للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقاريظ كتاب الوحي المحمدي
(تابع لما نشر في العدد الماضي)
(٢)
- ٥ -
للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي
تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب
(الوحي المحمدي) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر،
وذلك خُلُق طبعه الله عليه.
وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم
اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر،
بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه
عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف
في هذا العصر. ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه
العقبان.
تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي
جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في
اللجج، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر
الضرغام، بسيف الحق الصمام، حتى ذلت بعد جبروتها، وصغرت بعد
كبريائها، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب، وإذا بها ريش
وهباء، أمام زعزع نكباء {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: ١٨) .
وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب، بل هو
كتاب جمع فأوعى، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي، وأنه آية الله الكبرى
التي أيد بها دينه ونبيه، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران، وتعاقب الملوان،
وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم.
وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع
الأنبياء بوجه عام، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل
النبوة، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف
والخصم المعاند. وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة
الإسلامية: أحكامها وحكمها.
وإنك لتجد أن السيد الإمام، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به
الإسلام، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد،
لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في
أن القرآن أعظم كتاب منزل، على أشرف نبي مرسل، دعم المؤلف الإمام هذه
المقاصد بشواهد حية، وآيات ناطقة، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس
طالعة، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان
القرآن.
وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بنسب النبوة. ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي
الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال: هل رأيت
الله حين عبدته يا أبا جعفر؟ فقال: لم أكن لأعبد من لم أره. قال فكيف رأيته؟
قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك
بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور
في القضيات، ذلك الله الذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابي: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: ١٢٤) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد، وإن
أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي.
بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي
***
- ٦ -
للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار
ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة
العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء؟
من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس
والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء.
ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب
العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر.
ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن
تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها
موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها.
فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد، ويملي على قلمه ما
يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب، فكان بينهم
المخطئ والمصيب، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه؛ لأن خطأه إذا شاع بين
العوام، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام.
لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام،
علامة الإسلام، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. فأبان
أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه. فكان
من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول
محمد عليه الصلاة والسلام، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد، إلى غير ذلك
من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم
يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات
ودحضها بالحجة والبرهان، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح
جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا.
وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته
ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية، تنظيمًا يتفق وحاجة بني
الإنسان، على اختلاف الأزمان والبلدان.
ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن
يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية،
ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال،
فكان كتابه كتابًا قيمًا، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته
النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار
***
-٧-
لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ
محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام
أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله
سلامًا واحترامًا (وبعد) قرأت (كتاب الوحي المحمدي) الذي أهديتنيه
فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة، في الحظوى بما هو لعيون
المؤمنين قرة، ووقفت موقف الحائر، فيما أقول عن هذا السيف الباهر، المزري
بالدرر والجواهر، والسهل الممتنع، الجامع المانع، في بيان حقيقة دين الإسلام،
لكافة الأنام، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر، فتح ونصر، وشعرت كأن
مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد، أمة الإجابة والدعوة، ويا طلاب الحقيقة
والخلاص والإخلاص في هذا العالم، هاكم كتابًا اقرءوه، فتعلموا منه بالوجدان
والضمير الحي، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل، والترقي
والعدل، والتسامح والفضل، والعز والمجد، والسيادة لكل فرد، والكفالة
لكل خير في معاشكم، والسعادة في معادكم، وإنكم إن علمتم به وعملتم
فزتم بسعادة الدارين، وإن لم تعملوا، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم
بها وحدها، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم،
وذلك هو الخسران المبين، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين،
نزل به روح القدس جبريل الأمين، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فمن هذا السرور، ومن هذا الشعور، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن
يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل، العلامة النبيل، الفهامة لدين الإسلام، ابن
عمك الرشيد الإمام، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين،
راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه، أدام الله فضله
عليه، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم
١٠ رمضان سنة ١٣٥٢ ... ... ... ... ... مفتي طرابلس
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي
***
طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد
تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي
(محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ، ونشر فيها)
هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة، أنتجها قلم إمام هذا العصر
وحكيمه الأكبر، مولانا السيد محمد رشيد رضا. لا زال بحر بره زاخرًا
يقذف بالدرر، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة، وظله الوارف حماية
للإسلام والمسلمين.
هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب
الله القرآن، واستخراج نفائس كنوزه، وأين منها الياقوت والمرجان، وهي
بلا شك من التحديث الرباني، والإلهام الرحماني، قدمها حضرته للعالم
الإنساني، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع
الإنساني محمد صلوات الله عليه. فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب
المقدس، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز، وهو
الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية، لا التمسح على الأحجار أو تعليق
الخرق المزوقة، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة، والفقراء ذات اليمين وذات
الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس، وراية
الإسلام منكوسة، وأحواله معكوسة، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا،
وسنته الشريفة متخذة سخريًّا، ولا غرو {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ
الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ
اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر: ١٩-٢٢) .
افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك
ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في
ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها
وتسعدها، وبيَّن انحطاطهم الروحي، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من
الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون، وبرهن على أن السعادة
البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي، والرقي النفسي ببراهين
لا تبقي للشك مجالاً، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا
الزمان، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها
على المادة، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك
الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها.
ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث
انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها، وإطباقهم على أن أديانهم
لا تنجع في علاج هذا الداء، بل ربما كانت إحدى عوامله، فأراد هذا الإمام
الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم، وأن الدواء الناجع على طرف
الثمام، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار
الدين الأصلي الخالد، دين الفطرة، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله
ليتفقهوا فيه باتخاذهم (الوحي المحمدي) دليلاً وهاديًا، ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون
لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها،
وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله
قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا، وأتى في هذا السفر
الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونقلاً من الكتب المنزلة والسنن النبوية
التي يتضاءل أمامها كل معاند بما يشفي الغليل، ويبرئ العليل في أمهات
المسائل التي تشغل أذهان علماء العصر وعامته. فمنها نبوة محمد صلى
الله عليه وسلم وإثباتها بالحجج التي تجبر مثبتي الوحي ونُفَاته على الإذعان
والبحث الوافي الشافي في الوحي والمعجزات عند النصارى وعند المسلمين
والفلاسفة مما لا تجده في غيره. ومن خواصه أنه أورد في جميع الشبهات
القديمة والجديدة التي وجهت للوحي العام والخاص وأجاب عنها بأحسن
جواب. ثم خرج إلى المقصود بالذات وهو القرآن مبينًا أسلوبه، وحكمة
تكرار الآيات فيه، وما أحدثه هذا الكتاب العظيم من تأثير وانقلاب في العالم،
ثم حصر مقاصده الأصول نذكرها آسفين إجمالاً لضيق المقام.
(وهنا لخص الأستاذ مقاصد القرآن العشرة وخاتمة الكتاب فجزاه الله
عن نفسه ودينه وأخيه المؤلف أفضل الجزاء) .
***
تقريظ مجلة الشبان المسلمين لكتاب الوحي المحمدي
لرئيس تحريرها الأستاذ النحرير الدكتور يحيى الدرديري
الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا ليس بغريب على القارئ حتى نقدمه
إليه بمقدمة تشرح تاريخه وماضيه في الجهاد القلمي للإسلام. وبحسب القارئ
أنه يعلم أنه منشئ مجلة المنار، وأنه وارث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده، ومذيعه على الناس إذاعة لولاها ما كتب له هذا الذكر الخالد العريض.
وقد أخرج للمكتبة الإسلامية العربية في هذا العام كتابًا قيمًا في إثبات الوحي
المحمدي بالقرآن، ودعوة شعوب المدنِيَّة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية
والسلام.
وقد تعرض فيه للشبهات التي تحوم حول نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم وردها وبين رأي الكنيسة المسيحية في النبوة وتعرض لبيان المعجزة
والكرامة والخوارق وتأثيرها في الأفراد والأمم، وبيَّن أن الوحي المحمدي ليس
وحيًا نفسيًّا كما يعتقد بعض علماء الفرنجة، وبين قيمة القرآن في إثبات معجزات
الأنبياء وتفرد الإسلام بنوع من الإعجاز ليس في غيره من الأديان إلى غير ذلك من
المباحث والقضايا الدينية التي قد لا يُعْثَرُ على حل لها إلا في منتوج قلم الأستاذ الشيخ
رشيد.
ويقع الكتاب في مائتي صفحة وهو مطبوع طبعًا جيدًا في مطبعة المنار
فنحث القراء على اقتنائه.
***
تقريظ
(بقلم الأديب الكبير الكاتب النحرير الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري)
نشر في جريدة البلاغ الغراء
شغلتي أشغال عن مطالعة هذا الكتاب أول مظهره. حتى إذا تفرغت وتهيأت
لي الأسباب تجردت في قراءته وتدبره. ولقد تناولته والظن معقود بأنه من جنس ما
خرج من الكتب في بابه، على أنني ما كدت أسترسل فيه حتى جعل يتعاظمني
شأنه، ويتكاثرني خطبه، وكلما أمعنت فيه زادني إعجابًا به، وإجلالاً لموضعه،
حتى خرجت منه ولا يكاد كتاب في بابه يبلغ مداه، أو ينتهي منتهاه.
ولقد يتداخلك العجب من أن أطلق أنا مثل هذه الشهادة في كتاب يخرجه
السيد رشيد رضا، وبيننا ما أعلم ويعلم، وما الله تعالى به أعلم، فإن للدين
والعلم حقًّا يجب أن تكبح له الشكائم، وتسل دونه السخائم، وللحساب الغليظ
مقام آخر إن شاء الله [١] .
كتاب الوحي المحمدي يرجع موضوعه أو موضوعاته في الجملة إلى
إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها خاتمة رسالات الرسل عليهم
الصلاة والسلام. وأن شريعته هي الشريعة الجامعة لكل ما فيه صلاح العالم
وحضارته ويسره وأمنه وسعادته في كل مكان، وإلى غاية الزمان، وإن
شأنه عليه السلام مع شأن من تقدمه من الرسل الكرام لعلى حد قول المتنبي:
نسقوا لنا نسق الحساب مقدمًا ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرًا
ولقد اتكأ المؤلف في تدليله أكثر ما اتكأ على القرآن الكريم، وفي إحسان
وإبداع أثبت السيد أنه لولا القرآن ما انتهضت حجة قاطعة على نبوة من تقدم
من الأنبياء.
ولقد جعل المؤلف كلما تحول إلى باب أو انحرف إلى مطلب في أسباب
الموضوع يتقرى فِرَى عدو الإسلام من الداعين إلى حربه، ومن الملحدين
عامة، وشبه الشاكين من أهله، ومن المتطرفين منهم بالتشكيك في بعض
قضاياه، فيفريها بالحجة فريًا، ويضغمها بالدليل الحاسم ضغمًا! فما يدع
لأصحابها متنفسًا، ولا يجيز لمتنزي الإلحاد مضطربًا.
ولقد قال الكتاب في محمد صلى الله عليه وسلم وفي الوحي وفي القرآن
وفي أثره في العالم. وفي معجزات الأنبياء وفي حاجة العلم إلى الدين. وفي
كثير غير ذلك مما ينسق للغرض، ويتجلى به وجه الحجة، فكفى وشفى،
وبلغ من الإحسان والإجمال غاية المدى.
وليس من شأن هذا المقال أن يدل على مواضع الإجادة في أبواب الكتاب،
بله كل فصل من كل باب. فذلك مما يخرج عن طوق سابغ المقالات، على
أن في الكتاب مقامات صلصل فيها البيان الديني أي مصلصل، ولقد يكاد
يتحول حسك وأنت تطالعها من البصر إلى السمع، حتى يخيل إليك أنك تسمع
صرير القلم. ويحضرك في هذا المعنى قول المتنبي أيضًا:
كالحظ يملأ مسمعي من أبصرا
ولا شك في أن من هذه المقامات الرائعة قول الكتاب في أسلوب القرآن
الخاص وإعجازه به، وحكمة التكرار فيه. ولقد وقع في هذا الغرض على
حِكَمٍ لم أقع عليها في كتب من تقدمه. على أن المؤلف على عادته. لقد أسرع
فَكَاثَرَ بهذا في الفهرس؛ إذ قال عند الإشارة إلى هذا الفصل (وهو ما لم يسبق
لأحد بيانه) .
ومن المقامات البارعة في الكتاب القول في معجزات الأنبياء، والفرق
بينها وبين كرامات الأولياء، والحد بينهما وبين شعوذة المشعوذين، وآثار
رياضة المرتاضين، فلقد جمع في هذا الباب بين ما أثر في الشرع وما يجري
به سنن الكون، في لباقة وحسن تعليل، وجودة تفسير وبراعة وتأويل.
ومن هذه المقامات التي تخلب وتروع ما أقام هذا الكتاب من ناصع الحجة
على إيفاء الشرع المحمدي على الغاية في تقرير أعلى القواعد وأضبطها للإصلاح
الاجتماعي والمالي والسياسي. ويدخل في هذا الباب العلاقات الدولية، ونظم
الحروب وغير ذلك مما يكفل صلاح البشر كافة، ويتضمن رقي المجتمع الإنساني
وبلوغه في أسباب الحضارة تلك المنزلة التي تخيلها أئمة الحكماء ودعاة الإصلاح
من قديم الزمان.
ولقد عرض الكتاب غير هذا لمزايا الإسلام وحكم أحكامه سواء في
العبادات أو في الأسباب الدائرة بين الناس، وبين جهة ارتفاعها على أن تكون
من شرع البشر، وأنها أجمع وأكفى، وأكمل وأوفى من كل ما سن الخلق من
النظم. بل من كل ما تنزل من الشرائع على جميع الرسل السابقين، عليهم
صلوات الله أجمعين.
وكل ذلك أجراه المؤلف على أسلوب منطقي سليم خال من الإسراف ومن
الشعر والتخييل.
ومما يزيد من قدر هذا الكتاب أن كثيرًا مما جلا واستظهر من القضايا مبتكر
لم يسبق. على أنه لم يكن أقل براعة فيما نقل أو اقتبس. فلقد كان حق لبق في
إلحاق كل شيء ببابه، وإقرار كل أمر في نصابه، إلى حضور الشاهد من كتاب
الله تعالى وما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وما أثر عن الثقات من
أئمة الإسلام ومن شهادات علماء الإفرنج أيضًا. ومهما يكن من شيء فالكتاب في
الجملة مما لا يطاول في بابه، بل لا أحسبني مسرفًا إذا زعمت أنه يمكن أن يعد
بحق من إحدى حجج الإسلام.
ولقد بدت لي وأنا في بعض الكتاب طائفة من الملاحظات يرجع بعضها إلى
الطبع، وبعض إلى شيء من الغموض في قليل من المواضع، ويرجع بعض إلى
كثرة الإحالات إلى المراجع المختلفة ونحو ذلك، على أنها كلها ثانوي لا يحط من
شأن الكتاب ولا يغض من قدره، على أن من دلائل التوفيق أن التقيت مصادفة
بالأستاذ السيد رشيد، وأفضيت إليه بهذا الذي عددت على كتابه، فوعدني راضيًا
مغتبطًا بأنه مستدرك كل ما يجمل استدراكه إن شاء الله في الطبعة الثانية [٢]
ولعلها قائمة الآن فليس لي إلا أن أشكره. وإلا (سقط ههنا بعض حروف
الأصل المطبوع) أن أري من التجني المحقور بعد ذلك بسط ما بدا لى من تلك
المآخذ المبينة في مقال منشور.
وبعد: فليس يعني أن أختم هذا الكلام دون أن أبادي المؤلف الفاضل
وجمهرة قارئي الوحي المحمدي بأمرين: الأول أنني أتحفظ عن إبداء الرأي -
إذا صح هذا التعبير - عما أصاب في الكتاب من حديث الاجتهاد والتقليد، ولو
قد فصَّل الكلام في هذا الباب لما تعذر عليَّ إبداء الرأي بمشايعته أو إظهار
الخلاف له فيما عسى أن يذهب إليه من الأحكام.
أما الثاني فلقد هتف المؤلف في بعض الكتاب بالعلماء (الرسميين) وغلا في
الزراية عليهم. ومن الواضح أنه يريد (بالعلماء الرسميين) علماء الأزهر. وإني
لأكره هذا من أي كان في رجال الدين، هذا إلى أنهم قومي ومعشري وهم الذين
أعتز بهم، وأدين بكل ما أفاء الله عليَّ من النعم لهم. وإن أنس لا أَنْسَى أن ممن
أصحر لهم السيد رشيد بالخصومة من جلست بين أيديهم، وأخذت عنهم. وتخرجت
في التعليم عليهم. فأصبح لهم بهذا حق في دمي فإذا اعتذر السيد الفاضل بأنهم
يقارضونه هذا الأذى فما أجدر علماء الدين جميعًا بغير هذا اللون من الحوار
ففي الجدال بالحسنى كفاية، وفي الحجة وحدها المقنع، ما دامت غاية الجميع
إفشاء حكم الله وإعلاء كلمة الإسلام اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز البشري
(المنار)
أما الأمر الأول مما بادأني وقراء الوحي به وهو حكم الاجتهاد والتقليد فإن
شاء أن يعرف رأيي التفصيلي فيه فإن لي فيه كتابًا مدونًا طبع المرة بعد المرة،
وبحثًا فياضًا في مقدمة طبع كتاب المغني الكبير فليرجع إليهما، وليقل فيه ما يشاء
فإني أنشره له إن أحب، وما كتبته في كتاب الوحي المحمدي كاف فيه؛ لأنه مبني
على الاختصار، ولم ينكر عليَّ أحد من كبار علماء الأزهر الرسميين ولا من
غيرهم ممن ذكروا لي رأيهم في الكتاب كلمة منه.
وأما الأمر الثاني [٣] وهو ما عبر عنه بالهتاف بالعلماء الرسميين والغلو في
الزراية عليهم فقد ظلم علماء الأزهر - وهم قومه ومعشره - به، فلفظ العلماء
الرسميين لا يدل على علماء الأزهر، ولا أنا بالذي عنيتهم به، وإنما عنيت به ما
كان يعنيه الإمام الغزالي وغيره بعلماء الرسوم، وما يعنيه أهل هذا العصر بعلم
حملة الشهادات التي عبر عنها بعضهم بجلد الحمار، وهم يوجدون في جميع
الأمصار، وكذلك استعماله مادتي الوضوح والإصحار بالخصومة فقد وضعهما في
غير موضعهما على ما أعهد من حسن فهمه للغة وحسن أدائه فيها، فكتاب الوحي
المحمدي بمعزل من الإصحار بالخصومة أو إسرارها لطائفة من العلماء بأعيانهم أو
صفاتهم أو مكانهم، وإنما تلك صيحة تنبيه لمن يصدون المسلمين عن هداية
القرآن، زاعمين أنه لم يبق له من الفائدة إلا التبرك به والتعبد بألفاظه من
غير فهم ولا تدبر ولا اتعاظ، فهل يعد الكاتب شيوخه منهم؟ إن كان كذلك فهو
أشد مني زراية عليهم، وإذن لا يغني عنهم دفاعه عنهم ولا اعتزازه بهم، ولا
منتهم عليه.
وإني على كل حال أحمد الله أن كان نظره إليَّ بعين السخط قد انقلب خاسئًا
وهو حسير دون رؤية شيء من المساوئ في كتاب الوحي المحمدي يمكن جعله
تشويهًا لجمال تقريظه، إلا هذه الكلمة التي كان فيها من الخاطئين، فكانت هذه
الواحدة كواحدة أبي سفيان في حديثه مع هرقل، وقد كاشفته بخطئه في سوء ظنه
مشافهة فسره أن كان نفيي للزراية على شيوخه والإزراء بهم خيرًا لهم من إثباته
ودفاعه عنهم، وإنني وإياه لنقسم شرف تقريظه في سخطه فهو بيننا شق الأبلمة.
* * *
تقريظ الكاتب الكبير
عباس محمود العقاد
نشر في جريدة الجهاد
أكثر من قرأت لهم من كتاب المباحث الدينية الأحياء اثنان: هما السيد
محمد رشيد رضا صاحب المنار والأستاذ محمد فريد وجدي صاحب التواليف
والتصانيف الكثيرة المعروفة باسمه.
فأما السيد رشيد فهو أوفر نصيبًا من الفقه [٤] والشريعة والدراسات الموروثة
ومزيته على الكتاب الدينيين في العصر الحاضر أنه خلا من الجمود الذي يصرفهم
عن لباب الفقه إلى قشوره، وسلم من تلك العفونات النفسية التي تعيب أخلاقهم
وتشوه مقاصدهم، فهو أدنى إلى الصواب وأنأى عن العوج وسوء النية.
وأما الأستاذ وجدي فهو أوفر نصيبًا من الحرية والعلم العصري والأذواق
المدنية للتأويلات والتماسه في الدين مستمد من شعوره باللياقة، أو بما يخالفها
كما يشعر الرجل الذي يعيش في بيئة الحضارة من المصريين المثقفين [٥] .
قرأت المنار ومباحث السيد رشيد؛ لأنني كنت أقرأ كل ما كتب الأستاذ الإمام
محمد عبده، وكل ما أوصى بقراءته مما تتناوله طاقتي في سني الدراسة.
وقرأت الأستاذ وجدي؛ لأنني اتجهت إلى هذه الوجهة فأحببت المزيد
فيها وكان أول ما وصل إليَّ من كتبه (الإسلام في عصر العلم) فكانت أدلته
عندي كافية للإقناع في سن النشأة الأولى.
ولا أزال كلما احتجت إلى بحث مستنير في الفقه والشريعة رجعت إلى كتب
السيد رشيد، وكلما احتجت إلى تفسير مثقف لعقدة من العقد الدينية رجعت إلى رأي
الأستاذ وجدي فيها، وقد أجد في كليهما معًا ما ينفعني في كلا الأمرين.
وكتاب (الوحي المحمدي) الذي أظهره صاحب المنار في الأشهر
الأخيرة هو من أفضل ما كتب في مباحثه الدينية: توخى فيه كما قال: (أن
يكون أمضى مُدْيَة لقطع ألسنة الطاعنين في الإسلام من دعاة الأديان الأخرى)
وأراد به أن يكون كتابًا (يصلح لدعوة شعوب المدنية الحاضرة إلى الإسلام
ببيان البراهين العقلية والتاريخية على كون القرآن وحيًا من الله تعالى لا وحيًا
نفسيًّا نابعًا من استعداد محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم بعض المتأولين
لإعجازه منهم، وبيان ما فيه من الأصول والقواعد الدينية والاجتماعية
والسياسية والمالية والدفاعية السلمية التي يتوقف على اتباعها صلاح البشر
وعلاج المفاسد المادية وفوضى الإباحة وخطر الحرب العامة التي استهدفت
لها جميع الدول والشعوب في هذا العهد) .
وعندنا أن الأستاذ يستجمع الكثير من أسباب الكفاءة الضرورية بتأليف كتاب
في هذه الموضوع للغرض الذي أبانه، فهو يعلم من أسرار الأصول الإسلامية ما لم
يتيسر في العصر الحاضر إلا للقليلين بين علماء المسلمين، وهو مسموع الرأي في
العالم الشرقي، كثير القراء والمريدين في بلاد الإسلام، وهو أسلم فطرة من جميع
من سمعنا بهم من المتصدين لهذه المباحث بين الشيوخ والفقهاء.
وقد درست بعض فصول الكتاب وتصفحت بعضها فبدا لي أنه ينهج في
الاستدلال العقلي منهجًا كفيلاًَ بإقناع العدد الأكبر من قراء هذه المباحث ولا
سيما المسلمين، ولا أشك في سعة انتشاره وفلاحه في تفنيد المزاعم والريب
التي قد تساور الأذهان بين أولئك القراء، فإن لم يبلغ الكتاب كل غرضه
المفصل في فاتحته فهو بالغ من ذلك الغرض ما يستحق تأليف كتب شتى لا
تأليف كتاب واحد، وحسب المؤلف أن يظفر بهذا ليظفر بشيء كثير.
إلا أننا نأخذ على المؤلف نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في مثل هذا
المبحث إلى جانب المزايا التي توجب عليه طرقه وترجيحه على غيره، وقد
يتلخص النقصان في نقص واحد وهو قلة البصر بأصول (المنطق النفسي) أو
منطق الدراسات النفسية الذي هو وحده عدة البحث في جميع الحقائق العالية
دون المنطق الدارج المألوف في المناقشات اليومية والوقائع الصغيرة.
فالأستاذ رشيد يحسب أن إثبات المسائل التي تناط بالضمير والفكر
وأطوار النفوس والشعوب هو من قبيل إثبات الأشياء المادية التي لها حجم
ووزن ولون ومكان، وقل أن يختلف في مقياسها شاهدان، وعنده أنه يستطيع
أن يبت بجواز حالة في النفس أو استحالتها كما يبت بوجود كرسي أمامه أو
عدم وجوده، فيجزم حيث لا يستطاع الجزم، ويخيل إليه أن قد انتهى من
الرأي وهو لا يزال فيه على عتبة البداية.
هذا من جانب. وأما الجانب الآخر فهو ضيق ملكة (الاحتمال والفرض)
عنده، وهي في باطن الأمر لباب المنطق كله؛ إذ ليس التفكير الصحيح إلا أن
تحتمل الفروض الجائزة ثم تمنعها بالأدلة القاطعة. والأستاذ رشيد يدع نصف
الاحتمالات مغلقًا لا يقترب منه ثم يغلق النصف الآخر بأدلة ضعيفة تدع الباب
في معظم الأحيان مفتوحًا على مصراعيه.
فلقد كان الواجب الأول على الأستاذ رشيد في كتاب (الوحي المحمدي)
أن يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه
من الوجوه الإنسانية المعهودة، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا
بإقامة ذلك الحد على أساس مكين.
مثال ذلك: إذا قام رجل فقال للناس: إن الألمان انتصروا على الفرنسيين
ولكنهم سينهزمون بعد زمن قريب فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى
يترجح أحدهما على الآخر.
فإذا كان صاحبه صادقًا فربما هداه إليه الوحي والإلهام، وربما هداه إليه
الحساب الدقيق والتقدير الصحيح، وربما هداه إليه العلم من المطلعين على
أسرار الدول العارفين بما تستطيعه وما تنويه، وربما هداه إليه التمني
والرغبة كما يتمنى المرء النجاح فيعتقد أنه سينجح ويأبى أن يصدق ما عدا
هذه الأمنية.
وربما كان صدقه مصادفة لا أثر فيها للإلهام أو للحساب أو للعلم أو
للتمني والرغبة وربما ظهر صدقه للناس؛ لأن عبارته تقبل التأويل، فيفسر
بعضهم المقصود من النصر والمقصود من الهزيمة والمقصود من المنتصرين
والمنهزمين على تفسيرات يجوز فيها الخلاف.
أما إن كان الخبر كاذبًا ففي العلم بكذبه مجال للاحتمال يشبه هذا المجال
فإذا جعل الباحث كل خبر صادق دليلاً على نبوءة فهو لا يخدم النبوءة بهذا
البرهان، ولكنه يفتح الباب لمن يخبرون ببعض الأشياء فيصدق خبرهم من
طرق المصادفة او من طريق آخر غير طريق الوحي والإلهام.
وإنما السداد في الأمر أن ينفي الكتاب كل احتمال غير احتمال الوحي،
وأن يكون نفيه مدعومًا بالبرهان الذي لا شبهة فيه عند المصدقين وغير
المصدقين، ومن ثم يقيم الحد بين الحقيقة والدعوى وبين الإيمان والإنكار.
والشيخ رشيد قد فاته أن يصنع هذا في مواضع كثيرة، فليته يعقد العزيمة على
تدارك ما فاته في طبعة ثانية، ولو استعان عليه بمن يقدرون على عونه،
وليس اقتراحًا أن يتدارك النقص يمانع شكره على ما بلغ من تمام وأسدى من
فائدة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عباس محمود العقاد
***
الرد على العقاد
(المنار)
إن الأستاذ العقاد، كاتب أديب سياسي نقاد، غلبته على العلم ملكة الخيال
الشعري والجدل السياسي، وعلمه بالدين ضعيف، واطلاعه فيه قليل جدا كأمثاله
ممن تعلموا في المدارس العصرية كفريد أفندي وجدي، بل هو يستمد من هذا على
ما حكم به على مبلغ علمه، وهو على هذا لم يقرأ كتاب (الوحي المحمدي) كله،
ولو قرأه بدقة وتأمل لكان حكمه عليه أصح مما كتبه أو لما انتقص مؤلفه بغير علم،
وإن كان قوي الجرأة على النقد بمجرد الشبهة، والحكم بغير حجة، والاستدلال
بالقضايا الجزئية والمهملة التي لا يصح تأليف البراهين المنطقية منها على الكليات،
كما فعل في انتقاده لكتاب (تاريخ الأستاذ الإمام) وقد بينت هذا في مقال حللت فيه
علمه وآراءه وأخلاقه تحليلاً أصح وأعدل مما حكم به عليَّ في نقده هذا وفي نقده
لتاريخ الأستاذ الإمام، وسأنشره في جزءٍ آخر إن اقتضت الحال.
لو أنه قرأ الكتاب كله قراءة إمعان لعلم أنه ليس من موضوعه بسط كل
مسألة تذكر فيه، ولا شرح كل شاهد من شواهده وجعلهما غرضًا للنضال،
والدفاع عنهما بفرض الفروض الجدلية وضروب الاحتمال، وإنما موضوعه إثبات
النبوة بالقرآن ودفع ما زعمه بعض منكري عالم الغيب من أنه وحي فائض من
النفس لا من الله تعالى.
وخلاصته أن القرآن فاق كلام العرب وأعجز البشر بمزايا لفظية ومعنوية
يستحيل أن تكون من مقدور محمد الأمي بعد استكمال الأربعين كديوان (وحي
الأربعين) الذي هجس به شيطان الشعر للأستاذ العقاد بعد استكمال هذه السن، وسائر
ما نظم الشعراء وألف العلماء فيها، فإن العقاد (مثلاً) تعلم مبادئ علوم العصر
ودرس الأدب وظهر فيه الاستعداد للشعر، وكذا النثر في سن الصبا، وقويت ملكته
فيه نظمًا ونقدًا في سن الشباب، وكان يعدو في أثر شوقي حتى خرج من الإهاب،
وماذا فعل في وحي الأربعين؟ إنه لم يأت بمعجز لم يسبق إلى مثله، ولم يحدث أدنى
تأثير صالح في قومه ولا في أمته، ولم يقل المعتدلون فيه: إنه لحق شوقي ولا حافظًا
فيه.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم يتعلم شيئًا ولم يحاول بيانًا ولم ينتحل
علمًا، حتى جاء بهذا القرآن في سن الكهولة وهو ما وصفنا في كتاب الوحي
في إعجازه العلمي والبياني وفي تشريعه، ولا في التأثير الذي قلب نظام العالم،
وما ذكرته فيه من آياته العلمية الدالة على أنه من عند الله لا من علم محمد
صلى الله عليه وسلم قسمان: (أحدهما) المقاصد العشر التي جعلتها من
موضوع التحدي (وثانيهما) ما جاء في عرض الكلام كأنباء الغيب المستقبلة
في بحث امتياز نبوة محمد على نبوة أنبياء بني إسرائيل، فهي لم تكن
موضوعًا مستقلاًّ سيق لإثباته بالدلائل، والرد على ما يرد عليه من منكر أو
مجادل، والأستاذ العقاد لم يفرق بين القسمين، ولم يتذكر ما لا يخفى عليه من
أن الشواهد والأمثال لا تقرن بالاستدلال عليها، والرد على ما يحتمل من
وقوع الشك فيها، بل اشتهر عند علماء المناظرة وآداب البحث قولهم: (البحث في
المثل ليس من دأب المحصلين) .
ولكن كبر عليه أن يكتب عن هذا الكتاب شيئًا ويتركه بدون انتقاد، وأن
يكون انتقاده خلوًّا من الانتقاص والاستعلاء، كدأبه في انتقاد الشعراء
والأحزاب، أو كل من لم يأخذ علمه عن الفرنجة حتى علم القرآن، الذي يعلو
على علومهم بما يقاس بسنيِّ النور لا بالأمتار أو الأميال.
نظر إلى كتاب الوحي المحمدي ومؤلفه بالعين التي نظر بها إلى أحمد
شوقي وشعره من قبل، وأين أودية الشعر من سماء الوحي؟ وأين تشميره في
قرض الشعر من تقصيره في علوم الوحي؟ نظر بتلك العين الخاسئة فرأى فيه
نقصين يقعدان به عن بلوغ الغاية في هذه البحث، قال: وقد يتخلصان في
نقص واحد وهو قلة البصر بالمنطق النفسي، ونقول: إنما صوَّره أو سوَّله له
حسر بصره بالمنطق العقلي.
إن اختراع النقائص وقَذْف الناس بها أمر سهل على الشعراء وكتاب
السياسة، ولكن إقامة الدليل المنطقي عليها حَزَن أي حَزَن إلا أن يكون كدليلي
الأستاذ العقاد على ما أنكر في تاريخ الأستاذ الإمام أعني عليه لا له [٦] وانظر
ماذا قال في بيان نقيصتيه اللتين تجرم علينا فقذفنا بهما:
قال: (كان الواجب على الأستاذ رشيد في كتاب (الوحي المحمدي) أن
يقيم الحد الفاصل بين علم الأنبياء بالغيب وبين علم الآخرين به على وجه من
الوجوه الإنسانية المعهودة، فما من سبيل إلى التفريق بين العلمين إلا بإقامة
ذلك الحد على أساس مكين) .
إن هذه العبارة مبهمة مجملة تحتمل عدة تأويلات أقربها أن عقيدة كاتبها
أو فهمه للنبوة والوحي وعلم الغيب غير عقيدة الموجهة إليه، ولا يتسع هذا
النقد الوجيز لتفصيل هذا، فننتقل منه إلى المثال الذي فسره به، وخلاصته أنه
إذا قام رجل فقال للناس: إن الألمان انتصروا على الفرنسيس ولكنهم
سينهزمون بعد زمن قريب، فهذا الخبر يحتمل الصدق والكذب حتى يترجح
أحدهما على الآخر، وذكر لاحتماله للصدق وجوهًا أولها الوحي والإلهام (؟)
وآخرها المصادفة.
ونحن نقول (أولا) : كان يجب على الأستاذ عباس أن يطلع قبل هذا الحكم
على ما كتبه محمد رشيد في تفسيره ومناره وغيرهما في مباحث علم الغيب
وتقسيمه إلى غيب حقيقي وغيب إضافي، وحكمه بأن من الثاني ما يمكن أن يعرفه
بعض البشر بالطرق العلمية والتجارب ومنها التنويم المغناطيسي أو الرياضة
النفسية كمكاشفات الصوفية إلخ، ومنها ما يمكن تأويله من أخبار القرآن الغيبية وما
لا يمكن تأويله كالذي تراه في تفسير سورة التوبة في بيان أحوال المنافقين. وإذن
لعلم أن ما عده عليه من الجهل هو عنده من البديهيات.
و (ثانيًا) إن الخبر الذي قال العلماء: إنه يحتمل الصدق والكذب قد قيدوه
بقولهم: (لذاته) أي بصرف النظر عما يقترن به من الدليل على أحدهما، فخبر
الأنبياء عند المؤمنين بهم لا يحتمل إلا الصدق، وقد أقمنا الدليل على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بغير إخباره بالغيب فوجب حمل خبره به الثابت عنه على
الصدق فقط، على أن أصل كلامنا في أخبار الغيب في كتاب الوحي المحمدي
خاص بما جاء منه في القرار، وهو كلام الله تعالى وأقمنا الدلائل على كونه كلامه
عز وجل من عدة وجوه غير إخبار الغيب فلا يصح أن يقال بها مصادرة لأن إثبات
كل منهما متوقف على الآخر.
(وثالثًا) إذا كان الأستاذ العقاد يرى أن مثل قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ *
فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: ٢-
٤) يحتمل مثل ما ذكر من الفروض والشكوك عند غير المؤمن بالقرآن، فسيعلم
أن من أخبار الغيب فيه ما لا يحتمل مثل ذلك إلا بضرب من مكابرة العقل أو
الوجدان ومنها زعم المادي أن كل ما وراء المادة لا يدخل في حدود الإمكان، فكل
ما يعجز عن تعليله بالفروض المادية والاحتمالات المخترعة، فعليه أن يرضى
بعجزه عن فهمه، لا يجوز له أن يؤمن بأنه من الله عز وجل.
ومهما يكن من شيء بعد، فإن من الغريب من مثله أن يطالب مؤمنًا بالغيب
والأنبياء أن يقيم حدًّا فاصلاً بين علم الأنبياء وعلم غيرهم أو علم الخالق وعلم
المخلوق بالصفة التي وصفها، وهو ما يعجز عن مثله الفلاسفة وعلماء المادة في
علمهم الذي لا قنون بشيء منه.
وأما الممكن من ذلك فقد بينته في مواضعه بما قضته المناسبة ووسعه السياق،
وقد وعدت بعقد فصل خاص في الشواهد عليه من الآيات والأحاديث النبوية في
الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي؛ إذ عجز الجزء الأول عن العلاوت التي
كلفته حملها.
* * *
كلمة للأستاذ محمد لطفي جمعة المحامي
الكاتب الخطيب المصنف الشهير
نشرت في جريدة البلاغ في٢٣ جمادى الأولى سنة ١٣٥٢ الموافق ١٣
سبتمبر سنة ١٩٣٣.
الوحي المحمدي كتاب من تأليف العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ
المنار الأغر، وغاية المؤلف ثبوت النبوة بالقرآن، ودعوة شعوب المدنية إلى
الإسلام.
وقد صدرت الطبعة الأولى منه في يوم المولد النبوي الشريف سنة ١٣٥٢
الموافق يوليو (تموز) سنة ١٩٣٣ م وهو في مئتي صفحة من القطع الكبير.
وفي الحق أنه كتاب جليل يلفت الأنظار بما أورده الأستاذ مؤلفه من الأدلة
العقلية والحجج النقلية بوضوح وجلاء على طريقة حديثة لم تسبق للمؤلفين في
المسائل الدينية إلا للأستاذ العلامة محمد فريد وجدي مما دلنا على تطورٍ مُبارك في
أسلوب السيد رشيد الذي كان يجاري المؤلفين القدماء كنقله قول أحد علماء
النصارى للمؤلف:
(أنت تعجب بمحمد وتعتقد بأنه نبي مرسل، وأنا أعجب به وأعتقد أنه
رجل عظيم فتقديري له أعظم من تقديرك)
وقد حاول الأستاذ الفاضل إثبات الوحي بالمعجزات بأدلة منطقية فجاء موفقًا
في كثير من بحوثه وتكلم في درس علماء الإفرنج للسيرة المحمدية وشهادتهم بصدقه
ونفي شبهة منكري عالم الغيب على الوحي، وأظهر أن نبوة محمد ورسالته قائمتان
على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وموضوعها؛ لأن البشر في عهد النبي قد بدءوا
يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع
من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون، بل لا يكمل
ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك بل هو من موانعه، فجعل حجة نبوة خاتم الأنبياء عين
موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي،
ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال إلى ما هم مستعدون له من الكمال.
ثم خلص الأستاذ إلى الكلام على القرآن فتكلم عن إصلاح أركان الدين التي
أفسدها الغير، وهي الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح. ثم جعل
لبحوث القرآن عشرة مقاصد كلها منطبقة على المنطق والعقل وحسن التعليل
وسلامة التدليل مما يجعل الكتاب مقبولاً لدى الشبان المنورين والميالين لحرية الفكر.
ويقول الأستاذ: إن الكتاب يشمل دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام ولم يقل لنا
أية مدنية يريد ففهمنا أنه يقصد إلى أوربا وأمريكا وليسمح لي أن أقول: إنه جاء
متأخرًا جدًّا وكان يجب عليه أن يؤلف هذا الكتاب من عشرات السنين، وأن ينقله
إلى لغات أوربا، وأن يطبعه بالملايين ويوزعه مجانًا، لأنه لا ينتظر أن أهل لندن
ونيويورك وبرلين يشترون الكتاب من مطبعة المنار. ونحن نعلم أن هذا العمل
يتطلب مالا كثيرًا ووقتًا أكثر فينبغي للسيد رشيد أن يدعو إلى هذا، لا أن يكتفي
بالتأليف العربي وحده، يدعو إلى نقل الكتاب إلى اللغات وترجمته وإلا فإن مجرد
الكتابة على الغلاف أنه دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لا تكفي) .
(المنار) كان كل ما انتقده الكاتب بقوله: ويقول الأستاذ إلخ ما نشرناه وما
لم ننشره مثارًا للعجب من مثله سببه أنه انتقد ما لو قرأه لم ينتقده، وقد بينت خطأه
فيه في مقالتين نشرتا في البلاغ فلم ينكر منهما شيئًا وهو من محرريه.
* * *
تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ محمود أبو ريه
من العلماء في المنصورة
(نشره في المقطم)
كنت أحسب يوم أن قرأت في الصحف نبأ كتاب (الوحي المحمدي) أنه
رسالة صغيرة وضعها الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا ليمحص فيها أمر
الوحي، وحقيقته بعدما كثرت فيه أقوال بعض علماء الوحي وأنكروا إمكانه بما
يعرف المسلمون كما يفعل في مسائل كثيرة مما يثور حولها الجدل فيضع فيها
رسائل خاصة تطلع من قلمه منيرة كفلق الصبح فتكون الحكمة وفصل الخطاب.
كنت أحسب الأمر كذلك حتى أتيح لي الاطلاع على هذا الكتاب فإذا بي أجد
الأمر أكبر مما حسبت وأعظم مما توهمت وإذا أنا بإزاء كتاب متعدد النواحي متسع
الأرجاء لا يقف عند الكلام على الوحي، وإنما يمتد فيحيط بكل ما أوحي به إلى
النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن لا نحاول هنا أن نظهر للقارئ الكريم ما بين دفتي هذا الكتاب من
بحوث؛ لأن ذلك يحتاج إلى مقالات طويلة، وإنما نشير إلى بعضها وحسبنا ذلك.
تكلم الأستاذ الكبير عن الوحي وفنَّد بأدلة قوية مسددة ما يزعمه الذين يقولون: إن
الوحي المحمدي إنما كان وحيًا نفسيًّا ولم يكن وحيًا إلهيًّا.
وعقد فصلاً رائعًا عن آية الله الكبرى (القرآن الكريم) وعن أسلوبه وإعجازه
جاء ولا ريب آية في البلاغة والتحقيق العلمي وقد كشف فيه عن معنى دقيق في
حكمة التكرار في الكتاب العزيز فأبان أنه لم يأت عبثًا وإنما هو أسلوب عجيب من
أساليب القرآن العجيبة المعجزة في تربية الشعوب بحيث لو خلا كتاب الله منه لما
بلغ في نفوس العرب ما بلغ من غرس تعاليمه القويمة وحكمه العالية وأغراضه النبيلة
في نفوسهم واجتثاث ما في هذه النفوس من عقائد باطلة وعادات فاسدة.
وقفَّى على ذلك ببحث قيم عن الثورة والانقلاب الذي أحدثه القرآن الكريم في
العالم وكيف فعل في نفوس العرب مشركين ومؤمنين.
وأنشأ بعد ذلك يتحدث عن مقاصد القرآن الكريم فجعلها عشرة مقاصد وجعل
تحت كل مقصد مسائل كثيرة، وقد شاء له حبه للتحميص أن يمسك بطرفي التحقيق
في كلامه عن هذه المقاصد فلم يقف عند إثباتها بالأدلة النقلية بل ظاهرها بالبراهين
العقلية.
وختم هذه المقاصد بخلاصة وافية في مسألة الوحي وجعل خاتمة الكتاب في
دعوة شعوب المدنية إلى الإسلام لإنقاذ البشر وإصلاح فسادهم.
هذا بعض ما جاء في كتاب (الوحي المحمدي) ولا غرو فإن مؤلفه هو
الأستاذ الكبير السيد محمد رشيد رضا الذي قال فيه بحق زعيم الإسلام الكبير
ومجدده العظيم شيخ البيان الأمير شكيب أرسلان في معلمته الإسلامية الكبرى
(حاضر العالم الإسلامي) .
(قد انتهت إليه الرياسة في الجمع بين المعقول والمنقول والفتيا الصحيحة
والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة مع الرسوخ العظيم في اللغة ... إلى أن
قال: وهو الرجل الذي إذا دعا كل مسلم بإطالة حياته لكان بذلك جديرًا) .
وإذا كان لنا من كلمة عامة في هذا الكتاب نختم بها هذه الكلمة الصغيرة، فإنا
نقول: إنه كتاب لا يستغني عنه مسلم ويجب على كل من يريد من أهل الأديان
الأخرى معرفة أمور الإسلام على حقيقتها أن يقرأه ويتدبره.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو رية
* * *
تقريظ الأستاذ عبد السميع البطل
المدرس بمدرسة رقي المعارف الثانوية
ونشر في جريدة الجهاد مختصرًا
استهدف الإسلام منذ فجر التاريخ، لكثير من الشبهات التي كان يصوبها نحوه
خصومه من الملاحدة، وأعداؤه من السياسيين، وكان العلماء في كل عصر
يتصدون للرد على هذه الشبهات ويجدعون أنوفها، فيظل واضح الطريق، نيِّر
الدليل، ثم يسير الزمن بالناس، وتتلقح أفكارهم بعلوم ومعارف جديدة فتتجدد لهم
شبهات، وتعصف بهم أعاصير، فإذا بالعلماء المستقلين يكرون على المهاجمين،
يجدلونهم بشباة أقلامهم، وقواطع حججهم، فما هو إلا أن نرى الباطل منكسرًا،
والحق منتصرًا.
وقد تجددت في العصر الحاضر شبهات على الإسلام كثيرة، وهُوجِمَ من
أعدائه في إحكام وقوة، ولم يدعوا منفذًا يأتي على بنيانه من القواعد إلا سلكوه،
ولا سلاحًا يجهز عليه إلا صوَّبوه، ولولا حصانة الإسلام الطبيعية ومنعته الذاتية،
لَخَرَّ مضرجًا بدمائه، ولأصبح أثرًا بعد عين.
ذلك أن علماء الإسلام وهم ورثة النبوة، والقوامون على حراسة الدين، قد
شغلتهم المناصب الدنيوية فأعطوها كل أنفسهم، ومكنوا لها من قلوبهم، وانصرفوا
عن النظر في القرآن وعلومه، مخلدين إلى أرض التقليد، عاكفين عليه، فلم
يسايروا الزمن، ولم يتمشوا من الرقي الفكري، وأصبحوا يعيشون في عالم وحدهم،
لا يدرون ماذا يقال عن الإسلام، ولا بم يهاجم وكيف يهاجم، ولئن سألتهم ليقولن:
(إن الإسلام بخير، وله رب يحميه) وهو جواب العجزة ومن لا حيلة لهم.
ولكن الله لا يذر الإسلام بغير سيف يحميه، ولم تخل الأرض من قائم لله
بحجة، فهذا معقل الدين وسنده عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا قد أخرج لنا في
هذا العام كتابه (الوحي المحمدي) يثبت فيه النبوة بالقرآن، ويدعو شعوب المدنية
إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام فكان خير كتاب أخرج للناس في بابه.
افتتحه المؤلف الكبير بمقدمة فياضة في بيان موضوع الكتاب، وحاجة البشر
إلى الإسلام، وبيان الحجب التي تحول بين الإسلام والإفرنج، ثم أفاض في
الموضوع بما أفاء الله عليه من علم غزير، وعقل منير.
والسيد رشيد دائرة معارف إسلامية واسعة، وهو حين يكتب في الإسلام، لا
يدع قولاً لقائل، ولا يترك استدراكًا لمستدرك، وأشهد لقد كنت أقرأ مقالات (الوحي
وهي لا تزال تنشر تباعًا في (المنار) فيأخذ مني الإعجاب بها كل مأخذ ويسبق
لساني بالدعاء لصاحبها بطول العمر والسلامة كفاء خدمته للإسلام.
بل أشهد ويشهد معي جميع الذين اطلعوا على كتاب (الوحي المحمدي) أنه
لم يكتب مثله كاتب في الإسلام، وأنه خير كتاب في الدعوة إلى الإسلام وبيان
مزاياه، لا يستغني عنه مسلم، ولا يسد غيره مسده في هذا العصر ولا أستثني
رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، فإنها على طرافتها، وقوة حجتها، وبلاغة عبارتها،
قد يقال فيها: إنها رأي لصاحبها وصل إليه بعد دراسة للإسلام عميقة، بل قيل:
(إن رسالة التوحيد فلسفة لا دين) ذلك أن الآيات التي استشهد بها المؤلف رحمه الله
كانت قليلة جدًّا، اكتفاء بالإحالة على الحجج العقلية، ووقائع التاريخ الصادق، أما
(الوحي المحمدي) فإنه يثبت كل شيء بالقرآن، ويضع يد القراء على موضعه من
السور، في سيل أتي، ونور محمدي.
وجملة ما يقال في الكتاب أنه أحسن ما ألف في العقيدة الإسلامية في هذا
العصر، وأنفع كتاب في الدعوة إلى الإسلام وصد غارات المبشرين، وأقرب إلى
عقول المتعلمين المدنيين، وإني لأرجو أن يترجم إلى اللغات الحية، وحينئذ أرتقب
أن تقوم ثورة فكرية في العالم الغربي تتكشف عن فوز الإسلام ورجحان كفته،
جزى الله المؤلف خير الجزاء.
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل
للتقاريظ بقية
((يتبع بمقال تالٍ))