للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


من عذيري

الشكوى من صاحب المنار وشكواه أو عذره
رب لائم مليم، ورب ملوم بريء أو غير مسيء
في يوم السبت ٢٨ ذي القعدة (٢٠ مارس) جاءني كتاب في البريد
بإمضاء (عبد الغفار) يقول فيه: إنه تاجر هندي في مدينة لندن، وإنه جاء
القاهرة لكي يقابلني ويقابل بعض الذين يعرفون شيئًا عن السيد جمال الدين
الأفغاني لجمع ما لديهم من المعلومات عنه؛ لأنه يريد أن يكتب سيرة لهذا المجدد
الشهير، وأنه يحمل خطابًا من حضرة صديقي فؤاد بك سليم حجازي الشهير، وأنه
يلتمس أن أعين له وقتًا خاصًّا لذلك.
وبعد يوم أو يومين جاء دارنا رسول من قبله ولم أكن فيها؛ فترك لي كتاب
فؤاد بك سليم الذي يحمله من أوربة، وكتابًا آخر من حضرة صديقي إسماعيل بك
شيرين وكيل محافظة مصر مؤرخًا في ٢٩ ذي القعدة (٢١ مارس) يقدمه فيه،
ويوصي بحسن قبوله، فعجبت من عنايته بطلب توصية بعد توصية فيما لا يحتاج
إلى توصية، ثم من إرساله لهما مع رسول يطلب له تعيين وقت معين للقائه وعدم
مجيئه هو، وحملت ذلك على حرصه على أوقاته وعلى وقتي أيضًا؛ لأنه يعلم
عقلاً أنني كثير العمل، ومن المعقول في هذه الحالة أن أعين له وقتًا يمكنني أن
أفرغ فيه لحديثه مدة طويلة، واطلاعه على ما عندي من المواد وليست بقليلة، وأنا
لا أملك مثل هذا الوقت إلا في بعض أيام الجمع، وإذ كان أول جمعة لا يزال بعيدًا،
رأيت أن أبلغه من أقرب الطرق - وهو طريق التليفون - أنني مستعد في كل
يوم بل في كل ساعة من ساعات كل يوم للقائه، وأنني على قلة خروجي من الدار
لا أخرج في وقت الصباح، وأنه لأجل الاحتياط يمكنه أن يسأل عني بالتليفون قبل
مجيئه، بلغناه هذا في الفندق الذي نزل فيه، ولم يكن فيه عند التبليغ، فعهدنا
أصحاب الفندق بتبليغه إياه المرة بعد المرة، ولو حضر لأخبرته بما عندي من
المواد في ترجمة السيد وبعض مقالاته وآثاره، واتفقنا معًا على الأوقات التي يطلع
فيها عليها، والطريقة التي يقتبس بها ما يريد اقتباسه منها - وهو لا يعرف العربية.
بيد أنه فاجأني عصر اليوم الثالث من ذي الحجة (٢٤ يونيو) كتاب هذا
نصه:
كتاب وجيه هندي لصاحب المنار
٢٤ يونيو سنة ١٩٢٥
سيدي الأستاذ الجليل سلامًا واحترامًا. وبعد، فقد حملتني الرغبة الصادقة في
البحث عن كل ما يتعلق بحياة السيد جمال الدين الأفغاني - بمناسبة اعتزامي على
تأليف يشتمل على حياة هذا الفيلسوف الإسلامي الشهير - حملتني هذه الرغبة على
التقرب، ثم على التشرف بزيارتكم؛ لينالني تشرف الاستقاء عن علمكم الغزير،
فبادرت بإرسال جواب إلى فضيلتكم ساعة وصولي إلى القاهرة؛ لتتكرموا بتحديد
وقت أتمثل فيه بين أيديكم (!) ، فلما تأخر الرد كلفت صديقًا لي ليتفق مع
فضيلتكم على الوقت الذي ترضون فيه بمقابلتي (!) ، ولما لم يجدكم في البيت؛
ترك هناك كتابي التعرف من حضرة صاحبي العزة فؤاد بك سليم وشيرين بك،
لعلكم تتنازلون بهذه الوسيلة بزيارتي، وقد مكثت في القاهرة أنتظر الرد سبعة
أيام [١] ، وما جنيت يا للأسف من هذا الاتفاق إلا الخيبة والملل.
سيدي - الآن وقد عزمت الرحيل، من هذه الديار أرى من واجبي أن ألفتكم
إلى بعض ما يجول بخاطري بمناسبة هذا الفتور الذي لقيته منكم في هذه الديار،
وقد كنت أنتظر غير ما رأيت.
على أن هذا الفتور لو كان مصدره رجل عادي غيركم وموجهًا إلى شخصي
من حيث إنني بشر لا أكثر ولا أقل لما أتعبت نفسي بالشكوى إليكم، ولما رجوتكم
قراءة هذه السطور، ولكن الرتبة العلمية التي تمثلونها، والصفة الإسلامية التي
جعلتموها شعارًا لكم، والمسئوليات العظيمة التي تتحملونها بصفتكم من علماء
الدين وحامل لواء الشريعة - كل هذه الأمور تحتم علي أن أنبهكم إلى الخطر
العلمي والأخلاقي (!) الذي قد يجركم إليه مثل هذا الفتور، والإهمال غير اللائق
بمقامكم (!) .
شيء آخر يحملني على الإكثار من الشكوى إليكم، وقد اضطررت إلى ذكره
اضطرارًا سيدي، أظنكم لم تنسوا بعد ذلك الاحتفال المهيب بقدومكم إلى البلاد
الهندية، والمقابلات الحارة المخلصة التي استقبلكم بها الهنود، فكنتم موضع إجلال
واحترام من جميع الطبقات بلا استثناء - أما كان يصح في هذه الحالة أن ينتظر
أحد المحتفلين بكم من مكارمكم وتعطفاتكم ما يزيده إخلاصًا إليكم وحبًّا فيكم؟
ولكنني أقول والأسف يملأ قلبي: إن هذا الأمل كان في غير محله.
سيدي، اعتقدوا أنني حاولت كثيرًا أن أبرر عملكم هذا، فكانت هذه المحاولة
خائبة خيبة أملي بلقائكم.
ولست أدري كيف أفسر عملكم هذا عندما أقدم للجمهور مؤلفي، وأذكر ما لاقيت
في سبيل جمع مواده.
وعلى كل حال قد حصلت إقامتي هنا على معلومات بقدر ما تمكنت الحصول
عليها، وأغادر القاهرة اليوم وأنا كل اليقين (؟) والاعتقاد أنني سوف ألاقي في
أوربا وغيرها من بلاد الكفر والإلحاد (؟) من العلماء من هم أوسع صدرًا وأرحب
ساحة من علمائنا الكرام وأخيرًا تقبلوا سلامي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الغفار
(المنار)
لقد بلوت من الناس غرائب كثيرة، ولم أر أغرب من حال هذا الرجل في
أمر سفره من لندن إلى مصر للبحث عن سيرة السيد جمال الدين، وجمع ما يمكن
جمعه منها؛ لأجل تأليف كتاب خاص في سيرته، وللقيام ببعض الأعمال
التجاريةأيضًا، ومكثه في القاهرة أسبوعًا واحدًا وعودته بسرعة، وهذه المدة لم تكن
كلها تتسع لأخذ ما عندي من المواد الخاصة بسيرة السيد - رحمه الله
تعالى - لو لم يكن لنا شغل غيرها، ولا من حاله في أمر اهتمامه بمقابلتي بالتوسل
إليها بتوصيته مَن يعرف ومن لم يكن يعرف من الوجهاء، وبالكتابة وإرسال
الرسول؛ لأجل تعيين موعد خاص للمذاكرة في سيرة السيد، وأخذ المعلومات
المطلوبة، وعدم تفضله بالزيارة بدون سبق الموعد المطلوب، على كونه قد زار
بعض الناس بدون أخذ موعد معين منهم، كإسماعيل شيرين بك ونور الدين بك
مصطفى كما أخبراني بذلك، ثم إسراعه بالسفر بعد مجيء رسوله إلى مكتبة المنار
وسؤاله عني فيها بيومين , وفي أمر كتابه الجامع بين التعظيم والتهكم والمن
والتهديد.
أما أنا فعلى شدة تعجبي من هذا الكتاب واستنباطي منه أن صاحبه شاذ في
عقله وأخلاقه، أسفت أسفًا شديدًا لما فهمته منه أن الفندق لم يبلغه ما عهدناه إليه من
الاستعداد للقائه في كل يوم، ولا سيما وقت الصباح على كونه وقت تزاحم الأعمال
عليَّ الذي به كان وجودي فيه بمكتبي حتمًا لازمًا، وقد حملني هذا الأسف على
الذهاب إلى محطة مصر قبل وقت سفر قطار المساء الحديدي إلى بورسعيد؛ لعلي
أجده مسافرًا فأعتذر له، وأتفق معه على طريقة لإيصال ما يطلبه من المواد في
سيرة حكيمنا الأكبر السيد جمال الدين رحمه الله تعالى.
ذهبت إلى المحطة قبل موعد دخول المسافرين في القطار، وطفقت أتوسم
وجوه ركاب الدرجة الأولى - وكذا الثانية احتياطًا - لعلي أجد سحنة هندية أتطفل
بالسؤال عن صاحبها فلم أجد، وإنما فعلت هذا؛ لأنني أعد للرجل عليَّ حقين لا
يبيح لي شذوذ كتابه هضمهما:
(أحدهما) أنه خاطبني بالوسائط، ولم يعلم أنني أجبته، ولم يلتمس لي
عذرًا على سعة باب التماس الأعذار الذي ضاق عليه.
(وثانيهما) أنه يريد تأليف كتاب في سيرة أستاذنا الأكبر موقظ الشرق
وحكيم الإسلام، وأنا أحرص الناس كما أعتقد على نشر سيرته الصحيحة والاعتبار
بها.
بعد هذا قصصت خبره على شابين هنديين نجيبين مشتغلين بطلب العلم
بمصر، فجزم كل منهما وحده برأي واحد، وهو أن هذا الشذوذ بالامتناع من
الزيارة أولاً وبالكتاب الجامع للغرائب ثانيًا، ليس من شأن هذا الرجل ولا من
المعهود من آدابه وأخلاقه، وإنما هو تأثير مؤثر خادع من الهنود الزائغين، كالذين
يبثون دعوة المسيح الدجال القادياني في مصر باسم الأحمدية، أو الملاحدة الذين
فتنوا بأفكار بعض الزنادقة اللادينيين هنا، وكلا الفريقين يمقت المنار وصاحبه؛
لأنه أشد خصم لهم في العالم الإسلامي، وجزم كل منهما بأن الرجل لا يعرف
العربية، وأن الذي كتب له هذا الكتاب الشاذ لم يخبره بكُنْه ما فيه، ولو أخبره لما
أمضاه.
ثم سألني عنه الزعيمان الهنديان الكبيران اللذان ألما بالقاهرة في هذه الأيام
الحكيم محمد أجمل خان والدكتور مختار أحمد الأنصاري، فذكرت لكل منهما نبأه،
وأطلعت كلاً منهما على كتابه، فوافقا الشابين بأن هذا ليس من دأبه ولا من آدابه،
وأنه خدع به.
***
اعتذار صاحب المنار عن تقصيره
ولما كان من شأن هذا الغش وسوء الفهم أن يقع كثيرًا رأيت أن لا تثنيني هذه
الشهادة من أربعة عدول، بما تقدم آنفًا عن ذكر بعض ما جال في خاطري، من
الآراء عند قراءة هذا الكتاب بالإيجاز، وإظهار عذري فيما عسى أن يكون قد وقع
أو قد يقع من سوء الفهم في مثل هذه المرة بيني وبين بعض الناس فأقول:
(أولاً) إنني رجل ضعيف، دخلت في سن الشيخوخة، وأشكو بعض
مبادئ الأمراض التي تهدد الناس في هذه السن، وأنا مع هذا مطالب بأعمال كثيرة
أذكر مجامعها:
(١) القيام بشئون أسرة كبيرة وأطفال لا عائل ولا مربي لهم غيري.
(٢) القيام بتحرير مجلة دينية اجتماعية ليس لها محرر ولا مساعد غيري.
(٣و٤) إنني صاحب مكتبة ومطبعة لا بد لي من نظر ما في بعض أمر
إدارتهما، ولضيق وقتي عن إتقان ذلك يفوتني ربح كبير أنا محتاج إليه، بل
تحملت كثيرًا من الخسارات المالية والأدبية.
(٥) إنني أتولى تصحيح جميع مطبوعاتي من المنار وغيره بنفسي المرة
بعد المرة، وأنظر في تصحيح غيرها مما يطبع في المطبعة مع مصححها، وهذا
العمل يستغرق أكثر أوقاتي في هذه السنين، وقد جربت الاعتماد على المصححين
فرأيت كل ما يصصحونه كثير الغلط، حتى إنني اضطررت إلى مراجعة جداول
تصحيح الغلط الذي وضعوه لبعض الكتب على المطبوع والمخطوط كلمة كلمة،
بمعارضتها على عدة نسخ في خلال سنين متفرقة، وأخرت إرسال بعض الكتب
إلى أصحابها زمنًا طويلاً لأجل ذلك، فساءهم ذلك، وهم لا يعذرونني بأمانتي
العلمية الدينية، ولو فعلت كما يفعل سائر أصحاب المطابع لكان أرضى لهم وأربح
لي، ووضع لي بعض الأذكياء فهارس للمنار، فكان شغلي بتصحيحها أطول من
شغلي بوضع خير منها.
(٦) إنني أعمل في بضع جمعيات علمية واجتماعية وسياسية، كالمجمع
اللغوي والرابطة الشرقية، ومؤتمر الخلافة، ونقابة الصحافة، ولجنة المؤتمر
السوري الفلسطيني إلخ، وقد كنت في الأسبوع الذي زار فيه حضرة الأخ محمد
عبد الغفار القاهرة مكلفًا ثلاثة أعمال كتابية لبعض هذه الجماعات.
(٧) أنه تأتيني مكتوبات كثيرة من أقطار الشرق والغرب أقلها في شئون
المجلة والمطبعة والمكتبة التي يوجد عندي من يساعدني على ما يطلب منهن -
وأكثرها يتعلق بشؤون الأمة العامة أو بالشئون الأدبية العلمية والعملية أو السياسية
أو الشخصية، أما الشخصية فأكثرها استفتاءات خاصة شرعية من دينية ودنيوية،
غير ما يطلب نشره في المنار، وأقلها طلب مساعدات مالية أو شفاعات، وأما
العلمية فمثل طلب الأخ محمد عبد الغفار، وكلها مبنية مثل ما حملني من التبعة
والمسئولية بسبب الشهرة العلمية، ومن أغربها أن بعض المؤلفين المعاصرين
طلبوا مني قراءة ما ألفوا، والشهادة لها بأنها جديرة بأن تدرس في المدارس
الإسلامية لعامة المسلمين على أن بعضها لأهل السنة وبعضها للشيعة الميالين إلى
الوحدة الإسلامية مثلنا.
(٨) كثرة الزائرين المختلفي الأغراض من أصدقاء أولياء، ومن عفاة
وطلاب حاجات، ومن مستفتين ومشاورين في بعض الشؤون العامة أو الخاصة،
ومنهم من لا يذكر حاجته إلا بعد بَسْطِ أخبار ووقائع طويلة، ولو شرحت هذه
الحاجات لعجب جميع القراء من ذكر الناس لمثلها، ومن صبري عليهم.
(٩) النظر ولو إجمالاً في العشرات من الصحف السياسية والمجلات
العلمية التي ترد من الأقطار المختلفة للوقوف الإجمالي على حال العالم وسياسته،
وسير العلم والأدب والعمران، ويناسب هذا النوع ما يهدى إلى المجلة من الكتب
والرسائل التي تنشر في كل آن، ولا بد من النظر فيه بقدر ما تسمح به الفرص،
وأنا مقصر فيه لضيق وقتي.
(١٠) ما أضطر إليه من نشر بعض المقالات في الصحف اليومية
كالمقالات التي نشرت في سياسة الملك حسين بن علي وأولاده، ومقالات الخلافة،
وما فعل الترك بخلافتهم وسلطتهم، ومقالات (الوهابيون والحجاز) ، والرد على
كتاب الإسلام وأصول الحكم.
إنني وايم الحق لعاجز عما يرضي الناس في الأمر السابع من هذه الأمور
العشرة، وهو الذي يظن أصحابه وغيرهم أنه أهونها، وأعني به الكتابة إلي في
الشؤون المختلفة، فإنه لتأتيني المكتوبات أحيانًا وأنا مشتغل بكتابة موضوع أو كثر
لأجل عمال المطبعة، وبتصحيح كراسة أو أكثر؛ ليشتغل بها مصححها، فأقرأ
بعضها وأرجئ قراءة بعض إلى فرصة لا تستلزم تعطيل عمل لا بد منه، وقد أعهد
إلى وكيل الإدارة بقراءتها وإخباري بما فيها عند فرصة فراغ من الضروريات إذا
كان خاصًّا بي، وإن هذا الإرجاء قد يفضي إلى اجتماع عشرات من هذه المكتوبات
أمامي، فتمر الأيام والأسابيع ولا أجد وقتًا لقراءتها، حتى إذا سنحت فرصة فراغ
من الضروريات، أكتب لصاحب الحق الأول فالأول موضوعًا أو زمنًا، وقد أكتب
إلى الرجل الواحد مرجوع كتاب له في الأمور العامة في بضعة قراطيس، ومن
هذه المكتوبات ما يرد بلغة لا أعرفها، وليس عندي من يترجمه لي، فيتأخر عندي
إلى أن أجد مترجمًا ثقة أمينًا، ومن ذلك ما كتبته إليَّ إدارة المدرسة الجامعة
الإسلامية في عليكره (الهند) في اختيار أستاذ للعربية فيها، كتبت إلىّ باللغة
الإنكليزية، وأرسلت مع كتابها نظام المدرسة ومنهج التعليم فيها، وكلاهما
بالإنكليزية ليعرضا عليَّ الأستاذ الذي اختاره لها، فالقيام بحقوق الناس في الرد
على مكتوباتهم لا يتم لي إلا بمساعدة كتاب ومترجمين موظفين، ولست قادرًا على
ذلك.
بعد هذا التمهيد العام أقول - عودًا على بدء -:
(ثانيًا) قد كان من المتعذر عليَّ أن أجيب طلب الأخ محمد عبد الغفار عقب
وصولِ كتابه لو كان صاحب الحق الأول , فإنه طلب تعيين موعد خاص لاطلاعه
على ما عندي من سيرة السيد جمال الدين، ولم أكن أملك وقتًا يتّسع لذلك مع الأعمال
الضرورية اليومية التي لا يمكن تأخيرها. وأما الزيارة فهي عندي مباحة في عامة
أوقاتي لأنني أشتغل في حضرة الزائرين معتذرًا لهم، وأحدثهم في أثناء العمل ولو كان
تفسير القرآن الحكيم أو الإفتاء ولولا هذا لاضررت إلى ردِّ أكثر الزائرين، وهو لم
يكن يريد هذه الزيارة غير المقيدة بما طلبه , وإلا لزاراني كما زار غيري من الرجال
الراسبين وغير الراسبين , فزيارتي أسهل من زيارتهم.
(ثالثًا) لم يكن يخطر في بالي أن يكون وقت إقامته بمصر لمثل هذا العمل وغيره
من الأعمال التجارية أيامًا تُعَدُّ على الأصابع تتحكم فيها بوقت غيره المجهول عنده كما
يتحكم في عمَّاله وخدمه الواثق مِنِ استطاعتهم على طاعته متى شاء؛ بل ليس من
المعقول عندي أن يكفي مثل هذا الوقت لأخذِ موادٍ كافيةٍ لتأليفِهِ من معاهد العلم العامة؛
كخزانة الكتب المصرية مثلاً , لذلك كُنْتُ أظن أننا لا بد أن نلتقي وأن تبليغه بالتلفون
الاستعداد لمقابلة كل يوم هو كل ما يجب عليَّ.
(رابعًا) إن مَنِّهِ عليَّ بحفاوة مسلمي الهند بي لم يكن لائقًا منه، وإنْ جعله حجةً
على أنه يجب عليَّ أن أقابل كل هندي مثلي، واتهامي تعريضًا بل تصريحًا بعدمِ
الوفاء ومقابلة الجميل بمثله بعيد عن اللياقة وعن الصواب جميعًا.
إنَّ جمعية ندوة العلماء دعتني إلى رياسة مؤتمرها السنوي رجاءَ أن يكون ذلك
سببًا لإقبال الجمهور على المؤتمر، وإنني أَجَبْتُ دعوتَها في وقتٍ كنت مشتغلاً فيه
بتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد التي أعتقد أنها أفضل عمل وضع لخدمة الإسلام في
هذا العصر , ووافقني على اعتقادي هذا كل مَنْ وقف على كنهه من خواص مسلمي
العرب والعجم حتى في الهند والآستانة، كما أنني كنت عازمًا على الزواج، تركت
هذا وذاك إجابة لدعوة الندوة، وسافرت على نفقة نفسي لا على نفقتها كما هو المعتاد
في مثل هذه الدعوة وقد احتفى بي المسلمون في كل بلد زرته كما قال وفوق ما قال،
وما كان لذلك من سبب إلا اعتقادهم أنني أخدم الإسلام والمسلمين لوجه الله
تعالى، وكنت أعلنت أنني لا أقبل من أحد مساعدة ما ولو باسم الهدية
المسنونة، حتى إن آنية الشاي الفضية التي صاغتها الندوة تذكارًا لزيارتي، ونقشت
عليها اسمها واسمي لم أقبل أن آخذها منها، ولكنها أرسلتها إلى صديقي المحسن الكبير
الشيخ قاسم إبراهيم الشهير في بمبي، وهو أرسلها إلى مصر، احتفوا بي بداعية
الإخلاص كما أجبت دعوة ندوتهم بمحض الإخلاص، وأنفقت من المال والوقت في
هذه السبيل فوق ما أنفقت هي في الحفاوة بي، وهي جماعة وأنا فرد، وإنما سدى
ذلك ولحمته الإخلاص، فلا يليق بأحد منا أن يحيط هذا الإخلاص، ولا أن يشوهه
بالمن والأذى، ولا أن يوجب لنفسه على الآخر به حقًّا ويهدده بالتشهير العلني
والإهانة على التقصير فيه.
(خامسًا) إنني لست من عشاق التعظيم والحفاوة، ولا من المفتونين
بالشهرة؛ ولذلك لم أكتب، ولم أوعز إلى أحد من إخواني أو تلاميذي أن ينشر في
الجرائد أخبار تلك الاحتفالات العظيمة التي كنت أفر منها، حتى لم أكن أخبر من
تلقاء نفسي بلدة من البلاد بوقت وصولي إليها.
(سادسًا) إنني على هذا وذاك ما قصرت، ولن أقصر - إن شاء الله تعالى -
في الشكر والثناء الخالص على مسلمي الهند عامة، وعلى الذين تفضلوا بإكرامي
منهم خاصة؛ لإخلاصهم في تلك الحفاوة وفي عامة شؤونهم الملية، وغيرتهم
الدينية، ومازلت أفضل مسلمي الهند على سائر الشعوب الإسلامية في شعور
الجامعة الإسلامية، وبذل النفس والنفيس في سبيله، وأعترف بأنه لا يباريهم في
هذا غيرهم؛ على أن ضيافتي وتكريمي من قومي العرب في بمبي ومسقط
والكويت والعراق كانت أكبر مظاهر الكرم وبمحض الإخلاص أيضًا، وهل
أستطيع أن أكافئ جميع هؤلاء الناس بمثل ما يطالبني به هذا الفاضل
الهندي؟ .
(سابعًا) إنني لما ذكرت من رأيي في مسلمي الهند أراني أشد ارتياحًا
لزيارة فضلائهم لي من زيارة غيرهم، وقد زارني أعضاء الوفد الذي أرسلته
جمعية الخلافة إلى الحجاز قبل موسم الحج الأخير، في صبيحة الليلة التي وصلوا
فيها إلى مصر عائدين من جدة - ولكن بغير توسل بأحد، ولا بإرسال مكتوبات
ورسل، ولا بطلب تحديد موعد كتابي معين - وكنت في ذلك الوقت مشغولاً بالنقلة
من دار إلى دار: نقلة المتاع والماعون والمكتبة والمطبعة جميعًا، ولا يوجد عندي
من يقوم مقامي في الأمر بوضع كل شيء في موضعه من الدار الجديدة، فكنت
أترك الناقلين يلقون ما ينقلون بعضه فوق بعض، وأشغل الزمن الطويل مع أعضاء
الوفد، فتلف بذلك بعض الأثاث والماعون، وفقد بعض، وبقيت كتبي الخاصة
وأوراقي ملقاة على الأرض أكثر من أسبوعين لا يمكن تمييز بعضها من بعض،
بل عرضت نفسي لنزلة صدرية؛ بالذهاب معهم إلى أهرام الجيزة مساء بالسيارة
وأنا في ملابس خفيفة لا تقي تأثير تيار الهواء. ولما سافروا ودعتهم في محطة
السكة الحديدية، وأعترف مع هذا بأنني مقصر، إذ لم أقم بحق ضيافتهم؛ لأن
الدار لم تكن صالحة لذلك.
وليعلم الأخ الكريم محمد عبد الغفار أنه لو لم يكن من مسلمي الهند وممن
يعنون بتاريخ حكيمنا السيد جمال الدين، لما عنيت بالذهاب إلى محطة مصر
للاعتذار له بعد أن رأيت ما في كتابه من الشذوذ الأدبي والتهديد والوعيد اللذين لا
يبالي بهما مثلي ممن لا يخاف ولا يرجو غير الله تعالى، ولا يقابل أصحاب التهديد
والوعيد إلا بالإعراض.
ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب
(ثامنًا) إنني من أشد الناس مقتًا للمداهنة وتكلف المدح الكاذب والإطراء،
كما أنني من فضل الله عليّ من أقلهم مبالاة بالمدح والذم الشعريين، حتى إنني لا
أحفل بقراءة ذلك إذا قيل لي: إنه نشر في جريدة كذا مثلاً، ولكنني أبحث عن
عيوبي بعرض عملي على أهل النقد، وبسؤال أهل الصدق والإخلاص عما
ينكرونه علىّ أو مني؛ لأستعين بذلك على تربية نفسي، وإتقان عملي.
وإنني أعلم أن كراهتي للتملق والنفاق أسخطت علىّ كثيرًا من الناس، وأن
المداراة مطلوبة شرعًا وعقلاً، ولكن من الناس من لا يرضيهم إلا الكذب وقول
الزور، ويعدون من يتحامى الإطراء بالباطل مقصرًا في حقهم أو مهينًا لهم أو
متكبرًا عليهم، وأمثال هؤلاء لا حيلة لي في إرضاءهم، على أنني أبرأ إلى الله
تعالى أن أتعمد التحقير أو التقصير في حق أحد منهم أو من غيرهم.
ومن دون هذا الصنف صنف آخر خير منه، وأنا عاجز عن إرضاء أفراده
حتى المخلصين في المودة منهم، وأعني بهم أهل المساومة والمشاحة في المعاشرة
للربح أو المساواة: زيارة بزيارة، ودعوة بدعوة، وتهنئة بتهنئة، وتعزية بتعزية،
وكتاب بكتاب، كما قال الحريري:
وكلت للخل كما كال لي ... علي وفاء الكيل أو بخسه
فأنا لا أعد هذه الطريقة من الخلة ولا الصداقة الخالصة، كما قلت في
المقصورة:
من كال للخل كما كال له ... فتاجر ليس خليلاً يصطفى
فلا ألتزم تهنئة أصدقائي في الأعياد بزيارة قريب الديار ومكاتبة بعيدها، ولا
أطالبهم بذلك، ولا ألومهم على تركه، وإنما أزور وأكتب عند سنوح الفرص،
وأبني الصداقة على أساس الصدق والإخلاص وترك التكلف، وعدم الظنة، فلا
أتهم أحدًا بتعمد التقصير في حقي، كما أنني لا أتعمد التقصير في حق أحد، وأكره
أن يتهمني بذلك؛ لأنه ظلم، ولا أعاشر أحدًا لأجل أن أنتفع منه نفعًا ماديًّا،
ولكنني قد أزور من أرجو أن أستفيد من رأيه ومذاكرته، وإن لم يكن صديقًا لي.
وجملة القول أنني افترضت هذا التثريب والتأنيب من أحد إخواننا فضلاء
الهند (على قبول عذر من اعتذر عنه إن وافقهم عليه) لأبين حقيقة حالي لقراء
المنار البعيد منهم والقريب، فإنني أعلم أن بعض من لم يعرف هذه الحقيقة ينكرون
عليَّ ما لا أنكره من التقصير في مكاتبتهم أو زيارتهم، أو قضاء حاجتهم، وإنما
أنكر تعمد ذلك، وأعترف بالعجز، فما يطلب مني هو في الغالب فوق استطاعتي،
وكله يبنى على الأساس الذي بنى عليه هذا الوجيه الهندي: أي الشهرة بالعلم
وخدمة الإسلام، حتى إن الذين يطلبون مني المنار وتفسير المنار وغيره بنصف
ثمن أو بغير ثمن، وكذا الذين يطلبون المساعدات المالية يقولون ويكتبون إليَّ بأنها
واجبة عليَّ لما ذكر، ولكن لم يساعدني أحد من المسلمين مساعدة مالية أستعين بها
على خدمة الإسلام والمسلمين بمثل ما ذكر، ولا أنا صاحب عقار أنفق منه، بل لا
أملك دارًا أقيم بها، بل أكثر مشتركي المنار يمطلون بحقه مطلاً، ومنهم من
يهضمه هضمًا، وأنا أعلم أن هذا البيان غير معتاد ولا مألوف في العرف العام،
وقد ينتقده بعض الناس، ولكن أهل الصدق والإخلاص يعلمون أنه حق صادر عن
صدق وإخلاص، وإني ألخص عذري بهذه الكلمة:
إنني قد ابتليت بشهرة هي أكبر مني، ولم أوت من العلم ولا من المال ما
يسهل عليَّ القيام بأعبائها، وأنا أتحمل أثقالها بالرغم مني، كما قال لي أحد كبار
ضباط الإنكليز عندما رآني متبرمًا من تضييقهم عليَّ في الإذن بالسفر إلى سورية
بعد الحرب الكبرى: إن الشهرة الكبيرة تلزمها أثقال كبيرة لا بد من الصبر عليها،
فأنا ضعيف في كل شيء، وأطالب بما لا يقدر عليه إلا جماعة من الأقوياء ذات
إدارة غنية منظمة، لا أستطيع إجابة كل سائل، ولا مراسلة كل مراسل، ولا
سماع القصص والوقائع الشخصية من كل قائل، ولا رد زيارة كل زائر، ولكنني-
وأقسم بالله - لا أتعمد التقصير في حق أحد استهانة به أو تفضيلاً لنفسي عليه،
وإنني أرجح المصلحة العامة ومصالح بعض الناس أحيانًا على مصلحتي الشخصية،
ولولا ذلك لما تأخرت مجلة المنار عن موعدها يومًا واحدًا؛ على أنني لا أتهم
أحدًا بالتقصير في حقي، ولا أؤاخذه عليه بقول ولا عمل، وإنما أعاتب الإخوان
المخلصين تلذذًا بالعتاب، وأجتهد بقدر استطاعتي في مساعدة كل منهم على خدمته
الملة والأمة، وفي قضاء حاجته الشخصية أيضًا. وإذا كانوا يصفون بالإنصاف
قول الشاعر الذي ضربوا به المثل:
على أنني راضٍ بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا عليَّ ولا ليا
فأنا أرضى بأن أحمله، وأخلص منه وعليَّ أكثر مما لي، فمن رضي بهذه
المعاملة فعلى الرحب والسعة، والمقابلة بالترحيب والترجيب، ومن لم يرض بذلك
وهو منتهى ما في الوسع بل فوقه، فما له عندي إلا قول بعض شيوخ الصوفية:
غنينا بنا عن كل من لا يزورنا ... وإن كثرت أوصافه ونعوته
فمن جاءنا يا مرحبًا بقدومه ... يجد عندنا ودًّا صحيحًا ثبوته
ومن صد عنا حسبه الصد والجفا ... ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من ذنب التبجح والدعوى، ومن كل
ذنب، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.