على مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام في الدفاع عن نفسه وعنها (٢)
خطأ المجلة في اتقاء مس السياسة في شأن ما: جاء في مقدمة المجلة ما نصه: (خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن) ، فهذا تصريح بأن الخطة المرسومة لمجلة الأزهر والمعاهد الدينية أن لا يُنشر فيها شيء ما يمس السياسة العامة، ولا السياسة الخاصة بالإسلام ولا بمصر ولا بغيرهما بوجه من الوجوه ولا برأي من الآراء، لا دفاعًا ولا هجومًا؛ لأن كلمة (شأن) نكرة في سياق النفي تفيد العموم الاستغراقي. كبر عليَّ أن تكون هذه المجلة الغنية لهذا المعهد الإسلامي الكبير هي التي تختار لنفسها هذا الحرج الشديد والتضييق على محرريها، فتجعل الحرمان من جميع شؤون السياسة خطة مرسومة لها لا تتعداها، وتجاري ما كاد يكون عرفًا عامًّا لدى الحكام من تحريم الاشتغال بالسياسة على علماء الدين، وإبعادهم عن أهم شؤون المسلمين بسياستهم. فذكَّرتهم برأيي في هذه الخطة بلطف، فأجاب رئيس التحرير عن ذلك بالمغالطة الآتية. قال: (نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن، وقلتم إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها) . وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج من دائرة مجلة نور الإسلام أن تكتب في إنكار تصرفات يُعتدَى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية. وذكر مما يدخل في دائرتها المطالبة بإلغاء البغاء الرسمي واحترام المحاكم الشرعية والاحتفاظ باللغة العربية! ! ! (راجع ص ٣٧٣ من الجزء الخامس الماضي) . أقول: خلاصة هذه المغالطة أن المجلة تتجنب التدخل في النزعات السياسية، ولكنها لا تتجنب غير ذلك من الشؤون الإسلامية، كالمكاره التي تصيب المسلمين والبغاء الرسمي والمحاكم الشرعية واللغة العربية. فيا لله العجب! كيف كتب رئيس التحرير هذا وسماه جوابًا عن قولي: إن المجلة ضيقت مجال خدمة الإسلام على محرريها بحرمانهم من الكتابة في السياسة الإسلامية، فإن كان ما ذكر أنه أبيح لهم من السياسة فما معنى ذلك النفي العام؟ وإذا لم يكن منها فما معنى ذكره وتسميته جوابًا عما انتقد على المجلة من هذه الجهة؟ ! دعْ تعبيره في الجواب عن عدم مس أي شأن من شؤون السياسة (باجتناب التدخل في النزعات السياسية) والفرق بينهما بعيد، وهو الذي كتب العبارتين! ! على أن ما ادعى إباحته لأقلام محرري المجلة من بيان ما تراه مخالفًا للدين من أعمال الإدارة الداخلية لا نرى له مصداقًا في المجلة، فللإدارة الداخلية أعمال كثيرة مخالفة للدين غير إباحة البغاء: كإباحة الحانات، وتجارة المسكرات، وأكل الربا، والإسراف الفاحش في أموال الدولة وأموال الأوقاف وصرفها في غير مصارفها الشرعية، وغير ذلك من الظلم الذي تذكره الجرائد من أعمال الإدارة، ولا نرى في المجلة إنكارًا لشيء مما ذُكر على الحكومة على سبيل الوعظ والإرشاد الذي يقتضي بيان سلب ما ذكر للعدالة، وما تشترط فيه العدالة لصحة الولاية، زد على هذا إهمال الدين في مدارس الحكومة وأهم ما يجب عليها إلزام تلاميذها بإقامة الصلاة وسد ذرائع الإلحاد، ويا ليت شعري لماذا يسكت علماء المعاهد الدينية في مجلتهم الرسمية عن إنكار إنشاء مدرسة لتعليم البنات التمثيل المسرحي الذي يشتمل على ما يعلمون من المنكرات، وهو من أقوى الذرائع لفساد الأعراض وارتكاب كثير من الموبقات؟ ! سكوت المجلتين عن المؤتمر الأفخارستي وتنصير البربر ولا أدري ماذا يريد الأستاذ رئيس التحرير من المكاره التي تمس الشعوب الإسلامية، ولا ماذا يعني بالتصرفات التي يعتدى بها على حق ديني لأحدها. وأما جماهير المسلمين فيعلمون أن شر هذه المكاره وتصرفات الاعتداء وأفظعها ما أصاب شعوب المغرب الإسلامية في دينهم ودنياهم، ولا سيما مؤتمر دعاة النصرانية الملقب بالأفخاريستي في تونس، وطن الأستاذ ذي الرياستين والقلم والجوال في المجلتين الإسلاميتين، الذي أُسس لتنصير المسلمين بالدعاية والطعن في الإسلام، وشر منه محاولة تنصير شعب البربر الإسلامي الكبير بالفعل، فإذا كانت رياسة المعاهد الدينية تمنعه من بيان هذه المكاره والنوازل التي أصابت قومه ووطنه في مجلة (نور الإسلام) فما الذي منعه عن بيانها في (مجلة الهداية) وهو يرى جميع المجلات والجرائد والجمعيات الإسلامية تقيم النكير على دولة فرنسة، وتثير عليها العالم الإسلامي، وأحرار العالم المدني، ولم يبقَ الا مجلة نور الإسلام ومجلة الهداية لم ينبض لأصحابهما عرق، ولم يهج لهما شعور ولا حس؟ ! لولا أننا نريد التلطف والإيجاز في هذا الرد على مقالة (للحقيقة والتاريخ) لبسطنا القول في هذا المقام بما يسوء الكاتب وغيره ممن يتكلم بألسنتهم، ويعبر عن جماعتهم، ويتمنون لو لم يكن كتب هذه المقالة، ويعلمون قدر تلطفنا وإخلاصنا في الإشارة إلى كراهتنا لتضييق هذه المجلة على نفسها - إن كانت مختارة كما يقول رئيس التحرير - في رسمها الخطة لنفسها؛ لأننا نتمنى لها كل ما يمكن من الحرية في خدمتها للإسلام والمسلمين وهي تعدُّنا بهذا من المذنبين. قال أحد أعضاء جمعية الهداية أو غيرهم: إننا رأينا في أحد أجزائها ورقة منفصلة فيها ذكر إنكار هذه الجمعية أو كراهتها لمحاولة فرنسة تنصير مسلمي البربر. قلنا: نعم قد كان ذلك، ونحن لما وقع في يدنا ذلك الجزء من المجلة وفتحناه ووقعت تلك الورقة منه على الأرض فرأيناها - عجبنا من وضع ذلك الإنكار الضعيف النحيف السخيف الضئيل النحيل الهزيل في ورقة صغيرة منفصلة، وفكرنا في سببه، فلم نعقل له سببًا إلا أن يكون القصد منه جعْل الورقة في الأجزاء التي توزع في مصر، دون الأجزاء التي تُرسل إلى بلاد تونس والجزائر ومراكش؛ لئلا تغضب الحكومة الفرنسية على رئيس الجمعية التونسي وتمنع المجلة من دخول تلك البلاد، فإن لم يكن هذا هو السبب فلتخبرنا إدارة هذه الجمعية إن لم يخبرنا رئيسها عن السبب الصحيح، ومهما يكن فلن يكون مما يُرضي المسلمين ويعذرونها به، كما أنه لم يرضهم ما نقلته مجلة نور الإسلام عن المقطم في مسألة البربر كما بينا ذلك في الجزء الماضي. مسألة الرد على دعاة النصرانية بما يكرهون من الحق: وكتب الرئيس في مقدمة المجلة أيضًا: (خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول) . وقد نقلت عنها هذا القول ووصلته بقولي: أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن تطعن في الأديان بالبذاء والسفاهة، كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم على الإسلام، ولكنها لن تستطيع أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية المهاجمين للإسلام في مصر وغيرها مع تجنب ما يكرهونه من قول. فهذا رأي لي علمته بالاختبار الطويل في عشرات السنين، كالرأي الذي قبله، ليس نقدًا للمجلة ولا تخطئة لها، وكان يجب أن تقابله بالشكر أو بالسكوت، ولكن الأستاذ رئيس التحرير ما عتم أن أجاب عنه بذلك الجواب الطويل كما رأى القراء في (ص٣٧٤) من أولها إلى آخرها. ومما قاله: إنني حملت العبارة على معنى أن المجلة (لا ترد على المخالفين إذا هاجموا دين الإسلام) . وهذا غير صحيح، فإنني ما حملتها على هذا المعنى، وكلمتي لا تدل عليه، فمن أين جاء به؟ ثم قال: إن المجلة إنما تريد بذلك القول الترفُّع عن بذاء القول والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء.. إلخ، ثم ذكر عن حكماء الكتاب تحامي السوء من القول وعدم الحاجة إلى اللمز والبذاء! ! فأي حاجة إلى هذا القول بعد تصريحي بأنني لا أرضى لمجلة علمائنا البذاء وبسفه القول؟ ولماذا لم ينشر عبارتي بنصها؟ أليس لإيهام قارئي هدايته الذين يظن أنهم لا يرون المنار - أنني أحث مجلة نور الإسلام على السفاهة والبذاء؟ ! وكيف يكون هو إذًا من حكماء الكُتاب، الذين هم في ثروة من الحجج لا يرون أنفسهم في حاجة إلى الاستعانة في هجومهم أو دفاعهم بشيء من اللمز أو البذاء؟ وقد بلغني بعد نشر جزء المنار الماضي أن الأستاذ الأكبر منعه من نشر رده على المنار في مجلة نور الإسلام؛ لأنه علم من ضعفه ومن سعة المجال لتفنيد المنار له ما لم يعلم، فنشره في مجلة الهداية؛ لأنه لا سيطرة عليه فيها ولا رقيب. الأدب في المناظرة والجدال قوة تزيد صاحبها ظهورًا، وحججه فلجًا ونورًا، وقد تذكرت الآن ما كان من أدب شيخنا الأستاذ الإمام في رده على فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة العثمانية، وما كان من تسرع فرح أفندي وعدم توقفه في رده، حتى إن بعض أهل العلم ذكر للأستاذ أنه لا يستحق هذا التلطف فقال رحمه الله: (لا خسارة في حسن الأدب) . وكان يكتب مقالات (الإسلام والنصرانية) في أثناء سفره لجمع الإعانة لمنكوبي الحريق في (ميت غمر) وتوزيعها عليهم ويرسلها إليَّ فأنشرها في المنار، فكتب إليَّ مرة يسألني: ما رأي أدباء النصارى في المقال؟ ! فكتبت إليه: إنهم معجبون بأدبه ونزاهته، ولكنهم يتألمون من موضوعه، فكتب إليَّ: أنه إنما يسأل عن رأيهم في أدب العبارة، ويخشى أن يكون سبق قلمه إلى كلمة تُنتقد، ثم قال من جهة الموضوع: وإذا كان الباطل لا يتألم من رؤية الحق فمِمَّ يتألم؟ ! فهذا المعنى هو الذي أشرت إليه في قولي: إن المجلة لا تستطيع أن تدافع عن الإسلام بالرد على المبشرين بما لا يكرهون من قول مهما تكن درجة توخيها للنزاهة والأدب فيه. وجملة القول أنني عنيت أشد العناية الممكنة في تقريظ مجلة نور الإسلام، وتلطفت جهد الطاقة في النصح لها بما أراه حافظًا لكرامة أهلها، ومزيد كمال في إتقان خدمتها، (وقد يستفيد الظنة المتنصح) ولم أقصد بشيء منه الانتقاد على سعة مجاله عندي، الا ما هو خاص بفضيلة رئيس التحرير من حيث هضمه لحق الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأُشهد الله أنني سُررت بجعْله رئيسًا لتحرير المجلة، فكان حظي وحظه ما رأى القراء من رده وجوابي، ولهم الحكم العدل فيهما إن شاء الله تعالى وهو خير الحاكمين.