النبذة العاشرة - كتب العهدين أيضًا بيَّنا في النبذة التاسعة التي نُشرت في الجزء (١٧) ما قاله الفاضل صاحب كتاب الأبحاث في إثبات كتب العهدين من طريق العقل، وفنَّدنا قوله تفنيدًا، ونذكر ههنا أنه بعد ما ذكر حاول الاحتجاج على استحالة تغيير التوراة والإنجيل، فكانت حجته الداحضة على ذلك أن الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا منتشرتين في الشرق والغرب (وكان الكتاب لا سيما الإنجيل مترجمًا إلى كل لغات الأقوام التي دخل بينهم كالعربية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية والعبرانية الأصليتين (قال) فكيف يُعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة، سيما أن المسيحيين كانوا شيعًا كل واحدة تناظر الأخرى، ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى بدون دليل، وإلا فليخبرونا أين الآيات المتغيرة، وما هي وما أصلها وما الغاية من تغييرها، فإن عجزوا - ولا مراء أنهم عاجزون - قل لهم كيف جاز لكم هذا الادعاء والعالم الحكيم لا يقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه) اهـ. والجواب عن هذه المغالطة سهل على الناظر في كتب العهدين التي يسمون مجموعها التوراة والإنجيل، وفي كتب تواريخ الكنيسة والتاريخ العام، وأما المسلم الذي لم يطلع على ذلك فيكفيه أن يقول: إن كل ما خالف القرآن فهو ليس من التوراة ولا من الإنجيل؛ لأن القرآن ثابت بالبرهان القطعي ومنقول بالتواتر حفظًا وكتابة، وتلك الكتب ليست كذلك، ووحي الله لا يخالف بعضه بعضًا إلا ما كان من قبيل الأحكام المنسوخة، فلا بد من ترجيح القرآن عند التعارض فيما دون ذلك؛ لأنه هو الثابت القطعي كما اعترف بذلك كثيرون من علماء النصرانية، فقد جاء في كتاب (السيوف البتارة، في مذهب خريستفورس جباره) لمحمد أفندي حبيب الذي كان تنصر، ثم رجع إلى الإسلام بعد ما اختبر غيره: (إن المستر ستوبارت رئيس مدرسة لامارتينيبار في لكنؤ بالهند الإنكليزية صرَّح في كتابه المسمى (الإسلام ومؤسسه) صحيفة ٨٧ بما يأتي بالحرف الواحد: (عندنا براهين قوية عديدة للتصديق بأن القرآن الموجود الآن هو عين ألفاظ النبي محمد الأصلية كما لقَّنَ وأملى بمراقبته وتعليمه) وبهذا قال موير المعدود في الوقت الحاضر أمهر وأحذق وأكبر عدو للإسلام) إلى آخر ما استشهد به. أما التغيير والتبديل والتحريف في كتب العهدين، فالمسلمون لا يقولون إن هذه الكتب كلها سماوية منقولة عن الأنبياء نقلاً صحيحًا، وإن اليهود والنصارى غيَّروها بعدما انتشروا في الشرق والغرب، ونقلها كل قوم دخلوا في اليهودية أو النصرانية إلى لغتهم؛ وإنما البحث في أصلها وكاتبيها في أول الأمر، ومن تلقاها عنهم قبل ذلك الانتشار العظيم، وهذا هو الأمر المُشْكِل، والداء المعضل، الذي لا يجد أهل الكتاب له دواء ولا علاجًا، من كتب الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام. يقولون: إن موسى كتبها وأودعها ما كلَّمه به الرب، فكانت تاريخًا له ولشريعته الإلهية، كيف يصح هذا الجواب وهذه الكتب تتكلم عن موسى بضمير الغيبة، وفي آخر فصل منها ذكر موته ودفنه؟ يزعم بعضهم أن هذا الفصل كتبه يشوع، وأنى يصح هذا وفي الفصل الحكاية عن يشوع، وأنه امتلأ روحًا وحكمة، فسمع له كل بني إسرائيل، فهذه حكاية عنه من غيره، ثم كيف يدلس يشوع ويلحق بكتاب موسى ما ليس منه من غير أن ينسبه إلى نفسه، ولعلهم استدلوا على ذلك بأن يشوع قد ابتدئ بواو العطف فإن أول عبارة فيه هي: (وكان بعد موت موسى عبد الرب) ... إلخ، وهناك دليل على أن الفصل الأخير ليس ليشوع أقوى من الحكاية عنه ومن تبرئته من التدليس، وهو أن الفصل المذكور بعد حكاية دفن موسى هذه الجملة (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم) فهي تدل على أن الجملة كتبت بعد موسى بزمن طويل، ولو كانت ليشوع لم تكن كذلك، وحسبنا أنهم من ذلك في شك مريب فكيف يوثق بهذا الكتاب ويقال إنه متواتر وعمَّن التواتر والأصل مشكوك فيه. في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ما نصه: (٢٤ فعندما كمَّل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها ٢٥ أمر موسى اللاويين حاملي تابوب عهد الرب قائلاً ٢٦ خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم ٢٧ لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا بعدُ حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي ٢٨ اجمعوا إليَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض ٢٩ لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به) ... إلخ. فهذه هي التوراة التي كتبها موسى على حدة في كتاب مخصوص هي كلام الله الذي صدَّقه القرآن فأين هي، ماذا فعل بها أولئك الذين قال فيهم موسى إنهم يفسدون بعده ويزيغون عن طريق الحق الذي هو التوراة، وماذا أصاب التوراة من فسادهم وزيغهم وغلظ رقابهم؟ التوراة معناها الشريعة، وهذه الأسفار الخمسة كتب تاريخية يوجد فيها من أحكام تلك الشريعة مثلما يوجد في كتب السيرة النبوية عند المسلمين من آيات القرآن وأحكامه، وليست السيرة هي القرآن والشرع الإسلامي، وكما يوجد في السيرة النبوية مع التحري في روايتها ما يصح وما لا يصح فأجدر بتاريخ موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أن يوجد فيها ما يصح وما لا يصح، وهي لم يتحر فيها كاتبها بعض تحري رواة المسلمين لسيرة نبيهم، بل قدمنا أن كاتبي تلك التواريخ مجهولون. اعترف صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية) استظهارًا بأن نسخة موسى (رُفعت من مكانها مرة ووقعت في خطر لما غلبت عبادة الأصنام في ملك منسا وأمون وانقطعت عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين، وفي تلك المدة طرحت بين الرثث [١] حيث وجدت في ملك يوسيا الصالح، ثم قال: (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها، والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرَّب بختنصر الهيكل، وربما ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ متفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها؛ وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) فهل ينخدع المطَّلع على هذه الأقوال وأمثالها بقول صاحب كتاب (الأبحاث) إن الكتاب كان محفوظًا بين الألوف بلغات كثيرة؟ هؤلاء علماء اللاهوت في مذهبه يعترفون أن اليهود فُقدت منهم عبادة الله بعدما تغلبت عبادة الأصنام، وأن نسخة التوراة الوحيدة فُقدت، ويعترفون أن اليهود يُقرُّون بأن جميع كتبهم فُقدت لأنها كانت في الهيكل، وقد خربه الوثنيون وقد أخذوا الكتب، وأتلفوها، فلم يبق لهم مستند لأصل دينهم إلا زعم يوسيفوس بأن كل سبط من أسباط بني إسرائيل كان عنده نسخ من التوراة؛ ولكن أين هذه النسخ إن صح قوله - وهو رواية واحد بما يؤيد دينه - فتلك هي النسخ التي أتلفها بختنصر، فيبقى معنا شيء واحد وهو ادعاء أن عزرا الكاتب كتب جميع كتب اليهود كما كانت، بل صحح غلطها الأول وكتبها أحسن مما كانت، وههنا يسأل المسلمون عن الدليل على ذلك، وعن سبب وقوع الغلط في النسخ حتى احتاجت إلى إصلاح عزرا، وعن نسخة التوراة التي هي شريعة مستقلة كما كتبها موسى، وعن السند المتصل المتواتر إلى عزرا بذلك؟ ثم إنهم يقولون: إذا جاز أن يُصحح عزرا الكاهن خطأ الكتب المقدسة فلم لا يجوز ذلك لمحمد رسول الله وخاتم النبيين؟ اللهم إن الغرض مرض في القلب يحول بينه وبين قبول الحق، فألهم اللهم هؤلاء الناس بأن يطلبوا الحق بصدق وإخلاص وافصل بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاصلين. هل جاء في كتبهم المقدسة أن عزرا كتب التوراة وسائر الكتب المقدسة كما كانت؟ كلا إنه جاء في الفصل السابع من سفر عزرا أنه في ملك أرتحشستا ملك فارس صعد عزرا (وذكر نسبه إلى هارون، وهو يدلي إليه بخمسة عشر أبًا) هذا من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأنه جاء إلى أورشليم في الشهر الخامس من السنة السابعة لأرتحشستا الملك، قال ١٠ لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء ١١ وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشستا إلى عزرا الكاهن كاتب وصايا الرب وفرائضه على اسرئيل ١٢ من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء) إلى آخره. هذا هو دليلهم من كتابهم المقدس على أن عزرا كتب التوراة والكتب المقدسة بالإلهام بعد فقدها، وهو كما ترى لا يدل على ذلك، بل قصارى ما يعطيه أنه كان من كتبة الدين أو الشرع كما نقول أن فلانًا الصحابي كاتب الوحي، فلو فرضنا أن القرآن فُقد من المسلمين، وأنه لم يحفظ في الصدور، ثم ادَّعينا أن معاوية كتبه بالإلهام؛ لأنه وُصف في بعض كتب التاريخ الدينية بأنه كاتب الوحي، فهل يقبل منا أهل الكتاب هذا الدليل. ثم إن الملك أرتحشستا الذي شهد لعزرا هذه الشهادة التي لا نعرف سببها أمره مبهم في التاريخ لا ينطبق على روايات العهد العتيق المضطربة في سفر نحميا، وسفر عزرا فلا يعرف أهو أرتحشستا الأول الذي هو أزدشير الملقب عند الفرس بزرادشت أم هو أرتحشستا الثاني فإن ذكر عزرا له بعد داريوس يدل على أنه الأول، والتاريخ ينقض هذا. ولا نطيل في بيان الاضطراب فليرجع إليه من شاء في كتب التاريخ، وفي دائرة المعارف ملخص منه، وهذا الاضطراب يُبطل الثقة بالرواية، والمسلمون لا يقبلون خبرًا عن نبيهم رووه بالإسناد المتصل القريب، إذا كان فيه مثل هذا الاضطراب العجيب. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))