للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الدعوة حياة الأديان

انتشار الأديان والمذاهب وثباتها وعدمها. موقع الدين من النفوس وأثره.
غيرة المسلمين على دينهم. انتشار المسيحية في أفريقيا والسودان. الحيرة والجهل
في المسلمين. انتشار الأديان. زعم بعضهم أن سببه القوة الحاكمة ورده. قول
الآخرين إن السبب كونها حقًّا ورده. بيان السبب الحقيقي. الإسلام انتشر بالدعوة
لا بالسيف. شأن الدعوة العظيم. المرتدون من الصنف الملقب بالإسلام. إهمال
العلماء.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: ٣٣) , {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: ١٠٨) .
قام في العالم الإنساني أديان كثيرة ثبت بعضها وانتشر وانقرض البعض
الآخر , ووجد في هذه الأديان مذاهب متعددة كان شأنها شأن الأديان نفسها في الثبات
والانتشار والعفاء والاضمحلال. ومن الناس من يلتفت إلى هذا الأمر العظيم ولا
يبحث في سببه ومنهم من يحكم فيه بغير هدى ولا عقل منير على أن البحث فيه
بحث في حياة الأديان ومماتها وبقاء المذاهب وفنائها، وللدين في نفوس البشر أعلى
المنازل وموقعه منها أشرف المواقع فلا يرون مفخرًا أسمى من سعة انتشار دينهم
وكثرة سواد متبعيه وعزة أهله وقوة بنيه ولا يرون ذلة أشد إيلامًا ولا مهانة أوجع
سهامًا من تقلص ظلال دينهم ومروق متبعيه منه أو وقوع الحيف والظلم فيهم
وضرب الذلة والمسكنة عليهم. وقوة هذه الوجدانات المؤلمة أو الملائمة وضعفها
يتبعان قوة التمكن في الدين والثقة به والاعتقاد بوجوب تعميمه وشيئًا آخر هو من
الاعتبار بمكان وهو تاريخ الدين وما يقصه على أبنائه من مجد سلفهم السابق
واستعلائهم بدينهم على من سواهم وما نالوا به من سيادة وسلطان. وكل هذه
الشروط متوفرة في المسلمين ولا تكاد توجد كلها أو أكثرها فيمن عداهم ولذلك نراهم
على خذلانهم لدينهم في هذه الأزمنة وتنكبهم طريقه وانحرافهم عن صراطه يتنفسون
الصعداء ويتململون من الألم إذا سمعوا بأن زنجيًّا في أحشاء أفريقيا أو مغوليًّا في
أطراف الصين انتسب بعد الإسلام إلى دين آخر أو استبدل اسمًا من أسماء العلوج
باسم محمد أو أحمد وإن كانوا يعلمون أنه من المسلمين الجغرافيين الذين ليس لهم
من الإسلام إلا الأسماء والألقاب ولكنهم على هذا كله لا يبحثون عن الأسباب
الحقيقية لطي الأديان ونشرها فيستعدوا لاستكمال السبب والعمل به ليمتنع الطي
ويثبت النشر ويزداد امتدادًا.
نشر المؤيد من أيام مقالة عنوانها (الإسلام والمسيحية. في البلاد السودانية)
للرحالة ابن حام مكاتبه الشهير ذكر فيها انتشار النصرانية في أفريقيا بهمة المبعوثين
المسيحيين قائلاً: إن أهالي مستعمرة السنيغال الفرنساوية صاروا كاثوليكًا غالبًا
وأهالي مستعمرة الكونغو البلجيكية كذلك وسكان بلاد أوجندة الإنكليزية صاروا
بروتستانًا , ثم ذكر أنه جاء أم درمان من خمسة أشهر ثلاث حملات عسكرية من
الجنوب الأولى الإنكليزية والثانية فرنساوية والثالثة بلجيكية. رجال هذه الحملات
أفريقيون وضباطهم أوربيون وكلهم مسيحيون وذكر الرحالة أنه رأى في زنوج
أوجنده من يعرف العربية وبعد سؤاله عن اسمه ودينه علم أنه كان مسلمًا تنصر
لكثرة جدال المبعوثين له وعدم وجود عالم يزيل شبههم ولكثرة مواساتهم له
ومعالجتهم إياه في مرض ألم به. ثم ذكر أن في أم درمان الآن ثلاث بعثات مسيحية
أميركانية بروتسنتية ونمساوية كاثوليكية وقبطية أرثوذكسية ولكل بعثة مدرسة
وكنيسة وليس للمسلمين والبلاد بلادهم مدرسة يُعلَّم فيها الإسلام طفل مسلم ولكل
بعثة من هذه البعثات شعبة في جنوبي فشودة توزع الإنجيل (الذي نقلوه إلى لغة
البرابرة حديثًا) وتدعو إلى النصرانية وأكثر دعاتها من أقباط مصر يخدعون
الزنوج ويختلبونهم بقولهم: إن الترك (اسم يشمل المصريين عندهم) كلهم
مسيحيون.. وأكَّد الرحالة هذا بأنه بلغه أن ملك الزنوج في جهات (دارفونج)
اعتنق النصرانية على أنها دين الحكومة الخديوية والدولة العلية ويتوقع أن يصير
أتباعه كلهم بروتستنتًا لأن العبيد على دين ملوكهم كما يقال. وقد رمى الرحالة
الفاضل علماء الأزهر بالتقصير كغيرهم في خدمة الدين والدعوة إليه ورمى الجرائد
الإسلامية بالغش فيما تنشره من ذكر قوة الإسلام وامتداده وانتشاره بنفسه تفريحًا
للناس وإنماءً لكسلهم وتماديهم في الخذلان كما رمى الجمعيات الإسلامية بالتقصير
في عدم التصدي لبعث البعوث للإرشاد وحفظ الإسلام على المسلمين وله الحق في
كل ما قال. نعترف له بالحق لأنه الحق لا لأننا نرجو أن لا تصيب سهامه المنار
الذي يكاد يكون كله إنذارًا للمسلمين بسوء مغبة ما هم فيه من الغرور وبيانًا لتقصير
العلماء في خدمة الدين بما يقتضيه حال العصر وإلحاحًا عليهم بوجوب الإصلاح
العلمي والديني ولم يثننا عن هذا عدم استعذاب كثير من الناس لهذا المشرب لما فيه
من مرارة الحق لرجائنا أن الزمان سيوضح لهم أنه الحق الذي لا محيص عنه وقد
رأينا بوادر هذا فقوي الرجاء بل صار يقينًا.
نشرت مقالة الرحالة فكان لها تأثير عظيم في نفوس المسلمين وألم سرى في
أرواحهم سريان الاعتقاد في مداركهم ولكنه ألم كسائر آلامهم في طورهم هذا لا يزيد
على حزن العجائز وتوجع الزمنى لا يجيء بسعي ولا يبعث على عمل إلا أن تكون
حضانة الحركة الفكرية الإسلامية الحاضرة قد أتمت تربية نفوس نفر من المسلمين
من حيث لا ندري فيندفع بعضهم إلى السعي في رتق الفتق في السودان ومداواة
العلة قبل استحكامها. والذي نعرفه هو ما أثبتناه قبلاً من طفولية الأمة وما فيها من
الحيرة والغمة بحيث لا تدري كيف يمكن تلافي هذا الأمر ومن كان على علم بشيء
من ذلك فإنما علمه رسوم تلوح في الخيال لا أثر لها في الروح والوجدان فتبعث
على العمل وهي أيضًا إجمالية غامضة لا تكفي في هداية من يريد العمل اللهم إلا
أفرادًا لا يصلون إلى منتهى جمع القلة يجب أن يصرف وقت الواحد منهم في تربية
بعض العلماء والفضلاء ليكونوا من المصلحين لا تعليم الزنوج مبادىء الدين. على
أنه لا يهدي العامل كالصدق والإخلاص إذا تكيفت بهما الروح وانفعل بهما الوجدان
انفعالاً. ولله در من قال:
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل

هذا ضرب من الاستشهاد أطلنا به الاستطراد لأن الذي حرك النفس للكتابة
في هذا الموضوع إنما هو كلام الرحالة فلنعد إلى البحث في السبب عن انتشار
الأديان والمذاهب فنقول: يذهب الأكثرون إلى أن القوة الحاكمة هي السبب الوحيد
في ذلك كما أنها السبب في كل إصلاح وإفساد فما شاءت الحكومة كان وما لم تشأ لم
يكن , وقد بارز (المنار) هذا الرأي بالحرب منذ إنشائه وهيهات أن يقتنع بالكتابة
إلا الأقلون على أننا لا ننكر أن القوة الحاكمة تستطيع تأييد السبب الحقيقي وتعزيزه
كما تستطيع خذله وتهديد القائمين به لكي يهنوا ويضعفوا ولكنها ليست هي عين
السبب وإذا هو وجد فلا تستطيع إعدامه وربما كان عملها على طيّه من علل
الانتشار وضغطها على أهله من أسباب الانفجار وما وجد دين ولا مذهب لم تقاومه
القوة وتواثبه الحكومة وقد انتصرت تلك المذاهب والأديان. وخذل من ناوأها من
حاكم وسلطان.
ويقول آخرون: إن العلة الحقيقية في امتداد الأديان وانتشارها هو كونها حقًّا
في ذاتها وعندما يرمى هذا القول على إطلاقه يسهل التسليم به ولا سيما على المسلم
البصير الذي يعلم أن دينه الإسلام ما قام وانتشر بالسيف كما يزعمون وإنما انتشر
بكونه حقًّا صارع الأباطيل فصرعها بالبرهان وظهور انطباقه على مصالح الإنسان
وإذا سئل هذا المسلم عن علة انتشار سائر الأديان يصعب عليه أن يجيب جوابًا فيه
مقنع لنفسه وللسائل لأنه إذا قال: (إن اليهودية والنصرانية إنما انتشرتا بالحق ثم
طرأ عليهما الباطل فظلتا سائرتين بحركة الاستمرار) يقال له: وما تقول في الديانة
الوثنية التي هي أعم الأديان انتشارًا؟ لا جرم أنه يحار في الجواب. ومن أهل
الإسلام طائفة قامت بمذهب بل دين جديد وهو آخذ بالانتشار حتى إن في مجاوري
الأزهر من يدين به ويدعو إليه يحاول هؤلاء أن يثبتوا أن انتشار الأديان والمذاهب
هو الدليل على حقيتها وهؤلاء يدعون أن أصول الديانات الوثنية. كديانة بوذه ,
وبرهما , وزرادشت صحيحة وسماوية أيضًا ليسلموا من هذا الإيراد (هكذا بلغني
عنهم) ولعلهم إذا سئلوا عن السبب في نجاح مذهب البروتستنت وانتشاره مثلاً
يقولون: إنه لم يخرج عن قاعدتنا فإن هذا المذهب إنما دعا إلى ترك التقاليد والبدع
التي طرأت على النصرانية والقرب بها من أصلها الحق , ولكن إثبات حقية الديانة
الوثنية وحقية الأديان والمذاهب الأخرى التي انتشرت وثبتت إلى الآن يتعسر، أو
يتعذر عليهم , والصواب أن هناك سببًا آخر للانتشار هو الذي انتشر به كل دين
ومذهب في العالم سواء في ذلك الحق والباطل , وإنما الفرق بين الحق والباطل أنه
إذا قذف بالأول على الثاني يدمغه وأنهما إذا تساويا في سبب الانتشار الذي نذكره
يثبت الحق ويزهق الباطل كما أرشدنا القرآن الحكيم وبهذا كان للإسلام السلطان
الأعلى على جميع الأديان لا بقوة السيف والسنان. ولو كان الحق ينتشر بذاته لأنه
الحق لما كتب الله علينا (الدعوة) إليه - وهي العلة الحقيقية والسبب الصحيح -
ولما كان من حاجة إلى الأنبياء والمرسلين ووراثهم من العلماء والمرشدين الداعين
إلى دين الله تعالى ولما وصف الله الدعوة إليه بأنها أحسن القول ولما أمر نبيه عليه
الصلاة والسلام بأن يبين للناس أن سبيله وطريقته التي يسلكها هو وأتباعه إنما هي
الدعوة إلى الله على بصيرة.
ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ من المبادئ
إلا بالدعوة , وما تداعت أركان ملة بعد قيامها , ولا انتكث فتل شريعة بعد إحكامها ,
ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة. فالدعوة حياة كل
أمر عام تدعى إليه الشعوب والأقوام سواء كان ذلك الأمر حقًّا وإصلاحا في نفسه أو
كان باطلاً مموهًا بالحق وإفسادًا مغشى بالإصلاح ومسمى باسمه , ومن راجع
التاريخ يعلم أنه ما وجد أحد يدعو إلى شيء ولم يجد تابعًا , وها نحن أولاء نرى
المذاهب الباطلة تنمو بالدعوة ويعم انتشارها والمذاهب الحقة تتضاءل وتعفى آثارها.
وقد بدأ الإسلام يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه
وإنما طال زمن دور نموه مع كثرة ما صرفه من الموانع لقوته وأصالته في الحق ,
ولذلك ما أمكن لأهل دين آخر أن يردوا مسلمًا يعرف الإسلام عن دينه بل صعب
عليهم أن يردوا المقلدين فيه عنه لوضوح الفرق بينه وبين ما يدعون إليه من
الأديان الأخرى وغاية ما أمكنهم هو أن يفتنوا عددًا قليلاً ممن ليس لهم من الإسلام
إلا أنهم من صنف يُسَمَّى أهلُهُ المسلمين ويسمى دينهم الإسلام كبعض زنوج أفريقيا
وجهال جبال الهند وقفارها الذين لا يعرفون من الإسلام إلا حل أكل لحم البقر الذي
يقدسه مجاوروهم ولو بقي لعلماء المسلمين سؤر من الغيرة لنفروا خفافًا وثقالاً إلى
إرشاد هؤلاء الجاهلين ولكنهم لا يعملون إلا للمال. وقد طال بنا الشرح فأشفقنا على
القراء من الملل , وإننا نرجىء البحث إلى الجزء الآتي نبين فيه شروط الدعوة
وآدابها على ما أرشد إليه قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (النحل:
١٢٥) الآية.