للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام
بقلم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان
(ونشرت في جريدة الجهاد)
هذه مسألة جلى لا يتنبه إليها الشرقيون كما يجب أن يتنبهوا، وكما هو شأنهم
في كثير من المسائل، ولكن عليهم من الآن فصاعدًا بعد أن زعموا كونهم تقدموا
ورقوا أن يتنبهوا لهذا الموضوع، وذلك أن أوربة عالم كبير قد أخذ بزمام العالم كله
في الوقت الحاضر وهو يتلقى معلوماته عن الشرق والشرقيين من طريقين:
أحدهما: طريق القناصل والسفراء والمعتمدين الرسميين وهؤلاء يكتبون عن
الشرق والشرقيين كل شيء ولا يكتمون حكوماتهم عنهما حديثًا إلا أن حكوماتهم
تتصرف بتقاريرهم كما تشاء بحسب أهوائها ومصالحها فهي تكتمها أحيانًا وقد
تطمسها طمسًا تامًّا حتى كأنها لم تُكتب ولم تتقدم، وهي تفشيها أحيانًا إذا اقتضت
ذلك سياستها، وكثيرًا ما تكتم شيئًا منها وتنشر شيئًا، وبالاختصار جميع تقارير
سفراء أوربة وقناصلها في الشرق هي رهن أغراض النظارات الخارجية في أوربة،
وإذا قلنا: إنها رهن أغراض نظارات أوربة الخارجية، فمعنى ذلك أنها رهن التغطية
والتمويه والتلفيق والتبديل والتعديل والفصل والوصل، وإنه لا شيء هناك يقال له
حقيقة بل لا يوجد هناك إلا ما يقال له: (مصلحة) .
وأما الطريق الثاني لمعرفة أحوال الشرق والشرقيين فهو طريق الاستشراق،
وذلك أنه يوجد في أوربة طبقة من المتعلمين تعنى خاصة بدرس اللغات الشرقية،
وكل ما يتعلق بالشرق وأهله، وهم يتنوعون في هذه الدروس فمنهم من يتخصص
بعلوم الصين، ومنهم من يتخصص بعلوم اليابان، ومنهم بالمعلومات عن الهند أو
عن الجاوى، ومنهم من يجعل همته منصرفة إلى الاستقصاء في أخبار فارس،
ومنهم من يوجه نظره إلى تركستان وغير ذلك. وإنَّ جانبًا عظيمًا من الاستشراق
وربما يكون هو الأعظم متوجه إلى درس الإسلام والبلاد الإسلامية من مشرقها إلى
مغربها.
وإن هذه الطبقة التي تعنى بشأن الإسلام والمسلمين هي التي تكيف المعلومات
الإسلامية في أوربة بكيفية نظرها وتمثيلها للعالم الإسلامي إن خيرًا فخير، وإن
شرًّا فشر، هذه الطبقة هي الترجمان الذي يلقي إلى ستمائة مليون أوربي وصف
أحوال الإسلام والمسلمين، فإن كان هذا الترجمان أمينًا تلقى هؤلاء الستمائة مليون
أوربي تلك المعلومات على وجهها، واعتدلوا بحق الإسلام والمسلمين، وإن كان
الترجمان خائنًا أو لئيمًا يُحَرِّف الكلم عن مواضعه ويقلب الحقائق عمدًا لمرض في
نفسه أو لإحنة في صدره، أمكنه أن يهيج من أحقاد الأوربيين الكامنة على
المسلمين، وأن يثير من عداوتهم لهم ما ليس لضرره حد؛ لأن العالم الأوربي إذا
فكر قال، وإذا قال فعل، وإذا فعل قام بانقلابات كثيرة، هذا إلى اليوم، ولا نعلم
ماذا يكون في الغد؟
فهل هذه الطبقة التي يصح أن يقال: إنها ترجمان العالم الإسلامي لدى العالم
الأوربي هي أمينة أم خائنة في الترجمة؟ الجواب عليه هو هذا البحث الذي نريد
الآن أن ننبه الأفكار إليه بعد أن نقرر أن هذه الطبقة هي التي تصور أحوال
المسلمين للأوربيين بحسب درجتي صدقها وكذبها أو درجتي علمها وجهلها.
من هؤلاء المستشرقين فئة ما استشرقوا ولا خَطَوْا خطوة في هذه السبيل إلا
لأجل أن يتعقبوا عورات الإسلام ومثالبه، ويخوضوا في أعراض المسلمين،
ويبحثوا عن زلاتهم؛ ليجسموها ويُبْرِزُوها لأنظار الأوربيين بالشكل المُسْتَبْشَع الذي
تنفر منه طباعهم، وتثور حفائظهم، وذلك حتى يزدادوا بغضًا للإسلام وبعدًا عنه،
وهذه الفئة من حيث إن أصل استشراقها هو العمل لخدمة المسيحية وتشويه الإسلام
بما أمكن لا تقتصر على تجسيم العورات إذا وقعت عليها، بل يبلغ بها سوء القصد
أن تقلب الحقائق قلبًا، وأن ترتكب التزوير عمدًا، وأن تأخذ بالحوادث الجزئية
فتعممها فتجعل منها قواعد، وكل شيء تعمله هذه الفئة على قاعدة (أن الغاية تبرر
الواسطة) فالإسلام بزعمها هو شر محض، فينبغي تنفير الناس منه بالحق
وبالباطل، وهذه الفرقة من المستشرقين كثيرة العدد يطول بنا تعدد أسمائها، ومن
جملتها لامانس اليسوعي البلجيكي ومارتين هارتمان الألماني، ومرغليوث
الإنكليزي، وفنسنك الذي ذكر عنه الدكتور حسين الهراوي أنه طعن في الرسول
عليه السلام، وأنا لم أقرأ طعن هذا، ولكنني قرأت مطاعن الآخرين، وقد نشرت
في (حاضر العالم الإسلامي) أسماء مشاهير المستشرقين الممتازين في التحامل
على الإسلام، فليراجع ذلك من أراد في ذلك الكتاب.
ومن المستشرقين فئة أخرى غرضهم أيضًا أن يخدموا المدنية الأوربية
والثقافة المسيحية، وأن يبثوها بما أمكنهم بين المسلمين، ولكنهم لا يستبيحون ما
تستبيحه الفئة الأولى من الكذب والبهتان، وقلب الحقائق واللوذ بكل عضيهة
للتمثيل بالإسلام وأهله، كلا هؤلاء يلتزمون في مباحثهم الطريقة العلمية التي
تقتضي معرفة الحق في أي جانب كان، ولكنهم لا يتحرجون عند أول فرصة تلوح
لهم أن يتولجوها ويحملوا على الإسلام باسم العلم بزعمهم، وأن يجسموا الهنات،
وأن يعمموا الجزئيات في الأحايين، وأن يتجاهلوا ما عندهم من الطامات الكبرى
التي لا تقاس إليها معايب الإسلام في كثير ولا قليل فهذه الفئة يتألف منها أكثر
المستشرقين وهم يعدون إجمالاً من ذوي الفضل على العلم، وممن يلزم أن يستفاد
منهم، ولكن مع دوام الحذر مما يلقونه أحيانًا من السموم بحق الإسلام مما يكون
ضرره أشد من ضرر الفئة الأولى التي بهتانها ظاهر للعيان، يمكن أن توصف هذه
الفئة (بالعدو العاقل) ومن هؤلاء الأستاذ ماسينيون الأفرنسي وسنوك هور كرونيه
الهولندي وغيرهما.
ومن المستشرقين فئة ثالثة قليلة العدد في أوربة إلا أن منها رجالاً محققين،
وهؤلاء يتحرون مزيد التحري، وينصفون الإسلام إنصافًا تامًّا لا يشوبه أدنى
تحامل، وإن بدر منهم انتقاد للإسلام في شيء فيكون عن اعتقاد أو وجهة نظر
نظروها أو خطأ وقعوا فيه لا عن سوء نية، ولا عن تعمد انتقاص، ولا أعلم في
هذه الطبقة أشهر من غولد سيهر المجري الذي هو في الحقيقة أفهم الأوربيين
لقواعد الإسلام ومنهم في الحياة الأستاذ كامفماير الألماني والأستاذ مونتا السويسري،
ومنهم كاراده فو الفرنسي صاحب كتاب مفكري الإسلام، ومنهم الدكتور مايرهوف
الألماني، ومنهم غروسه الفرنسي، ومنهم رينه الإفرنسي الذي بلغ به استشراقه
من حب الإسلام أن دان بالإسلام وحج البيت الحرام، ومنهم علماء آخرون
لست الآن في مقام استقصاء من جهتهم.
ولا شك أن الفئة الأخيرة قد خدمت الإسلام خدمات جلى في أوربة وحولت
كثيرًا من العقائد الباطلة بحق الإسلام عن مجراها الأول، وخففت كثيرًا من الأحقاد،
وصححت جمهرة من الأوهام، ولكنها مع الأسف لم تقدر أن تنسف تلك الجبال
المتراكمة من البغض والعدوان والعقائد الفاسدة بحق الإسلام والمسلمين؛ لأن التيار
الأصلي الباقي من القرون الوسطى لا يزال شديدًا.
كان زميلي إحسان بك الجابري يتحدث منذ يومين إلى مهندس كبير قد يكون
أشهر مهندس في سويسرة وهو من كبار المفكرين فقال لزميلي: نشأنا من الصغر
في بغض الإسلام وربانا آباؤنا ومعلمونا على مبادئ من العداوة للإسلام نحن الآن
نعلم بطلانها، لكننا بحكم الاستمرار لا نقدر أن نتخلص منها)
إن غوته الشاعر الألماني الأكبر الذي يقول الألمان: إنه أكبر دماغ ظهر في
ألمانية، وكان شبان الألمان ينتحرون من تأثير بعض رواياته الشعرية، نعم غوته
هو نفسه قال - وكلامه هذا مُدَوَّنٌ عنه-: إذا كان هذا هو الإسلام أفلسنا كلنا
مسلمين؟
هذا الرجل الذي سحر ناشئة الألمان في عصره ولا يزال يسحرها إلى الآن قد
عجز عن أن ينسف ما تراكم من الأوهام المتكاثفة بحق الإسلام في ألمانية، هذا
والألمان أقل الأمم الأوربية تحاملاً على الإسلام والمسلمين فما ظنك بغيرهم؟
حرَّر الأستاذ الحجة السيد رشيد رضا في المدة الأخيرة كتابا أسماه (الوحي
المحمدي) من أنفس ما كتبه المسلمون في هذا العصر وكل عصر، وكأنما كتبه
تلقاء الانتقادات الأوربية التي تتوجه على الإسلام، إما عن تحامل وعداوة، وإما
عن جهل المستشرقين حقائق كثيرة فاتتهم، أو عن جهل المؤلفين المسلمين أنفسهم
بحقائق دينهم وبكيفية الدفاع عنهم إلا من عصم ربك، أو بعدم فهم الكثيرين منهم
لأسرار الشرع المحمدي، وقد أهديناه إلى من نحسن الظن فيهم من المستشرقين
فلعلهم ينتدبون لترجمته إلى اللغات الأوربية [١] فتتبدد به أوهام، وتنقشع ضلالات،
ويتجلى ما في المطاعن على أحكام القرآن من المُحَالات، فالذي يوفق إليه الأستاذ
صاحب المنار في هذا الباب لا يوفق إليه غيره.
وأما الخلاصة التي أريدها من هذه المقدمات فليست إخراج المستشرق فنسنك
من المجمع اللغوي المصري، هذا شيء يعني الحكومة المصرية ورعاياها
المصريين وهي أدرى بشغلها، وأنا لست من مصر ولا أقدر أن أطأ بقدمي أرض
مصر، ولكن أريد تنبيه اللجنة المنتدبة لترجمة الإنسيكلوبيذية الإسلامية إلى العربية
إلى شيء وهو أنه مع كون ترجمة هذه الإنسيكلوبيذية هي في الدرجة القصوى من
الإفادة، بل هي ضرورية لناشئة العالم الإسلامي لا تخلو من تحاملات منكرة على
الإسلام، ومن غلطات وخبطات علمية في مباحثها التي تولاها بعض الفئة الأولى
المتحاملة من المستشرقين، فإن تحرير هذا الكتاب تشطره عدد كبير من
المستشرقين، وكل منهم كتب بحسب معرفته، ومنهم من كتب بمقتضى هواه أيضًا،
فعلى لجنة الترجمة التي يجب أن يكون فيها الأديب والمؤرخ والجغرافي والفلكي
والرياضي والكيماوي والجيولوجي والطبيب والفقيه والفيلسوف والمتكلم؛ لتكون
الترجمة صحيحة أن يكون بجانبها لجنة تضع في الحواشي تصحيح ما يجب
تصحيحه من الأغلاط، وتستدرك أيضًا على فوات المتن، وإلا فنكون أدخلنا في
عقول ناشئتنا الجديدة ضلالات لا تحصى باسم العلم والفن وحرية الفكر والاستنتاج
التحليلي وغير ذلك من الألفاظ التي يلوكها بعض الأوربيين في تسمية سمومهم
الخبيثة، ودسائسهم المنكرة لحمل المسلمين على اتخاذ ثقافتهم، والتحول عن
الإسلام، فنحن من هذا البلاء في المقيم المقعد الذي يكفينا بدون ترجمة أنسيكلوبيذية
إسلامية يحرر فيها لامنس وأضرابه، فكيف إذا أصبحنا نأخذ أخبار الإسلام
والمسلمين عن هؤلاء ولا ننبه عليها؟
إليك الدليل على تحامل لامنس ومحاولته قلب الحقائق العلمية ما أرسل به إليَّ
أحد أصحابي من مصر من مقال في الأهرام ينقل كلام لامنس عن عرب الأندلس
وهو بحرفه: (لم يكن بين المسلمين الذين قاموا بفتح الأندلس إلا القليل من
العنصر العربي الخالص، فكان منهم قواد العسكر وأصحاب الرتب فيه ليس غير.
أما أكثرية الجيش فكانت مؤلفة من البربر والأفريقيين وفضلا عن ذلك فإن عدد
العرب الأقحاح كان ينقص باطراد متواصل بسبب الحروب الأهلية. فإذا تقرر هذا
رأينا أنفسنا مدفوعين إلى الإقرار مع الأستاذ ريبيره بأن نسبة العنصر العربي في
تكوين الشعب الأسباني المسلم قليلة جدًّا، ومن ثم فلا شيء يجيز لنا نعت مسلمي
الأندلس بالعرب، إلى غير ذلك من الهذيان الذي هذاه لامنس اليسوعي ومن قبله
صاحبه العالم الأسبانيولي. العرب يفتخرون بمدنيتهم الأندلسية، والإسلام يتخذها
حجة على أهليته للتمدين والتثقيف والسبق في ميدان الحضارة، وهذا بيت القصيد،
فلامنس اليسوعي يريد إنكار هذه الحقيقة التي تأتي بعكس ما يقرره دائمًا هؤلاء
المتحاملون من أن الإسلام لم يوفق حتى الآن إلى تأسيس مدنية راقية. ولما كانت
هذه المقالة قد طالت وكان الرد على كلام لامنس هذا بالأدلة العلمية القاطعة يأخذ
بعض أعمدة من (الجهاد) فإننا نرجئ هذا الرد إلى عدد قادم إن شاء الله.
(المنار) أشكر لصديقي الأمير شكيب هذا البيان لحقيقة حال جماعة
المستشرقين وأصنافهم الثلاثة، ثم أشكر له سلفًا ما سيرد به على لامنس اليسوعي
المشهور بغلوه في عيوب طغمته وشرها الكذب، وتحريف الكلم فيما ينشرون من
الكتب، والخيانة في العلم والأدب لخدمة سياستهم الدينية على قاعدتهم المشهورة
(الغاية تبرر الواسطة) عرفت هذا منذ كنت تلميذًا بتحريفهم لكتاب الألفاظ الكتابية،
وإني على اعتقادي بأن أمير البيان سيفضح لامنس في رده عليه بما هو أحق به
وأهله، وقلَّ أن يقدر عليه غيره، لا يسعني إلا أن أسبقه فأقول للامنس: إن
العرب نزلوا كالغيث من سماء الإسلام على جميع الأقطار فأحيوا جميع الشعوب
الآسيوية والأفريقية والأوربية وأصلحوا إفساد حضارتهم ومللهم وأديانهم على قلة
عددهم في كل قطر، فإن كانوا وجدوا عونًا لهم من أبنائهم البربر الذين مدينوهم
بالإسلام على فتح الأندلس، فالفضل الأول على الفريقين لهم، وإلا فلماذا لم يفعل
ذلك البربر في أنفسهم قبلهم، فالعرب كانوا أقلية في غير الأندلس، ولكن قليلهم لا
يقال له قليل، فهم كالملح قليله يصلح الطعام، وكالنور شعلة منه تطرد الظلام،
ولولا أن تداركوا العالم بالإسلام، لقضت محاكم التفتيش الكاثوليكية على حضارة
جميع الأقوام.