للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نابتة العصر ومستقبل مصر
أو التربية الحديثة

إن للألفاظ دولاً كدول الأشخاص يعز بعضها في زمن ويذل في زمن آخر،
إذ تدول العزة إلى غيره، وإن لفظ التربية الحديثة لهو في هذا العصر أقوى الألفاظ
دولة وأعز نفرًا، حتى يوشك أن يكون له الظهور والاستعلاء على لفظ (بيك)
ولفظ (باشا) الذي طفق يتدحرج من قنة عزه بابتذال الرتب التي يقرن بها؛ إذ
صارت تباع بالدراهم والعروض، وصار سماسرة البيع يتباخسون ويتناجشون فيها،
ويبيع بعضهم على بيع بعض بالوكس والثمن البخس، حتى تَرفَّعَ الوضيع
وتبرم الرفيع، وأما لفظ التربية وما اشتق منه كالمربي والمتربي فلم يسحل مريره،
ولم يهن نصيره، ولم يخرج عن نصابه، ولم يعدُ سن شبابه.
فإذا كان لفظ (بيك) أو (باشا) قد احترم ولا يزال يحترم لأنه عنوان الجاه
والثروة والقرب من رجال الدولة، فإن لفظ (المتربي) يحترم أشد الاحترام؛ لأنه
عنوان العلم والأدب والسياسة والكياسة، وصاحبه موضع الأمل والرجاء بخدمة
الأمة، والارتقاء بالوطن إلى القمة، والمستحق لأعمال الحكومة، والقادر على
القيام بالمشروعات العظيمة، ويقولون: إن أكثر الذين تحلوا بالرتب التي تقرن
بذلك اللقب، قد تدلوا بغرور ولبسوا ثوبي زور؛ أن رتبهم من المواضعات
الرسمية التي تنحط بسوء حال الحكومة والمعية (المعية في العُرف حاشية الأمير
الحاكم) ولقب المتربي من اصطلاح أهل العلم ومواضعة أهل الذكاء والفهم،
فهم يطلقونه على صاحبه بحق، ويجرون فيه على عرق، وإني لا أنكر قولهم
الأول، ولا أعترف بإطلاق القول الثاني، فإنه إن صح أنهم لا يطلقون كلمة متربٍّ
على غير من أخذ بسهم من الفنون الحديثة على الطريقة الأوربية، واصطبغ بشيء
من ألوان المعيشة الإفرنجية، فلن يصح أن من كان له هذا السهم، فهو مثال
الفضيلة والعلم، والقادر على النهوض بالأمة والبلاد إلى ذرى السيادة والإسعاد،
وإليك البيان:
ترى جرائد الدهان تملأ ماضغيها فخرًا بأن محمد علي باشا وخلفه هم الذين
أسعدوا البلاد المصرية بإدخال هذه التربية الحديثة فيها , فأحيوها بها بعد موتها،
ولكن ما بال هذه الحياة التي نفخ روحها في الأمة منذ قرن كامل لم تصدر عنها آثار
الإحياء في الأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ونظام البيوت ووحدة الأمة،
واستقلال الحكومة ومنعتها الواقية من التحيز إلى الأجنبي والاستنصار به
والاستذلال له وتمكينه من ناصيتها، ألم ترتقِ أمة اليابان بعد الأخذ بعلوم أوربا
بخمس وعشرين؟ فما بال الأمة المصرية لم ترتق بعد مائة من السنين.
إذا كان ترقي الأمة هو استقلالها ونهوضها بأحكامها وأعمالها، وكان أمراء
مصر قد نهضوا بأهلها وجذبوهم إلى الرقي والكمال، فما بال الأمير عند أول نبأة
من الأمة في طلب الاستقلال ومشاركة الشراكسة في الأعمال، قد استغاث بدولة
إنكلترا لتنقذه من الأمة، وتؤيد سلطته عليها، وتمكن له في أرضها، وقد كان من
أمرها في تمكين هذه السلطة أن أخذت من الشراكسة والترك أكثر مما كان
المصريون يطلبونه لأنفسهم، بل استولت على كل شيء، حتى لا يبرم بغير يديها
شيء.
احتلت إنكلترا أرض النيل فقيدت الحكومة وأطلقت الأهالي، وكان من هذا
الإطلاق حرية للمطبوعات كثرت بها الجرائد، وكثر اللغط في السياسة، والسياسة
هي الفتنة الكبرى للناس فتن بها المصريون حتى شغلهم عن الانتفاع بالحرية التي
منحوها، واغتر بفتنتهم كثير من الناس , فظنوا أن وراء ثرثرة الجرائد المصرية
وتبجحها بذم الإنكليز ومعارضتهم حياة طيبة واستقلالا كاملاً هاجمته القوة , فأنشأ
يواثبها ويناصبها، ولا يلبث أن يغلبها. ولم تلبث الحرب أن فثأت وانجلى الغبار
عن أفراد استنفرتهم المنفعة الشخصية فنفروا، واستفزهم طلب الجاه ففزوا وطفروا.
وقد سكنت الآن الزعازع وسكت المنازع، وأقصى ما كان من تأثير هذه
السياسة أن غرت الأمة بغيرها، ولم تحاول أن تغرها بنفسها، ودعتها إلى حياة
سياسية ولم تدعها إلى حياة اجتماعية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا ينضح الإناء
إلا بما فيه.
نعم، إن المصرين لم يغتروا بأنفسهم , فإننا منذ جئنا هذه البلاد نسمع من
شكوى خاصتهم وعامتهم ما يدل على عدم ثقتهم بأنفسهم، وعدم رضاهم عن حالهم
في التعليم والتربية والعمل والاقتصاد وكل مقومات الحياة. ووجدنا الشعوب التي
مازجتهم تشكو من أخلاقهم، وحالهم أشد مما يشكون، وكنا نظن أن الجميع مبالغون
فيما يقولون، لأن رجائنا في مصر والمصريين كان عظيمًا، وقد ضعف الآن
ولكنه لم يذهب بالمرة، وإنا لنعلم أن كل المسلمين البعداء عن مصر يرجون من
المصريين ما لا يرجوه المصريون لأنفسهم من أنفسهم. ولا يغرنك ما يتشدق به
ويتفيهق بعض الأحداث الذين اتخذوا المدح حرفة يكتسبون بها المال، وقليل ما هم.
وانظر ما قالته جريدة المؤيد في هذا الشهر وفاقًا لجريدة الإجبشيان غازيت
الإنكليزية المصرية في مستقبل المصري بعد الاشتغال بعلوم أوربا مائة سنة وبعد
عشرين سنة في الحرية الحقيقية التي وهبها الاحتلال الإنكليزي لمصر.
تقول الجريدة الإنكليزية في مقالة عنوانها (مستقبل المصري) : إن مستقبل
مصر - أي حسنه - مضمون ولكن مستقبل المصري بين اليأس والرجاء، فإن ترقي
هذه البلاد المستمر في التجارة والزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة إنما هو من
الأجانب وبالأجانب، وإن المصري لم يشترك فيه على أنه استفاد منه قليلاً. وإن
التاريخ يثبت بالبراهين الكثيرة أن المصري فطر على الدعة والسكون والقناعة
بالوجود في العالم متى حظي بما يكفل له الحياة وحاجاتها الضرورية فلا مطمع له
ولا أمل في تحسين أموره.
وتقول: إن المصري لا عذر له الآن في هذا فإن هذا الزمان ليس كالزمان
الذي كان فيه طلب التقدم والارتقاء خطرًا عظيمًا أي من الأمراء المستبدين. ثم
جزمت بأن المصري ما استفاد ولا هو يستفيد من تقدم بلاده، ولا يسير مع الارتقاء
ولا يأخذ نصيبه من نمو الثروة في بلاده، بل كل ذلك عائد على الأجانب الغرباء
الذين ترتقي البلاد بعملهم.
وقد ترجم المؤيد المقالة في (عدد ٤٣٨٩٣) الصادر في ٦ شعبان ووصفها
بقوله: (وكلها آيات بينات وحقائق ساطعات واضحات تدل على استقلال الغازيت
وحريتها فيما تنشره من المقالات النافعة المفيدة!) . ثم نشر في تلك الجريدة مقالة
أخرى لكاتب إنكليزي في معناها ينحي فيها على المصريين إنحاءً شديدًا فعربتها
جريدة المؤيد مقرة لها، وبعد ذلك نشر في المؤيد مقالة لأحد المحررين فيها في
موضوع مقالتي الجريدة الإنكليزية قال في فاتحها:
(اطلع القراء على ما عربه المؤيد عن جريدة (الإجبشيان غازيت) تحت
عنوان (مستقبل المصري) وما أظن أن أحدًا ممن وقع نظره على تينك
الرسالتين لم يعترف في نفسه ولمن معه بصدق ما جاء فيها من الحقائق المرة؛ إذ
كون المصري مخذولاً في بلده , مهملاً لشئونه الحيوية , مفصوم العروة القومية -
إلى آخر ما يمكن أن يوصف به من الإهمال والخمول والتراخي وعدم النظر إلى
المستقبل - قضية لا تحتاج إلى إقامة برهان أو بيان , ولكن الذي يجب أن يتساءل
عنه هو أسباب هذا الخذلان , وهل ثمة واسطة لإصلاح الحال) .
ثم ذكر من المقالة الثانية الإنكليزية التي نشر تعريبها في (٩ ش) ما نصه:
(إن الأخلاق الفطرية للأمة المصرية , بل وكل ماضي تاريخها تدل على أن
الوصول إلى الرقي الأدبي والحياة الاجتماعية القومية يُعد من قبيل المستحيلات ,
فإنه منذ فجر التاريخ والفلاح المصري على ما هو عليه تاركًا أموره وحياته
ووجوده في أيدي غيره , واكلاً إلى الأجانب عنه تأدية الواجب الذي كان من المحتم
عليه القيام به) اهـ، ثم سأل محرر المؤيد نفسه وقراء الجريدة عن سبب ذلك
على أنه أطال الفكر فيه فلم يهتد، قال:
(إن قلنا: إن التعليم والتربية ناقصان , وإن الجهل سبب كل هذا؛ أجابونا:
فما بال هؤلاء المصريين المتعلمين الذين حازوا من علوم أوربا أسماها وأغلاها ,
وعاشروا المتمدنين منها والعاملين المجدين فيها لا يعملون ولا يفكرون؟ وما بالك
تراهم مثل أمثالهم من إخوانهم المصريين مشتغلين جل أوقاتهم بالسفاسف والصغائر؟
وأين هي الأخلاق القوية التي يوجدها التعليم والتربية في النفوس، وهم كما
تراهم وتعرفهم) . ثم قال: إنه لا يصح أن يكون السبب جو البلاد، ولا كون الأمة
عريقة بحكم الاستبداد , ولا دين الإسلام؛ لأن الأجانب يعملون في هذا الجو
ويرتقون , ولأن غير المصريين حكموا بالاستبداد ثم نجحوا وارتقوا، ولأن الإسلام
قد نهض بالأمة العربية أو نهضت به , وهؤلاء القبط في مصر كالمسلمين، ولأن
اليابان وأوربا ما ارتقيا بالدين. وغرضنا من قول هذا المحرر شهادته في
المصريين الذين تعلموا وتربوا (كما يقال) فإنها شهادة المؤيد أشهر جرائدهم , وقد
كان قال من عهد قريب: إن الأمة المصرية لم ترتق إلى درجة تؤهلها لإنشاء
مدرسة كلية.
أما سبب هذه الحيرة في علة انحطاط المصريين فهو الجهل بمعنى التربية
الصحيحة النافعة التي ترتقي بها الأمم , والتي لا يفيد التعليم بدونها الفائدة
المطلوبة, وقد بينا الفرق بين التعليم والتربية غير مرة , وقلنا: إن في مصر شيئًا
من التعليم الناقص , ولكن ليس فيها تربية قط , بل التربية فيها متعسرة أو متعذرة
أو يحال بين الناشئين الذين يربون وبين الناس لئلا تفسد عمل المربي هذه البيئة
الوبيئة بفساد الأخلاق والأعمال , ولكن أين المربي وأين يربي؟ ! وإذا هو وجد
فمن يسمع له ومن يعينه على تربية ولده؟ وبينا أيضًا أن هذا التعليم الناقص قد زاد
في إفساد أخلاق الأمة وفتح لها خروقًا من السرف والترف والإيغال في اللذة
والاستمتاع، ما فُتحت في أمة قوية إلا وأضعفتها وجعلتها من الهالكين.
وليعلم القارئ أن حياة الأمم الميتة تتوقف على الاستعداد في الأمة كما
أوضحناه في مقالة (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) فإذا لم تستعد الأمة ,
فبيان أمراضها وطرق علاجها لا ينفعها لأنها كالمريض الأحمق يأبى كل دواء لأنه
دواء. بل لا يسهل على غير المستعد أن يفهم أسباب الضعف وكيفية معالجته. فإذا
أقمت البراهين والحجج القيمة على أن رغبه الأمة المصرية في الرتب والنياشين
من أسباب الفساد لا يفهم قولك إلا الأقلون , ومن فهمه يكابر فيه وينكره بلسانه،
وإن اعتقده في قلبه , ومنهم أكثر أصحاب الجرائد. فما بالك إذا ذكرت لهم الأدواء
الفاتكة التي يُعد حُب الرتب والنياشين من أعراضها؟
وسنذكر في الجزء الآتي طريقة تعلم النابتة المصرية والروح الذي به تحيا
الأمم ولا ينفع مع فقده علم ولا تعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.