لدجاجلة البطائحية الرفاعية كتبها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية -نفسه رضي الله عنه (٢)
قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية فبلغه أنَّا في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم، فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من البهتان. وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم. قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس، وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا، وهو نائب السلطنة بحماه، يخبره بصورة ما جرى. وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره. قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه، وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر، وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل. وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك. وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: ١٩) . فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك، وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه. فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح، والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة (فقلت) أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} (غافر: ٣) هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: ٤٩-٥٠) فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، (فقلت) لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال: (كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل الله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: ٥١) فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: ٤٨) ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما علينا من عباد بني إسرائيل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: ١٣٤) هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء، ونحن قوم شافعية (فقلت) له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بعُد عهدي به. فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف [١] عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا (فقلت) له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه. (فقال) ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها (فقلت) ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها:أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت (فقلت) : فقم، وأخذت أحرز [٢] عليه في القيام إلى ذلك، فمد يده يظهر خلع القميص (فقلت) : لا حتى تغتسل في الماء الحار والخل، فأظهر الوهم على عادتهم (فقال) : من كان يحب الأمير فليحضر خشبًا أو قال: حزمة حطب، (فقلت) هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد، وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فعليه لعنة الله، أو قلت: فهو مغلوب، فلما قلت ذلك، تغير وذل وذكر لي أن وجهه أصفرَّ. ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة، ولو طرتم في الهواء، ومشيتم على الماء، ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدَّعونه من مخالفة الشرع، ولا على إبطال الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري، فتُمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرُج كنوزها تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم فيقوم [٣] ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله، ورفعت صوتي بذلك، فكان لذلك وقع عظيم في القلوب. وذكرت قول أبي يزيد البسطامي: لو رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي، وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال للشافعي: أتدري ما قال صاحبنا يعني: الليث بن سعد؟ قال: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به، فقال الشافعي: لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير في الهواء فلا تغتر به، وتكلمت في هذا ونحوه بكلام بعد عهدي به، ومشايخهم الكبار يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلت ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة وهم لا يجيبون، وقد اجتمع عامة مشايخهم الذين في البلد والفقراء المولهون منهم، وهم عدد كثير والناس يضجون في الميدان، ويتكلمون بأشياء لا أضبطها. فذكر بعض الحاضرين أن الناس قالوا ما مضمونه: {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: ١١٨-١١٩) ، وذكروا أيضًا أن هذا الشيخ يسمى عبد الله الكذاب، وأنه الذي قصدك مرة فأعطيته ثلاثين درهمًا، فقلت: ظهر لي حين أخذ الدراهم، وذهب أنه ملبس، وكان قد حكى حكاية عن نفسه مضمونها أنه أدخل النار في لحيته قدام صاحب حماه، ولما فارقني وقع في قلبي أن لحيته مدهونة، وأنه دخل الروم واستحوذ عليهم. فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم وتلبيسهم، وتبين للأمراء الذين كانوا يشدون منهم أنهم مبطلون، فرجعوا وتخاطب الحاج بهادر ونائب السلطان وغيرهما بصورة الحال، وعرفوا حقيقة المحال، وقمنا إلى داخل ودخلنا، وقد طلبوا التوبة عما مضى، وسألني الأمير عما يطلب منهم، فقلت: متابعة الكتاب والسنة مثل أن يعتقد [٤] أنه لا يجب عليه اتباعهما أو أنه يسوغ لأحد الخروج من حكمهما ونحو ذلك، أو أنه يجوز اتباع طريقة تخالف بعض حكمهما ونحو ذلك من وجوه الخروج عن الكتاب والسنة التي توجب الكفر، وقد توجب القتل دون الكفر، وقد توجب قتال الطائفة الممتنعة دون قتل الواحد المقدور عليه. (فقالوا) : نحن ملتزمون بالكتاب والسنة أتنكر علينا غير الأطواق؟ نحن نخلعها (فقلت) : الأطواق وغير الأطواق ليس المقصود شيئًا معينًا، وإنما المقصود أن يكون جميع المسلمين تحت طاعة الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال الأمير: فأي شيء الذي يلزمهم من الكتاب والسنة؟ فقلت: حكم الكتاب والسنة كثير لا يمكن ذكره في هذا المجلس، لكن المقصود أن يلتزموا هذا التزامًا عامًّا، ومن خرج عنه ضربت عنقه - وكرر ذلك وأشار بيده إلى ناحية الميدان - وكان المقصود أن يكون هذا حكمًا عامًّا في حق جميع الناس، فإن هذا مشهد عام مشهور، وقد توفرت الهمم عليه، فيتقرر عند المقاتلة وأهل الديوان والعلماء والعباد وهؤلاء وولاة الأمور، أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. (قلت) : ومن ذلك الصلوات الخمس في مواقيتها كما أمر الله ورسوله، فإن من هؤلاء من لا يصلي ومنهم من يتكلم في صلاته؛ حتى إنهم بالأمس بعد أن اشتكوا علي في عصر الجمعة، جعل أحدهم يقول في صلب الصلاة: يا سيدي أحمد شيء لله، وهذا مع أنه مبطل للصلاة فهو شرك بالله، ودعاء لغيره في حال مناجاته التي أمرنا أن نقول فيها: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) وهذا قد فُعل بالأمس بحضرة شيخهم، فأمر قائل ذلك لما أنكر عليه المسلمون بالاستغفار على عادتهم في صغير الذنوب، ولم يأمره بإعادة الصلاة، وكذلك يصيحون في الصلاة صياحًا عظيمًا، وهذا منكر يبطل الصلاة. (فقال) : هذا يغلب على أحدهم كما يغلب العطاس (فقلت) : العطاس من الله، والله يحب العطاس ويكره التثاؤب، ولا يملك أحدهم دفعه، وأما هذا الصياح فهو من الشيطان، وهو باختيارهم وتكلفهم ويقدرون على دفعه، ولقد حدثني بعض الخبيرين بهم بعد المجلس أنهم يفعلون في الصلاة ما لا تفعله اليهود والنصارى، مثل قول أحدهم: أنا على بطن امرأة الإمام، وقول الآخر: كذا وكذا من الإمام ونحو ذلك من الأقوال الخبيثة، وأنهم إذا أنكر عليهم المنكِر تركَ الصلاة يصلون بالتوبة، وأنا أعلم أنهم متولين [٥] شياطين وليسوا مغلوبين على ذلك كما يُغلب الرجل في بعض الأوقات على صيحة أو بكاء في الصلاة أو غيرها. فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم (قلت) له: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ (فقال) : هذا من الله حال يَرِد عليهم (فقلت) : هذا من الشيطان الرجيم، لم يأمر الله به ولا رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا أحبه الله ولا رسوله (فقال) : ما في السماوات والأرض حركة ولا كذا ولا كذا إلا بمشيئته وإرادته، (فقلت) له: هذا من باب القضاء والقدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق وعصيان هو بمشيئته وإرادته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زينه الشيطان وسخطه الرحمن. (فقال) : فبأي شيء تبطل هذه الأحوال؟ (فقلت) : بهذه السياط الشرعية، فأعجب الأمير وضحك، وقال: أي والله بالسياط الشرعية، تبطل هذه الأحوال الشيطانية، كما قد جرى مثل ذلك لغير واحد، ومن لم يجب إلى الدين بالسياط الشرعية فبالسيوف المحمدية، وأمسكت سيف الأمير وقلت: هذا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلامه، وهذا السيف سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن خرج عن كتاب الله وسنة رسوله ضربناه بسيف الله، وأعاد الأمير هذا الكلام وأخذ بعضهم يقول: فاليهود والنصارى يُقَرُّونَ ولا نُقَرُّ نحن؟ (فقلت) : اليهود والنصارى يقرون بالجزية على دينهم المكتوم في دورهم، والمبتدع لا يقر على بدعته، فأُفحموا لذلك. وحقيقة الأمر أن من أظهر منكرًا في دار الإسلام لم يُقَر على ذلك، فمن دعا إلى بدعة وأظهرها لم يقر ولا يقر من أظهر الفجور، وكذلك أهل الذمة لا يقرون على إظهار منكرات دينهم، ومن سواهم، فإن كان مسلمًا أخذ بواجبات الإسلام وترك محرماته، وإن لم يكن مسلمًا ولا ذميًّا فهو إما مرتد وإما مشرك، وإما زنديق ظاهر الزندقة، وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها [٦] ، وكل بدعة ضلالة) وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وفي رواية [٧] (وكل ضلالة في النار) (فقال) لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثًا في ذم الزنا (فقلت) : هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والزنا معصية والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها، وكان قد (قال) بعضهم: نحن نتوِّب الناس (فقلت) : مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق والسرقة ونحو ذلك، (فقلت) : حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم، فإنهم كانوا فساقًا يعتقدون تحريم ما هم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله، ونثبت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي. (قلت) مخاطبًا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً كان يدعى حمارًا، وكان يشرب الخمر، وكان يُضحك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان كلما أتي به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جلده الحد، فلعنه رجل مرة وقال: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) (قلت) : فهذا رجل كثير الشرب للخمر ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله، شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، ونهى عن لعنه. وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما - دخل حديث بعضهم في بعض - أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم فجاءه رجل ناتئ الجبين كث اللحية محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية (لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل) وفي رواية (شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه) قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم وما هم عليه من العبادة والزهادة أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء، فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعًا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر. أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعني أتباع أحمد بن الرفاعي - فقلت منكرًا بكلام غليظ: ويحك أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعزبار والرزجنة [٨] ، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله، (فقال) : يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، (فقلت) : مثل ما أحرقني الرافضة لما قصدت الصعود إليهم، وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرًّا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسَّره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - فإن فيهم من الغلو والشرك والمروق عن الشريعة ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك أو يساوونهم أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم، وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} (هود: ٥٥) . ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة أخذوا يطلبون مني كتبًا صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. هذا آخر ما جرى مع البطائحية لشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام، الشيخ تقي الدين أحمد الشهير بابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه ورضي عنه (انتهى عن الأصل البغدادي كسابقه)