نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في الجزء الرابع منها نبذة في الطعن بالمسلمين عامة وبأكابر الصحابة الكرام خاصة، وذلك أن عابتهم وعابت دينهم بالرجاء لفضل الله والخوف من الله , وهذا مبلغ القوم من العلم بالله وبدين الله، أثبتت (إن كثيرين من المسلمين يموتون على بساط الرجاء بدخول الجنة والتنعم بنعيمها بناء على ما لهم من المواعيد الكريمة في قرآنهم) إلى أن قالت: (وما علة ذلك سوى جهلهم حقيقة أنفسهم وكمالات الباري تعالى) ثم قالت مستدركة: إن أولي العلم والذكاء من المسلمين غالوا في النسك والتعبد والصلاة والابتهال إلى الله تعالى وجعلتْ علة هذه العبادة أنهم لم يجدوا ما يريح نفوسهم من الشعور بثقل حمل خطاياهم. واستشهدت على المعلول دون العلة بكلام في الخوف من الله عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وسفيان الثوري، وعُدَّ سفيان من الصحابة وما هو من الصحابة، ولكن العلم ليس شرطًا للقول عند هؤلاء المشاغبين، وفي العبارة أيضًا تحريف، وليست الأمانة من شروط النقل عند هؤلاء المبشرين. وما لنا وللبحث في الروايات التي نقلتها وبيان التحريف , وضعف الضعيف؟ نضرب عن ذلك صفحًا، وعن العبارات التي أساء بها الكاتب الأدب مع هؤلاء الأئمة الذين يفتخر بهم النوع الإنساني , ولو صدق المسلمون هذه الكتب التي تسمى التوراة، وسمح لهم دينهم بتفضيل أحد على الأنبياء لكان لهم من التاريخ ما يفضلون به هؤلاء الأئمة على أنبياء التوراة؛ إذ لم ينقل عن واحد منهم مثلما نقل القوم عن أنبيائهم من القسوة والظلم والسكر والزنا وسفك الدماء برأهم الله مما قالوا. نغضّ الطرف عن هذا ونبين للقراء أن الغرض من ذم الخوف والرجاء اللذين هما الركنان لكل دين صحيح هو تقرير قاعدة إباحة المعاصي والشرور التي هي العنوان لبشارتهم والجاذبة إلي ديانتهم , وهي أن النجاة في الآخرة من العذاب والحياة الأبدية في الملكوت إنما يحصلان باعتقاد أن الإله لم يجد وسيلة لنجاة البشر من ذنب أبيهم آدم إلا بحلوله في جسم إنسان، وتسليط طائفة كانت أفضل الشعوب عليه، وصلبها إياه وصيرورته ملعونًا بحكم الناموس والشريعة! ! فمن أطفأ سراج عقله وأفسد فطرة نفسه وسلم بهذه القاعدة فهو الناجي الذي يرث الملكوت الأعلى، وإن قَتَلَ وَزَنى وسكر وأكل أموال الناس بالباطل وظلم العباد وكان آفة العمران. ولذلك صرح الكاتب الذي لا أقدر أن أصفه إلا بكونه مبشرًا داعيًا إلى هذه العقيدة بأن سبب خوف أبي بكر وعلي وسفيان من الله هو جهلهم بقاعدة الفداء , يعني أنهم لو عرفوا وصدقوا بها لكانوا عاشوا آمنين من مكر الله وعذابه، يسرحون ويمرحون في أهوائهم وحظوظهم. والحاصل أن المسلم الذي يغلب عليه الرجاء بفضل الله ووعده للمحسنين بالنعيم جاهل ضال , والذي يخاف الله هيبة وتعظيمًا أو لاتهام نفسه بالتقصير في الأعمال الصالحة النافعة للناس وفي المعارف والكمالات المزكية للنفس , فهو جاهل ضال. وأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة بينهم وتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال - كل ذلك لا ينفع المسلم الصادق ولا يغني عنه شيئًا، فما حيلة المسلم المسكين إذا ابتلاه الله تعالى بسلامة الفطرة ونور العقل فلم يقبل تلك القاعدة التي تفصَّى منها الذين تربوا عليها تقليدًا لما عقلوا وميزوا، على أن كتب القوم لا تخلو من نصوص تدل على أن رسلهم ومقدسيهم كانوا يخافون من الله تعالى ويرجون رحمته؛ لأنهم لم يكونوا إباحيين بل كانوا قومًا صالحين. إن القرآن الحكيم علمنا بأن دين الله تعالى واحد في جوهره , وأن جميع الأنبياء وصالحي المؤمنين بهم كانوا عليه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن صفات الحوادث وإفراده بالعبادة والخوف الزاجر عن المعاصي والشرور والرجاء الباعث على الخير والصلاح، وإننا نرى جميع عقلاء المسيحيين يوافقوننا على هذه القاعدة ويودون أن يهتدي إليها دعاة كل دين ورؤساؤه ليكون الدين كما شرع الله سعادة للبشر , لا وبالاً وشقاءً عليهم , ومثارًا للخلاف والشحناء والبغضاء بينهم. وقد ذكر الإمام الغزالي أنواعًا للخوف كخوف الموت قبل التوبة، وخوف نقض التوبة ونكس العهد وخوف ضعف القوة عن الوفاء بالحقوق، وخوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة وخوف الميل عن الاستقامة، وخوف استيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة، وخوف الغرور بالحسنات وخوف البطر بكثرة النعم وخوف انكشاف غوائل الطاعات بأن يبدو للمرء ما لم يكن يحسب وخوف ما عساه يطرأ عليه في مستقبله، وخوف نزول البلاء، وخوف الاغترار بزخرف الدنيا وخوف اطلاع الله على السريرة في حال الغفلة وخوف سوء الخاتمة. ويمكن استنباط أنواع أخرى، وأعلى الخوف خوف المهابة والإجلال لله عز وجل، وكل ذلك من الذنوب عند هؤلاء المبشرين. ((يتبع بمقال تالٍ))