(نشرت في العدد الثالث من السنة الخامسة من جريدة النحلة التي كانت تصدر في لوندرة في أثناء زيارة السيد لها من أواخر سنة ١٨٨٢ وأول سنة ١٨٨٣) . بلغنا أن الحكومة الإنجليزية قد عرضت لائحة في المسألة المصرية على الدولة العثمانية تسكينًا لروعها وتطمينًا لبالها , تذكر فيها أنها ما قصدت الاستيلاء على مصر , ولا تود وضع اليد عليها , ولكن سوف تبقى العساكر الإنجليزية في البلاد النيلية إلى مدة زوال القلاقل وحصول الراحة , وتشكيل المجالس والمحاكم , ولا تود الدولة البريطانية أن تمس حقوق الحضرة السلطانية بمداخلتها في مصر. نعم، هذه هي السياسة الإنجليزية في جميع البلاد الشرقية , عملت بها في الممالك التي أرادت الاستيلاء عليها , وقد حذقت فيها وجربتها مرات عديدة , حتى إذا خاض العاقل فيها رأى أن لا سياسة للإنجليز سواها , كأنها عرفت عقول الشرقيين وعلمت ما فطروا عليه من السذاجة وشدة الاعتقاد بمواعيد عرقوب , فتأخذهم على غرة , وتستلب بلادهم وهم في أمن منها , يتقون بعهودها ولا يعرفون أن هذه الحكومة إنما تقتنص بأوهاق الأيمان [١] ولا تسلك في فتوحاتها إلا مسلك الوداد , حتى إنها قل ما تملكت بلدًا بالقوة القاهرة وإن الشر لا يأتي إلا من معاهداتها. أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء الهند بمداخلتها الودادية ومواعيدها المؤكدة؟ أليست هي التي نقضت الحكومة النظامية في بنغالة بعساكرها التي وضعتها للمحافظة على تلك البلاد؟ أليست هي التي أزاحت السلطنة الكهنورية [٢] بنفس جنودها الذين أقامتهم لتوطيد الراحة فيها؟ أين ذهبت حكومات أمراء الكرناتك ومدراس التي كانت مطمئنة بالعساكر الإنجليزية ومعتمدة على معاهداتها؟ أين حكومة بنجاب وممالك أمراء السند؟ أين حكومة المراتيين في بونه؟ ذهبت كلها لاعتماد أهلها على وعود الإنجليز وحماية عساكر المملكة وما أبادهم لعمري سوى تلك العساكر نفسها التي وضعت لصيانتها من الفساد الداخلي , فاحذروا يا أهل الديار النيلية من أن يحل ببلادكم ما حل بغيرها , ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده. وقد بلغنا منذ قَدِمْنَا لوندن أن معظم الأوامر التي يجريها الخديوي تكتب أولاً في الوزارة الخارجية بلوندرة , ثم ترسل إلى المندوب الإنجليزي بمصر , والمذكور يقدمها لحضرة الخديوي ليجريها كأنها صادرة عن أمره باختياره , ولا أمر له فيها ولا اختيار , وربما هذا كان الباعث على استقالة رياض باشا من الوزارة. هذه هي السياسة الإنكليزية التي كشفت عنها غطاءها التجارب , وبهذه السياسة جالت في ميدان جميع فتوحاتها , فلا أظن أنها تتمكن بعد الآن من اختلاب عقول الشرقيين بهذه المواعيد [٣] وما أظن أن السلطان ورجال دولته بعد ما علموا نبأ معاهدات الإنجليز في الهند أن يعتمدوا عليها ويثقوا بأصحابها , ولا ريب أنهم قد اطلعوا على المعاهدات الإنجليزية التي طبعت في أربعة مجلدات بمطبعة (نول كشور) في بلدة لكتاهور , ومنها علموا كيف يستولي الإنجليز على البلاد بحرفة العهود الفارغة والمواثيق الباطلة , وفيما قلناه عبرة لمن يعتبر , وسوف نعود إلى الخوض في هذا الموضوع متصلاً اهـ. قال ناسخ هذه المقالة بعد ما تقدَّم: وقد رأينا في نفس العدد المذكور من تلك الجريدة نبذة عرفنا من مشربها وأسلوبها أنها لأستاذنا - حفظه الله - خصوصًا وأن بين عبارتها وعبارة صاحب الجريدة ما يدل على أنها مدخولة فيها , فنقلناها جازمين بأنها بِنْتُ فكره , فإنه رضي الله عنه ما حل بلدًا إلا ترامى عليه أرباب جرائدها العربية , للتماس أن يزين صحفهم ببدائع حكمه وأبكار أفكاره , فيجيب سؤالهم ناحيًا فيما يكتبه نحو ما هو ولوع به من الحماية عن الشرق وبنيه , والذَّوْدِ عن الأمم الإسلامية والسعي في توحيد كلمتهم , وتحذيرهم من دسائس الغربيين , كاشفًا لهم الحجاب عن وجه سياسة الأمة التي يريد تحذيرهم منها بما لم يستطع ساستها إلى كشفه سبيلاً لو أرادوا له كشفًا. أما النبذة فها هو نصها: أسباب الحرب بمصر لقد ذهب الناس مذاهب شتى في أسباب الحرب التي قدحت الإنجليز زنادها على المصريين , فمنهم من زعم أن الطمع في الاستيلاء على البلاد النيلية الخصيبة كان الباعث على ذلك , ومنهم من اعتقد أن مصالح بريطانيا في خليج السويس حملت الإنجليز على فعل ما فعلوا , وظن قوم أنهم اندفعوا إلى تجشم تلك الخسائر الباهظة غيرة على حفظ نفوذهم السياسي والتجاري بالديار المصرية , والتأمين على استيفاء ديونهم وهلم جرا , تلك لعمري تعليلات سارت بها الجرائد رجمًا بالغيب , أو تمويهًا على عيون الناس. أما أسباب الحرب الحقيقية فهي ما كان قد ثبت في عقول الإنجليز والفرنسيس من أن جلالة السلطان عبد الحميد قد سعى منذ تولى الخلافة والملك في جمع كلمة المسلمين المنتشرين في أقطار الهند وأفريقية وسورية والعراق واليمن والحجاز ومصر وغيرها من البلاد؛ لكي يجعلهم عصبة مستمسكة بعروة الخلافة الوثقى , وأمة تتساند إلى بعضها [٤] كالبنيان المرصوص , وأن يكون السواد الأعظم من المسلمين في يد أمير المؤمنين , يستنجدهم في الملمات لمقاومة دول أوربا إذا طمعوا في سلب بلاد المسلمين , فكان الفرنساويون يقاومون نفوذ السلطان وخلافته في مسلمي الجزائر وتونس مخافة أن يكون ذلك وبالاً عليهم , وكانت الإنجليز تحاذر من انقياد مسلمي الهند إلى دعوى الخلافة , ومن الانضمام إلى العصبية الإسلامية , وكانت تلك الدولة القيصرية قد بلغها أن الحضرة السلطانية بعثت برجال الدين إلى المسلمين؛ ليدعوا إخوانهم إلى طاعة أمير المؤمنين , وينشروا بينهم رسائل تولد في عقولهم فروض الانقياد إلى الراية النبوية, إذا نشرها السلطان ودعاهم إلى التشمير عن ساق الجد؛ لنصرته والجهاد في سبيل الملك والدين. وما زاد في طنبور الإنجليز نغمة إلا النشرات التي كان السيد (نصرت علي) ينشرها في دهلي بإيعاز السلطان , فلما أخذت مشروعات السلطان ومندوبيه تضرم نار الغيرة الدينية , وتثير الحمية الإسلامية في نفوس بعض من الهنود , اضطرت الحكومة الإنجليزية بالهند إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان تلك العدوى , وعثرت في أثناء ذلك على رسائل منتشرة بين المسلمين كانت قد طبعت في القسطنطينية بدار الطباعة الشاهابية , وأرسلت إلى الأقطار الهندية؛ لإنهاض همة المسلمين , فألقت القبض على كثيرين من الذين وجدت عندهم من تلك الرسائل وحاكمتهم , ومن ذلك الوقت شرعت إنجلترة تتوجس في تلك المقدمات نتائج وخيمة في ممالكها الهندية , فكانت بالمرصاد تترقب الفرصة الملائمة لتمزيق شمل تلك العصبية الإسلامية التي يصفها الإفرنجيون باسم (اسلاميزم) , وفيما كانت تَضرب أخماسًا في أسداسٍ , وتقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى , بلغها أن الحضرة السلطانية قد باشرت تنفيذ مشروعاتها بالديار المصرية , وضم مسلمي تلك البلاد أيضًا إلى العصبية الإسلامية بواسطة الشيخ محمد ظافر والسيد أحمد أسعد المدني وبسيم بك وراتب بك وأحمد عرابي وأحزابه , فأصدرت الدولة البريطانية أمرها إلى مندوبها بمصر بأن يستقصي حقيقة الخبر. أما ذلك المندوب فكان بادئ بدء يعتقد أن الحرب الأهلية عبارة عن عصبية عسكرية جل سعيها في إصلاح شؤونها , وطرد الضباط الشركس من مصاف الجهادية المصرية , ولكن خيل إليه بعد ذلك أن الحضرة السلطانية قد اغتنمت الفرصة من ثورة العساكر المصرية , واتخذت عرابي باشا آلة لقضاء أغراضها , وتوطيد نفوذها في القطر المصري , وضم المصريين إلى العصبية الإسلامية , فرفع المندوب الإنجليزي تلك الأخبار إلى لورد جرانفيل , وأثبت وجود عصبية دينية قد تردت برداء عصبية سياسية وطنية , تدعي تحرير الفلاحين من ربقة المرابين والأجانب , وفي الحقيقة ليس سوى عصبية إسلامية دينية تحت قيادة السلطان أمير المؤمنين , غرضها الوحيد مقاومة دول أوربا , وإنهاض همة المسلمين في الهند والجزائر وتونس وبلاد العرب فتداركت إنجلترا العواقب , وصممت على إذلال تلك العصبية الإسلامية قبل أن يستفحل أمرها؛ لأن الإنجليز تعتقد أن مصر باب الهند وخليج السويس دهليزها , فإن استفحل أمر عرابي باشا وحزبه لحق بهم المصريون على اختلاف أجناسهم , وتبعهم السوريون والعرب , وانشأوا أمة عظيمة الشأن , شديدة البأس , تضر الإنجليز ومستعمراتهم في الهند , فرسخ في عقول رجال السياسة البريطانية أن منع إنشاء الوباء خير من علاجه بعد انتشاره , وصمموا على إخراج عرابي باشا وأحزابه من الديار المصرية إما بالحسنى وإما بالإكراه , طمعًا في إطفاء نار الفتنة وتمزيق شمل العصبية الإسلامية المتظاهرة بشعار الوطنية , فلما أيسوا من إخراجهم بالحسنى عوّلوا على إذلالهم بالأساطيل المدرعة , والمدافع المثمنة , والجنود البحرية والبرية , وما انثنوا حتى فتكوا بهم في ملحمة التل الكبير , وكانت القاضية على عرابي باشا وأحزابه , وقد ثبت في عقول كثيرين أن إذلال عرابي وأنصاره قد أذل العصبية الإسلامية إذلالاً لا عز بعده ما توالى الفرقدان. ((يتبع بمقال تالٍ))