للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


لغة الإسلام
واللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

(١)
قرأنا في برقيات الأهرام وغيرها نبأ غريبا: هو أن جريدة (طنين) التركية
تلقت رسالة مُوَقَّعًا عليها من خمسة وعشرين مسلمًا في طشقند وأفغانستان ومصر
والجزائر وبمباي وبكين وبلاد أخرى يحثون فيها جميع المسلمين على استعمال
لغة واحدة في العلاقات التي بينهم أسوة بالقاعدة المتبعة في استعمال اللغة الفرنسية
في المسائل السياسية، وإن الموقعين على هذه الدعوة صرَّحوا بأن اللغة التركية
متوفرة فيها الصفات الضرورية لهذا الأمر على كونها لغة أكبر دولة إسلامية،
واقترحوا عرضها على مؤتمر يعقد في مدينة أنقرة يكون مؤلفًا من أعضاء مندوبين
من جميع الممالك الإسلامية، لكل مملكة منها عضوان.
هذا كل ما لخصته البرقيات من رسالة طنين، فوجب أن نبحث في هذه المسألة
بما يرشد إليه الإسلام ومصلحة المسلمين، والبحث فيها ذو وجوه:
(الأول) : إن هذا الاقتراح مصنوع، وصنعة غير متقن فيما يظهر، فقد
أراد الملفقون له في الآستانة أن يوهموا من يطلع عليه أن هذه الفكرة مما يشغل
جميع الشعوب الإسلامية من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وأنه يكاد يكون
بادئ ذي بدء رأيًا إجماعيًّا لها لا يعوزه إلا أن يقرَّر في مؤتمر رسمي، وعندنا أن
فكرة سخيفة غير ممكنة كهذه الفكرة، لا يمكن أن توجد فجأة في شرق البلاد الإسلامية
وغربها، ولا يعقل أن تتمخض في جميع هذه الشعوب من غير أن يظهر لها أثر
ولا ينقل عنها خبر في جرائد هذه الممالك ثم تولد في إدارة جريدة طنين في الآستانة!
إذن هي مما يدرك كل ذي حجى أنه تدبير مُلَفَّق. وأن هذا الجنين ليس من نسل
العالم الإسلامي كله بل من نسل متعصبي الطورانية الذين لا يزالون يشتغلون
بتطهير [١] اللغة العثمانية من لغة القرآن العربية، ولا يعسر على هؤلاء أن يجدوا
في الآستانة خمسة وعشرين رجلاً من أوشاب البلاد المختلفة يوقعون اقتراحًا كهذا،
بل لو طلبوا بعده من يوقع لهم اقتراحًا بأنه يجب على مسلمي الأرض كلها أن يتلقوا
أصول دينهم وفروعه بلغة واحدة يقرأ بها القرآن ويدرس بها السنة؛ لأنه أدعى إلى
وحدة التعليم وَحِدَّةِ تأثير الدين، وأن اللغة التركية هي الجديرة بالاختيار لذلك،
لوجدوا من هؤلاء وأمثالهم من يوقع لهم هذا الاقتراح، ولا يبعد أن يكون ممثل
مصر فيهم عمر رضا أفندي مراسل جريدة الأخبار الذي ينكر أن اللغة العربية هي
لغة دين الإسلام [٢] وسيأتي بيان هذه المسألة بعدُ، وأن الاقتراح لا يمكن تنفيذه إلا
بها، وأنه حينئذ يكون من أعظم دعائم الإصلاح الإسلامي الديني والاجتماعي
والسياسي.
(الثاني) : إن كلمة (اللغة التركية) تُطْلَقُ بحق على لغة أهل تركستان وهم
عشرات الملايين، وتطلق تَجَوُّزًا على اللغة العثمانية التي قال إمام أدبائها (نامق
كمال بك) الشهير: إنها مؤلفة من أشهر لغات الشرق وهي العربية والفارسية
والتركية، وهذه اللغة لا يتقنها إلا المتعلمون في مكاتب الدولة العثمانية، وهم
يعدون بالألوف لا بالملايين، وأصحاب العصبية الطورانية منهم غير راضين عنها،
ويجمعون على وجوب إرجاعها إلى اللغة التركية الأصلية، ويقولون: إن فلاحي
الأناضول لا يفهمونها فضلاً عن الترك الخُلَّص في تركستان، وقد جاء صديقنا
السائح الشهير الشيخ سعيد العسل الطرابلسي بكتاب تهنئة بالدستور للدولة العثمانية
من كاشغر فلم يوجد في الباب العالي ولا في غيره من رجال الآستانة من فهم لغته
التركية المحضة، بل احتاجوا إلى ترجمته بمساعدة من جاء به، ولا تزال جمعية
(تورك أوجاغي) تشتغل بتنقيح اللغة العثمانية - لغة الآستانة وأنقرة - لإرجاعها
إلى التركية، على ما يدخل فيها كل حين من الألفاظ الإفرنجية، التي ربما تزيد
على ما يخرج منها من الألفاظ العربية، فهل فكرت في هذا شعوب الشرق والغرب
بل الخمسة والعشرون الذين ادعوا أو ادُّعِيَ أنهم يتكلمون بلسانها؟ فإن كانوا فكروا،
فأي اللغتين أتقنوا، ورأوا الصفات الضرورية متوفرة فيها؟ آلتركية المستعملة
في تركستان التي تجهلها (الدولة الإسلامية الكبرى) التي هي إحدى عِلَّتَيْ الاختيار أم
العثمانية التي هي عرضة للمحو والإثبات؟
(الثالث) : ماذا يريدون بالعلاقات التي بين جميع شعوب المسلمين من
مراكش إلى بكين؟ نحن لا نعرف أن بينهم علاقات مشتركة غير علاقة الدين،
والدين له لغة عامة مشتركة يعرفها علماؤه، وكثير من الطبقات الأخرى في كل
شعب من شعوبهم، وسيأتي الكلام فيها.
أما العلاقة السياسية فإنها تختص بالدول المستقلة منهم، وليس لأحد من
الخمسة والعشرين أصحاب الاقتراح دولة مستقلة إلا الأفغاني، والمصري الذي لَمَّا
يتم استقلال بلاده، والاتفاق على اللغة السياسية المشتركة بين الدول الإسلامية إنما
يتقرر بالمفاوضة فيما بينها لا بمؤتمر يعقد في أنقرة، فالعلاقة السياسية غير مرادة
للخمسة والعشرين.
وأما العلاقات الاقتصادية من تجارية وغيرها فهي غير موجودة إلا بين البلاد
المتجاورة كالبلاد الإفريقية بعضها مع بعض ومع سورية، والبلاد العربية مع البلاد
التركية والإيرانية، والهند مع هذه البلاد كلها، ومن البديهي أن استعمال اللغة
التركية في علاقة مصر بطرابلس الغرب وتونس أو بالحجاز وسورية أو علاقة
الهند بإيران وبلاد العرب ضرب من المُحَال، لا يقترحه إلا من أصيب بضرب من
الخَبَال، فانحصر الأمر في العلاقة الدينية وسيأتي الكلام فيها.
(الرابع) : هل بيَّنَ لنا الخمسة والعشرون كيف يكون اختيار عضوين من
كل مملكة إسلامية لحضور هذا المؤتمر؟ هل يختار رئيس جمهورية الصين الوثني
مندوبي الصين وحاكم الهند الإنكليزي مندوبي الهند، ووالي الجزائر الفرنسي
مندوبي الجزائر، وملك مصر مندوبي مصر، وملك الحجاز مندوبي الحجاز؟ إلخ
أم تختارهم الشعوب؟ إذا كان الشق الأول غير مراد لتوقفه على رضا حكام الممالك
غير الإسلامية والدول المستعمرة للبلاد غير المستقلة على ذلك، وهو متعذر فالشق
الثاني أشد تعذرًا؛ إذ لا يُعْقَل كيف ينتخب ستون مليونًا من مسلمي الصين
وخمسون مليونًا من مسلمي الملاو من يمثلهم في مؤتمر كهذا، فيكون قرار المؤتمر
نافذًا فيهم لوجود اثنين من بلادهم فيه، وإنما يمكن مثل هذا الاختيار في بلاد لها
جمعيات تمثل الجمهور الأكبر كالهند ومصر على ما بين جمعياتهما وأحزابهما من
الخلاف، وكون كبار علماء الدين بمصر لا ينتمون إلى حزب من أحزابها.
(الخامس) : إذا فرضنا إمكان انتخاب هذه الشعوب الإسلامية كلها لأعضاء
يمثلونها لتقرير لغة واحدة تتخاطب بها في العلاقة الدينية المشتركة بينهما، فهل
يقال لهؤلاء المندوبين أو لهذه الشعوب التي تختارها: إنه يجب أن يمضوا القرار
الذي اقترحه الخمسة والعشرون في جريدة طنين؟ أم يدعون للتشاور واختيار اللغة
المشتركة؟ إن أريد الشق الأول فلا حاجة إلى إرسال مندوبين، ولا إلى عقد مؤتمر،
بل يكفي تبليغ هذه الشعوب قرار الخمسة والعشرين، وأنه ليس عليها إلا الإذعان
والخضوع. وإن أريد الشق الثاني فما يُدْرِي هؤلاء الخمسة والعشرين ومن حملوهم
على هذا الاقتراح أن مندوبي مصر والحجاز ونجد واليمن وجاوه وفارس
ومراكش وغيرها يتفقون على تفضيل اللغة التركستانية أو العثمانية على لغة القرآن
وعلى لغاتهم الوطنية؟ وإذا لم يتفقوا فما فائدة هذا المؤتمر؟ ثم إذا أجمعوا أو اتفق
أكثرهم على اختيار اللغة العربية فهل يرضى الشعب التركي بذلك؟
(السادس) إذا غضضنا البصر عن كل ما ذُكِرَ، وفرضنا أن المؤتمر
اجتمع بمثل السهولة التي اجتمع بها الخمسة والعشرون ووافقهم على اقتراحهم فكيف
يكون تنفيذ قراره؟ أيفرض على البلاد العربية الممتدة من المحيط الأطلسي
(الأتلانتيك) إلى خليج فارس والمحيط الهندي وعلى شعوب الملاو في الجنوب
وشعوب الفرس والهند والأفغان والصين في الشرق أن يتعلموا اللغة العثمانية المُلَفَّقَة
القَلِقَة لأجل أن يتلقوا بها تفسير القرآن وشروح الحديث وفقه المذاهب السنية
والشيعية والإباضية من أنقرة بلغة واحدة؟ وإن فرض عليهم هذا وقبلوه بأن مسخ
الله عقولهم وقلوبهم فجعلهم بذلك كالخمسة والعشرين، فمن ذا الذي يعلمهم هذه اللغة؟
أيوجد في الآستانة والأناضول معلمون يكفون لنشر هذه اللغة من أقصى المشرق
إلى أقصى المغرب مستمدين تنقيحها المتصل من جمعية (تورك أوجاغي)
الطورانية؟ إذا فرضنا إمكان كل ما ذكر، فلا تبحث في المال الذي يُنْفَقُ في هذه
السبيل فهو أيسر الأمور بالنسبة إلى تلك العقبات الكأداء التي فرضنا أن الاقتراح قد
اقتحمها قبل ذلك.
(السابع) : قلنا: إن هذا الاقتراح لا تقبله الشعوب الإسلامية إلا إذا مسخت
عقولاً وقلوبًا فأمست لا تميز بين المفاسد والمصالح ولا بين المعقول وغير المعقول
في دنيا ولا دين، وإننا نبين ذلك ببرهاني العقل والدين فنقول:
أما برهان العقل فلا نطرق فيه باب تفضيل اللغة العربية بنفسها على التركية
أو العثمانية، وهو ما لا يختلف فيه اثنان من العارفين، ولا باب تفضيلها بكونها
لغة هذا الدين الذي نريد التخاطب في شأنه؛ بل نقول: إن لغة شطر القارة
الإفريقية الشمالي من الغرب إلى الشرق وشطر آسية الشرقي من البحر الأحمر إلى
خليج فارس هي اللغة العربية، وفي هذه البلاد مهد الإسلام، ومهبط وحيه،
ومهوى أفئدة أهله، وقبلة صلاتهم ومَشْعَر نُسُكِهم، ومثابتهم التي يَؤُمُّهَا مئات
الألوف من جميع شعوبهم على اختلاف أقطارهم في كل عام. وهذه اللغة هي التي
يَتَعَبَّدُ بها جميع هؤلاء المسلمين، ويتلقون دينهم منها في جميع الأقطار، فلا يوجد
بلد يقام فيه الدين إلا ويوجد فيه بعض العلماء الذين يعرفون هذه اللغة. فعلماء
الترك والفرس والأفغان والهند والصين والملاو وغيرهم من الأعاجم يعرفون هذه
اللغة ويتخاطبون بها، ولا يزالون كذلك ما داموا مسلمين، فهل من المعقول -
والحالة هذه - أن يُتْرَك جعلُها اللغة العامة لتعارف المسلمين وتوثيق عُرَى الدين
بينهم ويتكلف إقناعهم باختيار لغة أخرى عليها لا يعرفها إلا عدد قليل وهم
المتعلمون من ترك الرومللي والأناضول وبعض العرب الذين كانوا عثمانيين؟
إن من القواعد المتفق عليها عند علماء المعقول، المعدودة عند المتكلمين من
مقدمات براهين التوحيد: أن الترجيح بغير مُرَجِّح، مُحَالٌ، وأن ترجيح المرجوح
مُحَال بالأولى، وهذه المسألة من القسم الثاني بغير مِرَاءٍ، وكون اللغة التركية لغة
أكبر دولة إسلامية لا يصلح مُرَجِّحًا في هذا المقام. على أنه غير مُسَلَّم، فإن دولة
مصر أكبر من دولة أنقرة وأعلم بالدين وأقدر على نشره.
وأما برهان الدين فقد عُلِمَ بالإجمال مما قبله، وهو أن العربية هي لغة الدين
الإسلامي لا يمكن العلم الصحيح به ولا العمل الصحيح بإقامة أعظم عباداته إلا بها،
فيتعين أن تكون هي اللغة الوحيدة للتعاون بين الشعوب الإسلامية على إحياء
هدايته ونشر تعاليمه وبث عقائده وأحكامه، وإننا نزيد على ذلك أن تعلمها فرض
شرعي على جميع هذه الشعوب، وأن الاستغناء عنها بغيرها يُفْضِي إلى إضاعة
الإسلام، وهو ما نبينه في الفصل التالي.
***
(٢)
العربية لغة الإسلام الواجبة على جميع المسلمين:
للإسلام لغة ذكرها الله في كتابه المجيد (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وأجمع عليها علماء المسلمين سلفًا وخلفًا،
علمًا وعملاً، ولم يفتح المسلمون العارفون حقيقة الإسلام بلدًا إلا ونشروها فيه كما
نشروا الدين، بل بنشر الدين، بل ما نشروا الدين إلا بها؛ إذ لا مظهر له سواها،
ثم هضم الأعاجم حقها بالجهل، ثم بالعصبية الجاهلية العمية، فقصر خلفهم عما
اجتهد فيه سلف الأمة الإسلامية الصالح منهم ومن غيرهم، ولكن لم يبلغ الجهل ولا
العصبية من أحد منهم أن يقول بمثل قول الخمسة والعشرين الذين اقترحوا في هذه
الأيام أن يجعل للإسلام لغة سواها، وإنما اقترحوا لغة مُلَفَّقَة من عدة لغات لا توجد
داعية دينية ولا دنيوية لشعب إسلامي إلى تعلمها؛ إذ ليست لغة دين ولا شرع ولا
علم ولا تجارة ولا صناعة ولا سياسة مشتركة بين هذه الشعوب حتى إن أهلها
يريدون تغييرها على ما لا ينكر من المحاسن فيها.
ولو أنهم اقترحوا تنظيم جعل لغة الإسلام التي نزل بها كتابه من عند الله
تعالى لغة التعارف والتعليم الديني بإقناع الشعوب الإسلامية الأعجمية بإتقانها
وتقرير الدروس الدينية للمتبدئين كالمنتهين بها بدلاً من الترجمة التي جروا عليها
في القرون الأخيرة - لحمد الله اقتراحهم ورسوله والمؤمنون، وعدُّوهم من دعاة
الإصلاح المخلصين؛ لأن تعليم التفسير والحديث والعقائد والفقه بترجمة كتبها
العربية باللغات المختلفة كما هو الشائع الآن في بلاد الأعاجم - عائق عن التحصيل،
وشر منه قراءة الكتب المترجمة؛ ولذلك قل العلماء المحصلون في بلاد الأعاجم
بالنسبة إلى أهل العصور الأولى الذين كانوا يتدارسون العربية ويتقنون متنها
وفنونها ويدرسون علوم الدين بها، وما وجد ولا يوجد عالم أعجمي يوثق بعلمه في
الدين إلا ممن حذقوا هذه اللغة وأتقنوها.
ولو فهم خَلَفُ الشعوب الأعجمية الإسلام كما فهمه سلفهم الصالح لآثروا لغته
وفضلوها واقتصروا عليها، ولم يبالوا بترك لغاتهم ألبتة؛ لتحقيق الوحدة الإسلامية
من جميع وجوهها، وأعني بسلفهم مثل البخاري من أهل الحديث وأبي حنيفة من
الفقهاء وسيبويه والزمخشري من أهل اللغة وفنونها.
ذلك بأن تعارف البشر وتآخيهم وتوادهم واتحادهم إنما يكون بكثرة ما
يشتركون فيه من المقومات والمشخصات العامة، وأهمها الدين وعقائده وعباداته
وآدابه، والشرع العادل الذي يساوي بينهم في السياسة والقضاء ويكونون به أمة
حاكمة واللغة التي يتخاطبون بها، ويفضي كل منهم للآخر بما في نفسه، وهي
مظهر علومهم وآدابهم، ودون هذه الثلاثة عرق النسب، وجوار الوطن.
ولما كان الإسلام دينًا إصلاحيًّا عامًّا لجميع البشر كان من أصوله دعوة الأمم
كلها إلى التوحيد في الدين والشرع واللغة التي هي أعظم مقومات الأمم النفسية
والسياسية والاجتماعية، لتكون الأمة الإسلامية بهم متحدة لا يفصل بين اتحادها ولا
جامعاتها هذه شيء من اختلاف الأنساب والأوطان؛ ولذلك حرَّم عصبية النسب
وغيرها تحريمًا غليظًا حتى أخرج النبي صلى الله عليه وسلم أهلها من جماعة
الإسلام بمثل قوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على
عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم رضى الله عنه، وثَم أحاديث
أخرى في الصحاح والسنن ذكرنا بعضها في كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) .
ذلك بأن عصبية الجِنْسِيَّة أمضى مُدْيَة تقطع رابطة الدين، وتفسد أخوة
الإيمان بين المؤمنين. وقد كانت شرًّا على المسلمين من اختلاف المذاهب،
ولولاها لعم الإسلام المشارق والمغارب، وهي التي أفسدت بين العرب والفرس من
قبل، وهي التي أفسدت بينهم وبين الترك من بعد، وإننا لنجاهد منذ سنين في
تلافي شرها، وهو جُلُّ غرضنا من كتابة مباحث الخلافة التي بينا فيها أن اللغة
العربية قد جعلها الإسلام لغة جميع المسلمين لا لغة أبناء يعرب بن قحطان وحدهم،
وأن الإمام الخليل بن أحمد العربي الواضع لأول معجم لها ليس أولى بها من تلميذه
سيبويه الفارسي، وأن الإمام البخاري الأعجمي النسب قد امتاز في خدمة السنة من
بعض الوجوه على أستاذيه الإمامين أحمد وإسحاق بن راهويه العربيين، كما أن
الإمام النعمان قد قدم في فقه القياس على الأئمة الأعلام من العرب وغيرهم، وقد
قلد الخلفاء العباسيون بعض تلاميذ أبي حنيفة رياسة القضاء في دار خلافتهم، وما
كان المسلمون يفرقون في عهد الدول العربية بين عربي وعجمي في إمامة العلوم
الشرعية ولا غيرها، وكان مذهب الشافعي القرشي منتشرًا في بلاد الفرس، كما
كان مذهب أبي حنيفة الفارسي منتشرًا في العراق العربي، ولا يزال العدد الكثير
من أشراف العرب ودهمائهم على مذهب أبي حنيفة، ولكن الشعوب الأعجمية
الإسلامية المنسوبة إلى السنة اقتصروا على مذهب أبي حنفية بعد ذلك إلا أهل
جاوه وما جاورها (ورضي الله عن الجميع) .
هذا وإن اللغة من أعظم أسباب الوحدة، والاختلاف فيها من أعظم أسباب
الشقاق والفُرْقَة، ولما كان الإسلام دين التوحيد دينًا عامًّا لجميع البشر، وكان من
مقاصده أن يؤلف بينهم ويجعلهم بنعمة الله إخوانًا، فرَض عليهم توحيد اللغة، كما
فرض عليهم توحيد الألوهية والربوبية، وتوحيد الشريعة والآداب النفسية
والاجتماعية، فخرجت هذه اللغة بشرع الله تعالى عن أن تكون لغة شعب واحد
منهم، ولولا ذلك لم تؤثرها جميع الشعوب الإسلامية على لغاتها حتى عم انتشارها
المشرق والمغرب مع الإسلام أيام كان الإسلام إسلامًا، ونحمد الله تعالى أن وجد في
عدة شعوب إسلامية من يفكر اليوم في عظم شأن وحدة اللغة بين المسلمين ويسعى
لها سعيها، وإن أخطأ بعضهم في وضعها في غير موضعها، فإذا انتشر الشعور
بهذا النوع من الوحدة بين أهل التوحيد فإنهم يرجعون فيها إلى أصل دينهم وقاعدة
شرعهم، وقد نوهنا بهذه المسألة في كتاب (الخلافة) ولا يتهم من يدعو إلى اللسان
العربي بالتعصب للنسب العربي إلا من يجهل هذه الحقيقة الواضحة، كما فعل
بعض من كتب في مجلة الجامعة الهندية.
وقد مست الحاجة الآن إلى بيان الأدلة الشرعية على كون اللغة العربية
مفروضة على المسلمين فرضًا دينيًّا؛ لأننا على علمنا بجهل كثير من المسلمين أو
غفلتهم عن هذه المسألة قد وجدنا فيهم من أنكرها إنكارًا شديدًا كعمر رضا أفندي
مراسل الأخبار في الآستانة.
وهاؤم اقرءوا ما كتبه إمام من أعظم أئمة المسلمين وهو الإمام الشافعي رضي
الله عنه فيها فقد صرَّح بهذا وأقام الأدلة عليه في رسالته التي هي أول كتاب وضع
في أصول الفقه قال [٢] :
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُرْسَلُونَ
إلى قومهم خاصة، وإن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة. (قيل)
فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة ويكون على الناس كافة أن يتعلموا
لسانه، أو ما أطاقوه منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم [٣] فإن قال قائل: فهل من
دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بَيِّنَةٌ من كتاب الله عز وجل
في غير موضع، فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا بد
أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع،
وأولى الناس بالفضل في اللسان مَن لسانُه لسانُ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا
يجوز - والله تعالى أعلم- أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في
حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد
بيَّن الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ
العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٢-١٩٥) وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد:
٣٧) وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: ٧) وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ} (الزخرف: ١-٣) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية
ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل وعز كل لسان غير لسان العرب في آيتين
من كتابه فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: ١٠٣) وقال: {وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: ٤٤) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى: وعرّفنا قدر نعمه، بما خصنا به من مكانة
فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ.....} (التوبة: ١٢٨)
الآية، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (الجمعة: ٢) الآية.
وكان مما عرَّف الله تعالى نبيه عليه السلام من إنعامه عليه أن قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف: ٤٤) فخصَّ قومه بالذكر معه بكتابه، وقال: {وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: ٢١٤) وقال: {لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: ٩٢) وأم القرى مكة وهي بلده وبلد قومه فجعلهم في كتابه خاصة،
وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم
خاصة.
فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى
وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير
ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به
آخر كتبه، كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما
أمر بإتيانه ويتوجه لما وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افتُرِضَ عليه ونُدِبَ إليه لا متبوعًا.
قال الشافعي رحمة الله: وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب
دون غيرهم؛ لأنه لا يعلم من إيضاح مجمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب
وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرُّقها، ومن علمها انتفت عنه الشبه التي دخلت
على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة
نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو إدراك نافلة خير لا
يدعها إلا مَن سفه نفسه وتَرَكَ موضع حظه، فكان يجمع مع النصيحة لهم قيامًا
بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعة لله، وطاعة الله جامعة
للخير. انتهى.
هذا ما قاله الإمام الشافعي في رسالة الأصول الشهيرة المطبوعة بمصر
بنصها، ولا تحسبن أن هذا مذهب له، خالفه فيه غيره من أئمة المسلمين، كلا إنه
إجماع لا اختلاف فيه، وقد اشتهرت رسالته هذه في جميع أقطار الإسلام؛ إذ كانت
هي أول ما كتب في أصول الفقه، وقد خالفه بعض المجتهدين في بعض مسائل
الأصول دون هذه المسألة فلم يخالفه ولم يناقشه أحد فيها، ولا فيما أورده من الأدلة
عليها. وأوضح الأدلة على هذا إجماع المسلمين سلفًا وخلفًا على التعبد بتلاوة القرآن
العربي وأذكار الصلاة والحج وغيرهما بالعربية، لم يشذ عن هذا سني ولا شيعي ولا
إباضي ولا معتزلي ... نعم إن الخلف قد قصروا في دراسة هذه اللغة فعطلوا بذلك
بعض ما أمرهم الله تعالى به من تدبر القرآن والعبرة والاتعاظ بآياته وفهم عقائده وفقه
أحكامه، ولكن روي قول شاذ عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بجواز أداء بعض
أذكار الصلاة بغير العربية لمن تعذر عليه تعلم ما يجب منها، وقد نقل عنه أيضًا أنه
رجع عن هذا القول، على أنه مقيَّد بالضرورة الشخصية، ولم يقل هو ولا غيره
بإطلاق ذلك وأنه يسع أي شعب أعجمي أن يستغني في دينه عن لغة كتابه وسنته،
والدليل على هذا أن جميع مقلديه من الأعاجم لا يزالون يقرءون القرآن وأذكار الصلاة
والحج وغيرها بالعربية وكذلك خطبة صلاة الجمعة والعيدين إلا ما شذت به الحكومة
الكمالية التركية في العام الماضي فأمرت الخطباء بأن يخطبوا بالتركية.
وليست عبادات الإسلام وحدها هي التي تتوقف على العربية بل أحكام
المعاملات تتوقف عليها أيضًا؛ فإن أحكام الشريعة بجميع أنواعها حتى المدنية
والسياسية متوقفة على الاجتهاد المعبر عنه في عرف هذا العصر بالتشريع، وقد
أجمع علماء الأصول من جميع المذاهب الإسلامية على توقف الاجتهاد في الشرع
واستنباط الأحكام على معرفة اللغة العربية معرفة تُمَكِّنُ صاحبها من فهم أحكام
القرآن والسنة، وقد وضَّحْنا هذه المسألة وبيَّنا وجه الحاجة إليها في هذا العصر في
كتاب (الخلافة) فيراجع فيه.
وجملة القول أن إقامة دين الإسلام متوقفة على لغة كتابه المُنَزَّل، وسنة نبيه
المرسل، سواء في ذلك هدايته الروحية، ورابطته الاجتماعية، وحكومته العادلة
المدنية، وأن المسلمين لم يكونوا في عصر من العصور أحوج إلى الوحدة المفروضة
عليهم المتوقفة على هذه اللغة منهم في هذا العصر الذي تمزقوا فيه كل مُمَزَّق فأصبحوا
أكلة لمنهومي الاستعمار ومستعبدي الأمم والشعوب، وصدق فيهم قول النبي صلى
الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها....)
الحديث.
سيقول بعض الجاهلين لحقيقة الإسلام وكونه دينًا روحانيًّا مدنيًّا سياسيًّا،
وبعض أولي العصبية الجنسية الجاهلية: إن مقتضى ما ذكرت أنه لا يمكن إقامة
دين الإسلام كما يجب إلا باللغة العربية؛ فلماذا لا يجوز على شعوب المسلمين ما
جاز على شعوب النصارى مثلاً من ترجمة كتبهم المقدسة بلغاتهم المختلفة مع بقائهم
على دين النصرانية وملة المسيح عليه السلام؟
ونقول أولاً: إن المسألة عندنا مسألة نقل واتباع لا مسألة رأي، وقد علمتَ أن
أئمتنا مجمعون على ما ذكرنا (وثانيًا) إننا نحن المسلمين لا نعتقد أن النصارى
على ملة المسيح عليه السلام، ولا يصح أن نزيد على ذكر اعتقادنا هذا في صحيفة
عمومية. (وثالثًا) إن ترجمة القرآن المُعْجِز للبشر ترجمة تؤدي معانيه تأدية تامة
كما أنزلها الله تعالى ويبقى بها مُعْجِزًا وآية - متعذرة، وقد بيَّنا هذا بالإيضاح في
مجلتنا (المنار) ولا محل له هنا، وسنبين نموذجًا من تخبط الأعاجم في مسألة
الخلافة في نقد الرسالة التركية التي ألفت فيها باسم (خلافت وحاكميت ملية) مع
أن مؤلفيها يعرفون العربية معرفةً ما، ليُتَّخَذَ هذا نموذجًا لصفة إضاعة الدين بعدم
استمداده من لغته (ورابعًا) إذا فرضنا أن ترجمة الكتاب والسنة لا تُخِلُّ بِفََهْمِ
أصول الدين وفروعه وتشريعه، أفلا تُخِلُّ بما هو موضوع هذا المقال من وجوب
وحدتهم وتعارفهم وتعاونهم، وتوقف ذلك على لغة واحدة إذا لم تكن لغة جميع أفراد
شعوبهم فلتكن مما يتقنه طوائف رجال الدين ودعاة الوحدة والاتفاق منهم؟ بلى بلى.
حسبنا هذا البيان الوجيز للمسألة، ولا شك عندنا في أن كل من يؤمن بالله
تعالى وبما جاء به خاتم رسله إلى جميع خلقه محمد النبي العربي عليه أفضل
الصلاة والسلام، يتقبله بالرضاء والإذعان، وأنه لا يماري فيه ويتبرم به إلا
المنافقون الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، فنقترح على الجرائد التركية والفارسية
والأفغانية ترجمته ونشره، والدعوة إلى إحياء اللغة العربية الدينية في شعوبهم،
وحثِّهم على تعلمها بقدر الاستطاعة، وتنظيم التعارف بها، وكأني بالخمسة
والعشرين وقد رجعوا عن اقتراحهم الأول إلى ما هو الأحسن بل الممكن بل الواجب:
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ
وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) .