب الباطل وظلماته، ونشر الحق في الأرض ودعا لعبادة الله تعالى وحده، فخلص الناس من الذل والاستبداد والاستعباد وساوى بين عباد الله أجمعين فمحق بذلك الظلم ورفع النفوس إلى أعلى ذروة من الكمال البشري وأطلقها من أسر التقليد والأوهام والخرافات للعمل النافع، والتعقل والتفكر في الدنيا والآخرة (راجع القرآن ٢: ٢١٩) فانتشر في العالم بسرعة خارقة للعادة: العلم، والحرية الصحيحة، والإخاء والمساواة والإيمان بالحق، والمدنية الراقية التي كانت أساسًا لمدنية أوربة الحالية [٤] فلله دره وما أكبره من مصلح عظيم ونبي كريم، ورسول من الله أتى بالخير العميم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، فلولا وحي الله إليه لما أمكنه الإتيان بعُشر ما أتى به وهو ربيب الجاهلين المشركين الوثنيين، ولم يغب عن قومه غيبة تمكنه من تعلم القليل فضلاً عن الكثير، وأيُّ بلاد كان فيها جميع ما أتى به الإسلام من الحقائق والعقائد الراقية والمبادئ الصحيحة والأصول القويمة للدين الحق الكامل في كل شيء؛ مع أن بعض هذه الأشياء لم تقف عليها أرقى علماء الغرب أو لم يجزموا بها إلا في الأعوام الأخيرة. وقد كانوا قبل ظهور الإسلام إلى مئات من السنين بعده كالأنعام لا يهتدون إلى العلم والحق سبيلاً، يسوم بعضهم بعضًا سوء الظلم والاستبداد والاستعباد والاضطهاد حتى أضاء لهم قبس من نور الإسلام في الشرق فكان لهم هاديًا وللرقي دليلاً، سنة الله في كل من اتبع مبادئ دينه القويم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣) ولا يتوهمن القارئ مما ذكرناه هنا أن أحدًا من المسلمين يقول: إن جميع ما أتى به الإسلام لم يكن معروفًا عند الأمم الأخرى قبل نزول القرآن، كلا فإن هذه الدعوى لم يدعها أحد من المسلمين ولن يدعيها، كيف وقد قال القرآن الشريف نفسه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: ١٣) الآية، وقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل: ١٢٣) وقال: {َوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: ١٣٣) وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الأعلى: ١٨-١٩) وقال: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (النمل: ٧٦-٧٧) وغير ذلك كثير، فما في القرآن مما يوجد مثله في الأديان الأخرى القديمة نوعان: ١- إما أن يكون مما أوحاه الله إليهم وأبقاه الإسلام لما فيه من المصلحة للناس. ٢- وإما أنه من الأشياء المستحسنة الصالحة التي وصل إليها الناس بعقولهم؛ وكانت موافقة لحالتهم ونافعة لهم، فأقرها الإسلام ولو لم تكن في الأصل وحيًا فإنَّ الغرض من نزول القرآن وغيره من الكتب الإلهية هو الإصلاح لا محو كل شيء موجود من قبل ولو كان صالحًا نافعا، فإن الأنبياء مصلحون لا إعداميون، قال تعالى على لسان شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} (هود: ٨٨) ولا شيء أكثر موافقة لحال الناس مما وصلوا إليه بأنفسهم ففائدة الوحي إذًا إلى الأنبياء هي: أولاً: إرشادهم إلى أصلح الموجود وأنفعه لأممهم ليبقوه وليمحوا الفاسد الضارّ من بينهم، ولو اعتمدوا على العقل وحده في هذه العمل لوقعوا في الخطأ والضلال من حيث يريدون النفع، ولذلك قال في الآية السابقة:] إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [ (هود: ٨٨) . ثانيًا: هي الإتيان بأشياء جديدة لم تكن تعرفها الأمم السابقة وقد بينا بعض ما أتى به الإسلام مما لم يسبقه به أحد في بعض كتبنا ورسائلنا فلا حاجة للتكرار هنا. فما في القرآن موافقًا لما عند الأمم الأخرى إنما هو لصحة ذلك عن أنبيائهم أو لصلاحه ونفعه، وما فيه مخالفًا لها هو لفساده وخطئه وضرره لتحريف كتبهم على ممر الأزمان، فإن القرآن جاء ليبين لهم ما كانوا فيه يختلفون. ولو كان وجود أشياء في الدين المتأخر مما في الدين المتقدم يدل على كذب نبي الدين المتأخر لكان موسى - مثلا - من الكاذبين، فإن بعض شريعته يوجد مثله مع اختلاف طفيف جدًّا، في شريعة حمورابي البابلي التي اكتشفت سنة ١٩٠٢ وهي أقدم من التوراة بنحو عشرة قرون، ولكان عيسى أيضًا كاذبًا؛ لأن جلّ نصائحه وتعاليمه، إن لم نقل كلها، كانت موجودة حرفًا بحرف في كتب اليهود من قبل كما بينه كثير من علماء الإفرنج (راجع مثلاً كتاب النصرانية والأساطير ص٤٠٣، ٤٢٣ وكتاب شهود تاريخ يسوع ص٢٣٥، ٢٨٨) بل إن بعض حِكم المسيح ونصائحه يوجد مثلها أيضًا في كتب حكماء اليونان والهند والصين الأقدمين مثل كونفوشيوس الصيني الذي مات سنة ٤٧٩ قبل الميلاد، حتى إن حكمة عيسى عليه السلام الذهبية التي يفتخرون بها صباح مساء وهي قوله (مت ٧: ١٢) : (فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم؛ لأن هذا هو الناموس والأنبياء) قال مثلها تمامًا كونفوشيوس المذكور، وأرسطو أيضًا في منتصف القرن الرابع قبل المسيح وغيرهما كثيرون (راجع كتاب لغز العالم، تأليف إرنست هيكل ص١٢٤) وجاء في سفر (طوبيت) من أسفار اليهود غير القانونية قول كاتبه (٤: ١٦) : ما لا تحب أن يفعله بك أحد لا تفعله بغيرك، وفي التلمود قول هيلل Hillel: (ما لا تحبه لا تفعله بقريبك، فإن هذا هو التعليم كله) . فإن قيل: إن هذه العبارات اليهودية بصيغة سلبية، وهي لا شك أقل فضيلة من عبارة المسيح السابقة الواردة بطريقة إيجابية، قلت: إن عبارة المسيح هذه كانت أيضًا بطريقة سلبية في نسخ الأناجيل القديمة، ولكن النصارى حرفوها فيما بعد لتكون أكمل وأتم (راجع كتاب شهود تاريخ يسوع ص٢٦٧) . وجاء في سفر اللاويين (١٩: ٣٤) الأمر بمحبة الغريب النازل وسط اليهود كمحبة النفس، وفي سفر الخروج (٢٣: ٤ و٥) ورد الأمر بمساعدة العدو (راجع أيضا أمثال ٢٤: ١٧ و٢٥: ٢١ و٢٢ وأيوب ٣١: ٢٩) وغير ذلك كثير، وفي التلمود قوله: أحب من عاقبك، وقوله: (خير لك أن يسيئك غيرك من أن تسيء) وقوله: (الأفضل أن تكون من المضطهَدين - بالفتح - لا من المضطهِدين) . أما قول المسيح (مت ٥: ٤٤) : (باركوا لاعِنِيكُم، أحسنوا إلى [٥] مُبْغِضيكُم) فلا وجود له مطلقًا في أقدم نسخ الأناجيل، كما ذكره العلامة آرثر دروز في كتابه عن (شهود تاريخ يسوع) ص ٢٦٩ وإذًا فهو من مخترعاتهم، على أن قول عيسى: (أحبوا أعداءكم) ليس بأحكم مما نقلناه هنا عن كتب اليهود؛ لأنه تكليف بما لا تطيقه النفس البشرية، فهو من الغلو الذي لا يمكن لأحد العمل به مطلقًا؛ لأن قلب الإنسان لا يمكن إرغامه على مثل ذلك. وهل من العدل والعقل أن يساوي الإنسان بين الصديق والعدو فيضعهما في قلبه وينزلهما منزلة واحدة؟ وهل لا يحمل هذا بعض الخبثاء الأشرار على الاسترسال في الأذى وعدم الكف عن الطغيان؟ ولماذا لا يفعل أحد من النصارى بهذه الأوامر، ولا دولة من دولهم؟ وهنا نسأل المبشرين: هل أولئك الشارعون الفضلاء، أمثال حمورابي ملك بابل وكونفوشيوس حكيم الصين ممن ذكرنا، وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالعقل أم بالوحي؟ فإن كانوا وصلوا إليه بالعقل لكانوا إذًا أعقل وأرقى من موسى وعيسى اللذين ما وصلا إليه إلا بعون الله ووحيه كما يقول المليون؛ وخصوصًا لأن شريعة حمورابي أكمل مما في هذه التوراة باعتراف القس روس Rouse الإنكليزي وغيره في كتابه في النقد ص٦٤، وإذا كان من مبطلات وحي القرآن عندهم وجود أشياء فيه موجودة عند الأمم الأخرى، فلم لا يبطل ذلك أيضا وحي التوراة والإنجيل؟ ولم خص الله بني إسرائيل كما يزعمون بالوحي والنبوة وهم من أقل الأمم عقلاً ومن أكثرهم ميلاً للضلال والكفر حتى إنهم كثيرًا ما ارتدوا هم وبعض أنبيائهم وعبدوا الأصنام مع كثرة المعجزات فيهم وتعدد الأنبياء بينهم لدرجة مدهشة؟ وقد انتهى أمرهم أنهم أنكروا المسيح وصلبوه وقتلوه، وبقي اليهود مصرين على كفرهم به إلى اليوم؟ فهل من الحكمة والعدل أن تكثر الأنبياء بينهم إلى تلك الدرجة المعروفة، ويحرم الله أمم جميع العالمين قاطبة من رسل إليهم منهم أو من غير أمة اليهود المعاندين المرتدين الكافرين؟ فكيف يؤاخذ الله تلك الأمم ويلزمهم بالإيمان بما لم يؤمن به اليهود أنفسهم الذين كثرت بينهم الآيات والمعجزات وتعددت منهم الأنبياء والرسل؟ وكيف تكون جميع نعم الله تعالى على عباده في هذا العالم مقسمة بين جميع الأمم على شيء من المساواة التامة أو الناقصة، ويحرم بالمرة جميع الناس ما عدا اليهود من أكبر نعمه، وهي نعمة التجلي لهم والقرب منهم بالوحي والنبوة والإرشاد الإلهي الأكبر ويعطي ذلك كله لليهود وحدهم؟ والأغرب من ذلك أن يكون اليهود هم المقصودين أولاً وبالذات من بعثة عيسى حتى ما كان يجوز له ولا لرسله دعوة غيرهم من الأمم إلا إذا رفض اليهود الدعوة كما سنبينه (انظر مثلا مت ١٥: ٢٤ وأع ١٣: ٤٦ و١٨: ٦ ورو ١: ١٦) فكأن جميع الأمم عند رب العالمين كلاب، وقد سماهم المسيح نفسه بذلك فقال (مت ١٥: ٢٦) : (ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب) وإذا قارنَّا اليهود بمن في السموات والأرض من ملائكة وأناسيّ ودواب وشياطين وغير ذلك بما فيهم من صالح وطالح ومهتدٍ وضال، وعلمنا - بحسب دين النصارى - أن الله لم يهتم بغير اليهود، حتى تجسَّد ونزل إلى الأرض وحُبس في هذا الجسد الإنساني إلى الأبد من أجلهم أولاً، فرفضوه وأهانوه وقتلوه - أدركنا كيف أن إلههم قد وضع الشيء في غير محله، وأخطأ المرمى مرارًا وظلم غيرهم بعدم اعتنائه بهم عنايته باليهود مع احتياج جميع المخلوقات إلى هدايته مثلهم ورعايته وتدبيره لهم، ولكنه أهملهم، وبعد ذلك كله لم يعرف كيف يخلص اليهود بل أوقعهم في الهلاك الأبدي بصلبهم له وحكم عليهم بالنار الدائمة، فهو إذًا إله جاهل ظالم عاجز قاسٍ حتى لم يعمل هو نفسه بما ألزم به الناس - عندهم - من وجوب درء السيئة بالحسنة والبغض بالمحبة (مت ٥: ٣٩ - ٤٨) فصار منتقمًا حقودًا حتى على مختاريه اليهود، فكيف يوجب على الناس بعد ذلك ما لم يقدر عليه هو نفسه؟ وكيف جهل كل هذه النتائج ولم يعدل بين مخلوقاته العدل الممكن؟ قارن هذه العقائد بقول القرآن الشريف: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (هود: ٦) وقوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (الأنعام: ٣٨) وقوله: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: ٢٩) وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: ٣) وقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: ٥٤) وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: ٢٩) [٦] وقوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} (الشورى: ١٩) وقوله: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} (فصلت: ١٢) إلخ إلخ، فأين الثريا من الثرى؟ وأين السماء من الأرض؟ فانظر - رعاك الله - إلى هذه الحقائق الدينية العلمية السامية التي جاء بها الأمي، وهي ما كانت تخطر على بال واضعي دينهم ومؤلفي كتبهم المقدسة، بل إن وجود دواب في السموات كما في الأرض ما كان يعرفه أحد من العالمين وخصوصًا مؤلفي كتبهم الذين كانوا يتوهمون أن العالم عبارة عن المملكة الرومانية فقط. (راجع ص١٤ من هذه الرسالة) . ولنرجع إلى ما كنا فيه: وإن كان وصل أولئك الحكماء إلى ما وصلوا إليه بالوحي الإلهي، فلمَ إذًا أخذ المبشرون ينكرون على القرآن مثل قوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: ٢٤) وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: ٣٦) [٧] وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (النساء: ١٦٤) . أما عدم علمنا بهؤلاء الرسل فذلك لا يطعن فيما قرره القرآن؛ لغموض التاريخ القديم ونقصانه واختلاطه كثيرًا بالباطل، كما لا يطعن في صحة قصص التوراة وغيرها من وجود بني إسرائيل في مصر، وخروجهم [٨] منها وغرق المصريين، وآيات موسى بينهم إلخ، لا يطعن في ذلك عدم وجود ما يؤيدها في الآثار المصرية القديمة (راجع كتاب صدق المسيحية ص ٢٠٤ و٢١٢ وكتاب الأصول البشرية ص٨٨ و٨٩ و٩٢) على أن العلماء المحققين قد أصبحوا الآن يشكون في أكثر ما في التاريخ القديم من الحوادث والحكايات؛ لتعذر الوصول إلى حقيقته حتى إنهم شكوا [٩] في وجود مؤسسي الأديان المعروفة كموسى وعيسى ما عدا محمد عليه الصلاة والسلام (راجع مثلا كتاب المسحاء الوثنيين ص ٢٣٨ و٢٣٩ وكتاب شهود تاريخ يسوع ص٢٩٤ و٢٩٥) . ومما تقدم تعلم فساد، بل هذيان، ما في كتب المبشرين مثل كتاب (مصادر الإسلام) وكتاب (علم الأعلام في حقيقة الإسلام) وغيرهما؛ فإن وجود أشياء في القرآن مثل الموجودة عند الأمم الأخرى مما يؤيد صحة قوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: ١٣) ونحوه مما سبق ذكره؛ فما في كتبهم هذه يصح أن يكون حجة للقرآن لا عليه، ليتدبروا في ذلك إن كانوا يعقلون، وللحق والهدى يطلبون. * * * فصل في بعض آيات القرآن في هذه المسألة السابقة والمقارنة بينها وبين ما جاء في كتبهم عن المسيح وغيره مما تقدم في الكلام عن الإنجيل تعلم الحكمة في كون القرآن الشريف لم يقل في موضع ما منه: إن النصارى حرفت الإنجيل، كما قال مثل ذلك في اليهود مرارًا؛ لأن النصارى لم يكن عندهم في وقت من الأوقات (إنجيل عيسى) فحرفوه كما كان عند اليهود (توراة موسى) فحرفوا بعضها ونسوا البعض الآخر منها؛ فلذا قال تعالى في اليهود: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٣) أما النصارى فلم يكن عندهم من الإنجيل إلا بعض أقوال قليلة كما بين سابقًا، ونسوا كثيره فلذا قال تعالى فيهم: {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) أي: عقب المسيح مباشرة، كما يدل عليه العطف بالفاء. وهذه الأقوال القليلة التي حفظوها عن المسيح تناقلوها أولاً بالروايات الشفهية ثم كتبوها وضمنوها في كتب كانت تراجم لحياة المسيح، وسموها بالأناجيل وضموا إليها ما شاءوا من الأقوال والحوادث المخترعة والحقيقية، ونسبوها كلها للمسيح عليه السلام حتى اختلط عندهم الحق بالباطل بحيث يتعسر الآن أو يتعذر تمييز جميع أقوال المسيح الصحيحة عن الأقوال المنسوبة إليه كذبًا، وقد اعترف يوحنا بأنه لم يكتب عن المسيح كل شيء (يو ٢١ و٢٥) فلم يكن الإنجيل موجودًا وحرفوه، بل أضاعوا كثيرًا منه، كما قال تعالى: {فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: ١٤) أي جزءًا عظيمًا منه، وما بقي اختلط بكثير من الآراء المتنوعة والمذاهب المختلفة باختلاف الأهواء والأغراض والعقول، فقد توخى كل من كتب منهم إنجيلاً في الأزمنة الأولى تأييد غرض أو مذهب مخصوص أدته إليه معلوماته أو فلسفته كما سبق. لذلك قال تعالى للنصارى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: ٧٧) وقال في أهل الكتاب عمومًا: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: ٧٨) وقال: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: ٧٩) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي البقية تأتي ((يتبع بمقال تالٍ))