(٢) (القلمون) مكثت في طرابلس أسبوعًا، زارني في أثنائه أكثر أهل القلمون وأخذوا يستعجلونني بالخروج إليها، فلما كان يوم الموعد الذي ضربته لهم انقسم أهلها شطرين: أحدهما جاء طرابلس لأجل أن يكون معي، وأكثر أفراده من الشبان والكهول؛ والآخر خرج لاستقبالنا مسافة ربع الطريق وثلثه ونصفه بين القلمون وطرابلس، وأكثره من الشيوخ والنساء والأطفال، والمسافة كلها ساعة ونصف. كان عدد كثير من الشبان يحملون السلاح فطفقوا منذ خرجنا من طرابلس يطلقون بنادقهم ومسدساتهم في الهواء، فرغبت إليهم أن يكفوا عن ذلك فامتثلوا، حتى إذا ما وصلنا إلى الموضع المعروف بأبي حلقة ألفينا فيه نفرًا من شبان طرابلس فحيونا بإطلاق البارود والرصاص في الهواء فأجابهم من معنا بمثل تحيتهم، بل بأحسن منها، فلم أنكر عليهم ذلك لعلمي بأن العرف يقضي بتسجيل العار عليهم إذا لم يفعلوا. وكذلك فعلوا عندما أشرفوا من رابية (ظهر الرويسات) على القلمون، لإيذان من بقي فيها بقدومنا، وعندما وصلنا إلى دارنا أيضًا، لأنه من قبيل سلام المفارقة. وقد ذكرت هذا لأنه من العادات التي لم أكن أعرفها من قبل، وسيأتي ذكر شيء آخر في معناه. وكان من حفاوة أهل القلمون بي أن حمل بعض نسائها مجامر العود الهندي وغيره من البخور أمامي من طرابلس إلى القلمون، وكان فيمن خرج للقاء ممن بقي فيها من يحمل المجامر أيضًا. وقد راعني وأثر في نفسي رؤية الأولاد الصغار من بنين وبنات في الخامسة والسادسة فيما فوق يتعسفون الطريق ويتسلقون الروابي بين الأشواك والحجارة، تبعوا في ذلك آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم، وكان النساء يغنين ويزغردن، ولهن في ذلك أغاني مناسبة للمقام، وهذه العادة قديمة عند نساء البادية والقرى والبلاد التي لم يتسع نطاق الحضارة فيها. وقد ورد في هذا الباب أن النساء استقبلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة وهن يضربن بالدفوف وينشدن الأناشيد، ومنها قولهن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع وكان فيمن خرج للقائنا مسافة نصف ساعة شيوخ وعجائز في عشر التسعين وعشر المائة من السن، وهم صائمون وصحتهم جيدة، بل مشى إلى طرابلس أكثر من واحد من هؤلاء المعمرين. وأهل القلمون يعمرون لاعتدالهم في معيشتهم ورياضتهم الدائمة بالعمل في الأرض مع جودة الهواء والماء، فالخمر لا تدخل القلمون ولا يشربها أحد من أهلها، والفاحشة غير معروفة فيها ولله الحمد والمنة، وهاتان الكبيرتان هما أفتك بصحة الناس من كل ما يأتيه الناس. سألت رجلاً من هؤلاء الشيوخ (هو الحاج علي طوط) عن سنه فقال: أربع وتسعون سنة. وهو يواظب على صلاة الفجر في المسجد غلسًا وربما يجيئه قبل طلوع الفجر حتى في أوقات المطر والبرد، كهذه الأيام. ويمشي عدة ساعات في النهار وهو صائم. وسألت رجلاً آخر (هو السيد عبد القادر علي) عن سنه فقال: لا أدري ولكنه ذكر لي حكايات منها أنه كان ملاحًا في البحر فجاءه مرة علي طوط ليعمل معه عمل البحر فلم يقبله لأنه صغير لا يستطيع أن يحرك المجداف. فالظاهر من هذا أنه يكبره بزهاء خمس عشرة سنة، فهو قد ناهز العشرة الأولى بعد المائة أو جاوزها ولا يزال يصوم ويعمل في أرضه بالعزق وشيبه غير تام. فليعتبر بهذا بعض الشبان والكهول المتفرنجين في مصر وغيرها الذين يزين لهم الترف والتهاون بالدين ترك الصيام محافظة على الصحة! ! ولو عقلوا لعلموا أن البطنة هي التي تفسد عليهم صحتهم حتى أن أكثرهم ليتناول الأدوية والعقاقير والمياه المعدنية لأجل إصلاح المعدة والمعَى وتسهيل الهضم وهم في سن الشباب فماذا تراهم يفعلون إن شاخوا؟ على أنه قلما يشيخ منهم أحد! ومما يفيد ذكره في هذا الباب: باب الاعتبار بحال الناس في الدين أن أهل القلمون كانوا بهدي بيتنا أبعد مسلمي بلادنا عن البدع، كما أنهم أبعدهم عن المعاصي. ولما انتهى دور الإرشاد فيهم إليَّ رأيت عندهم من البدع أنهم يوقدون السرج والشموع عند قبرين، أحدهما قبر السيد محمد القصيباتي الحسني، المشهور في المقبرة القديمة، وهو أحد أجدادهم وأجدادنا من جهة الأمهات؛ وثانيهما قبر بني حديثًا عند عليقة على شاطئ البحر، وكانوا يربطون بهذه العليقة خرقًا صغيرة يقتطعونها من ثيابهم الخلقة يسمونها آثارًا لأجل شفاء المرضى، وكل من هذا وذاك معروف في جميع البلاد. فما زلت أنهاهم وأعظهم حتى تركوا البدعتين، نساء ورجالاً، وصار من يزور القبور منهم يكتفي بالسلام على الموتى والدعاء لهم والتفكر في الموت والآخرة، كما هو المأثور. وكان أكثر النساء من غير أسرتنا تاركات للصلاة وجاهلات بأحكامها وأحكام الطهارة وآداب الزوجية، فجعلت لهن مكانًا أعظهن وأعلمهن به كما أعلم الرجال في المسجد، فصلحت حالهن في زمن قريب، وكن أسرع امتثالاً من الرجال. وكذلك كان يوجد رجال يتركون الصلاة ولا يحضرون الدرس في المسجد، فكنت أختلف إليهم في بيوتهم، وأذكر أنه استعصى واحد من البلداء الخاملين فأمرت الشبان فسحبوه سحبًا، ولكنه لم يواظب وأعيانا أمره فاكتفيت منه بوعد مكذوب. وكان فيها رجال يسرقون الثمرات كثيرًا وغيرها من المتاع قليلاً، فندر ذلك ندورًا، كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، وكان عمدتي في وعظهم وتعليمهم كتاب إحياء العلوم وكتاب الزواجر وشرح المنهاج، فصار فيهم متفقهون في دينهم يستحضرون ما لا يستحضره كثير من العلماء المدرسين، وكلهم من الفعلة والفلاحين والصيادين. على هذا تركت القلمون عندما سافرت إلى مصر، ولذلك قال أزهد الزاهدين، وبقية السلف الصالحين، العالم الأصولي السائح المعتبر الشيخ عبد الباقي الأفغاني، رحمه الله تعالى: لو بقي رشيد في بلده يعلم الناس ويرشدهم لكان خيرًا له من الذهاب إلى مصر، حيث لا يستطيع أن ينفع كما ينفع هنا. قال هذا عندما ذكر سفري له وهو لا يعلم أن قصدي بالسفر التصدي لإرشاد أعظم، وتعليم أعم وأشمل، ولما عدت إليها في هذه الأيام علمت أنه قد فتن كثير من أهلها فتركوا الصلاة، واتصل بعضهم بالذين اعتدوا على بيتنا من أشقياء طرابلس فأغراهم هؤلاء بقطع الأشجار وشهادة الزور وإضاعة الحقوق وكادوا يجذبونهم إلى الخمر والفحشاء والقيادة، أغروهم بالمال وغروهم بأنهم يحمونهم من الحكومة وإن سلبوا ونهبوا وضربوا وقتلوا، فسلسوا لهم وساعدوهم على نهب بيتنا، وتقطيع الأشجار من بعض بساتيننا وكرومنا، ونحمد الله أن كان هؤلاء المغرورون قليلين، وأن كان أكثر الأهالي لهم ولمضليهم من الكارهين، ونحمده أن جعل الشر أضعف من الخير. عدت إلى هؤلاء الناس وهم قومي الذين أغار عليهم ما لا أغار على سواهم، وكنت أظن أن ما لي من مثال الهداية والدين في نفوسهم قد صغر وتضاءل في هذه الفترة، فإذا هو قد كبر وعظم حتى صار خياليًّا مقرونًا بشيء من الخرافات، فقد كان الرجال والنساء والأطفال يفدون على دارنا ليلاً ونهارًا ومعهم الضعفاء والمرضى والمخدجون يلتمسون الشفاء مني باللمس والرقي وكتابة النشرات وما يعبرون عنه بالحرز والحجاب، على أن في رجالهم من يعرف رأيي في ذلك، فكنت أتلطف في بيان الحق لهم بقدر ما يسمح به المقام ويليق بحال المخاطب، وأحثهم على المداراة الصحية والتداوي ومراجعة الأطباء عند الحاجة، وقد سبق للمنار البحث في هذه المسائل والجمع بين الأحاديث الواردة في الرقي، كحديث إقرار الذين رقوا الملدوغ بسورة الفاتحة، وحديث وصف الذين يدخلون الجنة بغير حساب بأنهم لا يسترقون، على أن إقناع النساء بلباب الحق في هذه المسائل عسير، ولا يتم ولو مع الإرشاد في زمن قصير، ونسأل الله تعالى أن لا يجعلنا فتنة لأنفسنا، ولا لمن يحسن الظن بنا. قلت مرة لعبد الرحمن أفندي الكواكبي - رحمه الله - لو تيسر لنا أن نجعل بعض محبي الإصلاح المعتصمين بالكتاب والسنة شيوخًا للطريق لأمكن لنا بذلك هداية العامة بسهولة، ولكن هؤلاء المصلحين قليلون ولا يكاد أحد منهم يرضى بأن يكون شيخًا لطريقة من الطرق. فقال: إننا قد جربنا ما ذكرت فأقنعنا رجلاً من الصالحين المستنيرين في حلب بأن يكون من شيوخ الطريق فيرجع العامة عن بدعهم وخرافاتهم ويهديهم إلى طريق الدين السوي، فقبل بعد إباء ونفور، فلما رأى إقبال العامة عليه واعتقادهم صلاحه وبركته فتن بذلك وجاراهم في اعتقادهم، فكانوا سببًا لضلاله بدلاً من أن يكون سببًا لهدايتهم، وخسرناه خسارة لا مطمع في رجوعها راجع تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} (البقرة: ١٦٥) الآيات في الجزء الثاني من تفسير القرآن الحكيم أو في المنار. عقدت في القلمون عدة مجالس للوعظ والتذكير قلّ مَنْ تخلف عنها من حاضري القرية، فتاب الناس توبة يغلب على ظني أن أكثرهم صادق فيها، ولا أخشى من الإصرار على الفساد إلا على نفر قليل من الموالين لبعض الأشقياء الغرباء الذين أشرت إليهم فيما سبق من القول. وقد ألفت لهم جمعية عنوانها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) وجعلت لها صلة بجمعية التعاون التي سعيت بتأسيسها في طرابلس. * * * (دده وسائر الكورة) بدأت الوفود تفد من الكورة على القلمون للسلام علينا منذ اليوم الثاني من وصولنا إليها كرئيس دير البلمند ووجهاء البلاد من المسلمين والنصارى، وقد نزل معظم أهل (دده) - وهي على قمة الجبل بإزاء القلمون على الساحل - بعد العشاء وهم يطلقون البارود من بنادقهم والرصاص من مسدساتهم ويهزجون بالأغاني فتلقاهم شبان القلمون في خارجها وأدخلوهم باحتفال يناسب ما هم فيه، وقد قيل لي: إن من الرسوم المعتادة في ذلك أنه لو لم يخرج شبان القلمون للقائهم لما دخلوها، لأن ذلك يعد من الإهانة في عرفهم. وعند وصولهم إلى دارنا تحلقوا أمامها وطفقوا يهزجون ويطلقون العيارات النارية إلى قريب من نصف الليل ثم انصرفوا مشيعين مشكورين، وكان زعيمهم في هذا الاحتفال الأمير علي عبد الرحمن الأيوبي. وجميع الأناشيد التي هزجوا بها مناسبة لمقتضى الحال، ولعل أكثرها ارتجالي، فإنه في الترحيب بالقادم (صاحب هذه المجلة) وفيها إطراء له بالأعمال السياسية والعلمية، وقد ذكر بعض القوالين المسلمين فيما أنشده عبارة معناها: لولاك يا فلان لما ارتفع شأن الإسلام، فأجابه رفيق له من النصارى بعبارة معناها أنه ليس لكم وحدكم وأنه قد طبع لنا الإنجيل، يعني بذلك إنجيل برنابا! ! وقد أضحكتني هذه العبارة وأضحكت كل من سمع بها من العارفين بإنجيل برنابا، فحبذا هذه السذاجة مع هذا الاتفاق بين المسلمين والنصارى الذي حمدت عليه أهل ددَّه حمدًا جميلاً. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))