للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح بن علي اليافعي


أسباب ضعف المسلمين وعلاجه
تتمة

وحيث إنه وضح مما تقدم سبب سقوط المسلمين ثم خمولهم وتأخرهم في حلبة
الترقي والسياسة , فمما لا يخفى على كل عاقل أنه إذا عرف المرض سهل الدواء
إذا بقي من الاستعداد الطبيعي بقية يمكن معه الحياة، وغير خافٍ أيضًا أنه لا يمكن
حياة الأمة الإسلامية إلا بعود المسلمين إلى دينهم الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة
أما ما ذكره الأخ رفيق من دعوة المسلمين إلى ترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا،
فهو أبعد كل بعيد , ودونه خرط القتاد , ومن المحقق أن من دعا المسلمين إلى ذلك
لا يجاب , ولو أقام على دعوته إلى يوم الحساب , كما أن دعوته في نفسها غير
صواب. والحقيقة بخلاف ذلك , فإن دعوتهم إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم ,
ومن البَيِّن الذي حققته التجارب أن تأثر المسلمين ونشاطهم إلى إجابة دعوة دينهم
أسهل كل سهل، وذلك كإجابتهم لدعوة فلان وفلان وفلان في كل مكان وزمان , فلا
حاجة إلى الإطالة بالتفصيل والبيان.
ودين الإسلام كما أنه أكمل الأديان وأعدلها , فسياسته أعدل كل سياسة يمكن
البشر أن ينضموا إليها؛ ألا وهي وضع كل شيء في الموضع الذي يناسبه ,
والأخذ بالأصح، والسعي في أسهل الطرق وأقربها إلى نيل المراد , وأن ينتخب
من كل شيء أزكاه لتكميل وجوده وبقاه، ويصطفى لكل شيء كفوه , وهذه هي
سنة الله في أمره الشرعي والكوني , ومقتضى حكمته الكاملة، ودلت على حسنه
ووجوبه الفطر والعقول أيضًا , وهو علامة الكمال والاستواء في الأمور الكونية
الطبيعية والانتظام البشري.
أما كونه سنة الله وحكمته في الخلق والتكوين فذلك بَيِّن لمن تفكر في نفسه
وفي الآفاق، ودونك مثالاً واحدًا لنقيس عليه , وهو انتخاب موضع البصر في
الرأس ثم وضعه في الوجه لا في القفا؛ لأن الإنسان ذو إرادة للفعل والترك ,
والأخير عدم , وفعله الطبيعي اتجاه وجهه، وتعيين مراده المحسوس موقوف على
رؤيته، فكانت الحكمة انتخاب الباصرة في هذا الموضع , وهناك حكم وأسرار
كثيرة للمتبصرين. وكذلك الإنسان والشجر عند كماله واستوائه ينتخب منه لبقاء
نوعه خلاصته فيلد ويثمر، والله ينتخب ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ,
وهو يعلم حيث يجعل رسالته ومن يصلح لها. وكلام الحكماء والعقلاء في
الانتخاب للرأي والمشورة لا يمكن استقصاؤه، وقد فطر بنو آدم على التعاون في
أفعالهم وأقوالهم , فالله جل شأنه كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى
الناس كافة , وختم به الرسالة , واختار أمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , ولا يقرون ظالمًا على ظلمه - أي ينبغي
أن يكون هذا شأنهم - أمرهم أن يتخلقوا بأخلاقه تعالى التي يليق أن يتخلقوا بها كما
يروى: تخلقوا بأخلاق الله , ومعنى هذا الحديث صحيح في الدين، ودلت الشريعة
على أن ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن.
فمن تلك السياسة الاجتماعية أن الله فوض إلى الأمة الإسلامية انتخاب الخليفة
وتعيينه من عائلة الخلافة، وأعظم دليل على ذلك مفارقته صلى الله عليه وسلم هذه
الدار ولم يعهد في أمر الخلافة بشيء , ولما كان بديهيًّا ومعلومًا لديهم ذلك من
دينهم لم يوصهم صلى الله عليه وسلم بغير الكتاب والسنة كما تقدم , وأيضًا من
الأدلة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن الخلافة الشرعية لا تثبت لأحد إلا
بعد البيعة الاختيارية من أهل الحل والعقد ثم عامة المسلمين في سائر البلاد بواسطة
أمراء الإسلام , يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
في بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إنها فلتة وقى الله شرها , فمن عاد
إلى مثلها فاقتلوه) وتأمل قوله: فاقتلوه. إلى من يعود الضمير ويدل على ذلك
قوله تعالى الذي هو أصل كل دليل في ذلك وهو: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) أي شأنهم ذلك , أو كما تقول: المال بين فلان وفلان أي مشترك
بينهما , والخبر يكون للأمر بل هو آكد من مجرد الأمر , كما ذكر ذلك في موضعه،
وقد جاء الأمر في الآية الأخرى صريحًا إذ قال لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل
عمران: ١٥٩) ودخول الأمة من باب أولى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم غني عن
رأيهم بالوحي، وذلك ليس لهم. ومن أدلة ما ذكرناه ما قد تواترت به الأحاديث
والآثار من تسمية أموال الملك بيت مال المسلمين , ولم يرد أنها مال السلطان أو
خزينته.
ومنها انتخاب سائر الأمراء والعمال , فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: (من ولَّى على قوم أو جماعة أميرًا , وهو يرى فيهم أفضل منه فعليه لعنة
الله) .
ومنها وجوب العمل بالمشورة على الإمام غير النبي صلى الله عليه وسلم ,
وتعيين الصالحين والعقلاء لها للآيات المتقدمة التي عمل بمقتضاها الخلفاء
الراشدون. ذُكر في كنز العمال أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان إذا
نزل به أمر دعا رجالاًَ من المهاجرين والأنصار ودعا عمر وعثمان وعليًّا وعبد
الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. ثم ولي عمر -
رضي الله عنه - فكان يدعو هؤلاء , وصح أن أهل مجلس شورى عمر - رضي
الله عنه - أهل الصفة. وليس وجوب العمل بالمشورة مقصورة على الخليفة فقط،
بل هي واجبة على سائر الأمراء والعمال , فقد صح أنهم كانوا يوصونهم بأخذ رأي
من يحضرهم من عقلاء المسلمين , بل كانوا يعينون لهم أفرادًا للرأي والمشاورة
ذكر في كنز العمال أن الصِدِّيق رضي الله عنه أوصى شرحبيل بن حسنة - وكان
أحد الأمراء - إذا نزل بك الأمر يحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من
تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وإليك ثالثًا خالد بن سعيد , وإياك
واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر، وكانوا يسألون الأمة عن سيرة
أمرائهم، ويتفقدون رضاء الأمة عن أولئك الأمراء، وهذا هو الانتخاب اليوم عند
أهل الغرب أو مثله , ولا اختلاف إلا في العبارات واللفظ.
ومن تلك السياسة الاجتماعية الشرعية أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم ,
ومن خفره في ذمته فعليه لعنة الله كما صح عنه ذلك صلى الله عليه وسلم.
ومنها إيجاب الزكاة على أغنيائهم لترد على فقرائهم ومنافعهم الاجتماعية.
ومنها إيجاب الاستعداد الجندي على كل فرد فرد , وحرّم القمار عليهم إلا في
ذلك , وهل يجوز القمار مع غير أهل ملتنا؟ فيه خلاف يذكرونه في تفسير {الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: ١-٢) .
ومنها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما لا يتسع
المقام لبسطه.
فبتركنا ذلك وأضعاف أضعافه مما يدل عليه الشرع ويسلم به كل عقل سليم؛
صرنا إلى ما صرنا إليه , وقد أوصى عليه الصلاة والسلام أمته بأهل الذمة وأكد ,
وكان الخلفاء الراشدون إذا أقاموا أميرًا من المسلمين في ناحية يكون بها أحد من
أهل الذمة أقاموا من تحته أميرًا من أهل الذمة على قومه , وشدد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الوصية بالقبط وقال: (استوصوا بهم خيرًا فإن لهم رحمًا وقرابة)
ولو أن المحل يحتمل الإطالة لأتينا بما لم يكن في حساب من تأكيده صلى الله
عليه وسلم الوصية بجيراننا وإخواننا الوطنيين الذين تأكدت بيننا وبينهم عهود الله
وذمته.
وقد يعترض بأنه إذا لم تعزل السياسية جانبًا عن الدين فأي فائدة في الشورى ,
وأن تقدم أهل الغرب إنما ثبت واستقر لهم بمنعهم كل تداخل ديني في أمور السياسة
والملك؟ وقد يقال أيضًا: إن كثيرًا من أحكام الدين وعقوباته غير مناسبة للزمان
ومصلحته , والجواب عن الاعتراض الأول أن فائدة مجلس الشورى هي النظر في
جميع المسائل الاجتهادية أعني غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ كالنظر في
إصلاح البلاد والعباد بالعلوم والتجارة والصنائع المختلفة وحفظ الأمة عن
الاختلافات , ووضع القوانين لذلك , وإصلاح أهل الذمة، إلى غير ذلك من الفوائد
التي يصعب حصرها، ومن تلك الفوائد ما يأخذه السلاطين عشورًا من تجار
المسلمين , وهو محرم في دين الإسلام، فيمكن إذا كان أركان مجلس الشورى
منتخبين من سائر بلاد المسلمين برضاهم ووكلاء عنهم كلٌّ عن جهته وبلاده , فهو
يتطوع عن أهل جهته بذلك المقدار أو أكثر منه، وحيث إنه وكيل عنهم في ذلك
الشيء وغيره؛ فلا يبعد أن يحل ذلك لدى كل منصف من أهل العلم لا التقليد محل
القبول. إلى غير ذلك من فوائد يا لها من فوائد. وكثيرمن المسائل الشرعية قد
تتبدل تبدلاً وقتيًّا تبعًا لمصلحة الأزمنة والأمكنة، ولكنها تعود إلى أصلها بانتفاء
المقتضي , وهذه أيضًا تفوض إلى رأي المسلمين ومشورتهم، وقد ذكر ذلك علماء
الإسلام.
أما الاعتراض الثاني، فيقال في جوابه: إنه لم يعرف في دين النصرانية
ذكر للسياسة فضلاً عن أن يقال: إنهم تركوها جانبًا، أو يقال: لعل سياسة دينهم
غير موافقة لمصلحة الزمان وعرفوا ذلك بعقولهم، كما هي منسوخة لدينا لتلك العلة.
وإذا عرفت بهذا صلاح السياسة الدينية الإسلامية، وأن أهل الغرب لم
يستطيعوا أن يأتوا بأحسن منها، ولا أنسب للزمان منها، بل سياستهم إنما هي
مستفادة من الإسلام والمسلمين؛ أفلا نكون أولى منهم بها لدلالة العقل على حسنها،
ولكونها حكمًا دينيًّا شرعه الله لنا نثاب عليه، ونسعد به في دنيانا وبعد موتنا.
بقي الجواب على الاعتراض الثالث، وقد ذكر هذا الاعتراض صاحب المنار
لبعض أمراء مصر وهو أنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما
وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وقول بعضهم خلاف مصلحة الزمان -
ونعوذ بالرحمن من الكفر والخذلان - وما مرادهم بمصلحة الزمان، وليس
الزمان إلا تعاقب الليل والنهار، ولا تنسب إليه مصلحة ولا مفسدة، فيتعين أن
يكون المراد أهل الزمان الذين منهم الكافر والمسلم , فإن كان مراد هذا المعترض
المخذول أن شريعة الإسلام خلاف مصلحة المسلمين؛ فقد كذب وافترى , فإن
مخالفة المصلحة لابد من بيانه. فإما أن يقول: إن شريعة الإسلام مانعة عن الترقي
للمسلمين - وقد عرفت فيما مضى أن كل ترقٍّ ظهر على وجه الأرض بعدها أنه
من بركة الإسلام وشعاع من مشكاته - وإما أن يقول: إن المسلمين يستثقلون
الأحكام الشرعية , وينزعون إلى مخالفة سلطانهم إذا أجراها عليهم، وهذا أبعد كل
بعيد , فإن جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض لا يسرهم إلا إقامة شريعتهم ,
وكل سلطان يخالفها فهو ممقوت لديهم لا يمنحونه ودًا، ولا يرون له طاعة، وإذا
كانت شريعة الإسلام بهذه المنزلة في اعتقاد أمة الإسلام؛ فما بال المتحذلقين
يضعون قوانين على المسلمين لا يرضون بها , وترى الأمة أنها مخالفة لمصلحتها؟
ما لنا ولتلك القوانين إن كان أهل أوربا رضوا بها فلأنفسهم , على أنهم ما
اختاروها إلا لأن قومهم رضوا بها.
هذا ما يقال في سد النزاع من أصله، أما لو تشعبت المسائل الشرعية
والقانونية مع بيان عللها وأسرارها وغاياتها ومصالحها ودفع المفاسد، ثم المعادلة
بين الجرم وعقابه بعد تنزيل الجرم منزلته مع بيان ما ينتج عنه من المفاسد - فمن
أمعن النظر لم يبق له شك ولا التباس في أن شريعة دين الإسلام هي الأوفق
بمصلحة كل زمان، وأنها الموافقة للمعقول، وهي فطرة الله التي فطر الناس
عليها, ومَن غيَّر الفطرة فإثمه عليه. اللهم أحينا مؤمنين وأمتنا مؤمنين.
وفي الحقيقة مثل هؤلاء المعترضين لا يقولون عن معرفة وعقل، ولا يرمون
لغاية وإصلاح، فقولهم هذر لا يعبأ به , إذ ليس اعتراضاتهم إلا عن دهشة وعجز
وجبن، يرومون به إرضاء أعدائهم الذين لا غرض لهم إلا اغتصاب بلادنا ودحرنا
عنها , فالمعترضون لن يرضى عنهم هؤلاء المغتصبون أبدًا، وقد أغضبوا ربهم
ونبيهم وأمتهم؛ فباءوا بغضب على غضب , وسيصيرون إلى عذاب أليم إن لم
يقلعوا ويفيئوا.
فيا أمراء المسلمين إن الغربيين لا يتقربون إليكم بتودد المخادعة محبة لذواتكم
الشخصية، فلا تنخدعوا لهم، ما ذلك إلا تلطفًا لينالوا مرامهم، ولئلا تنفروا وتنبوا
عنهم. ألا إنما هي مزاحمة عدو حاذق ليسلبوا منكم كل سعادة يسعون لذلك سعيًا
حثيثًا وأنتم لا تشعرون، كمثل الظل يُرى واقفًا وهو يسير أسرع سير إلى أن
يغشى كل شيء , ثم يشتد ظلمهم فيعطل كل تمييز وإدراك، أو كمن رآك بمجلس
فارغًا فجعل يمازحك بغاية الحذق ويزاحمك , فإن رآك أنكرته لاطفك قائلاً: إن من
ورائي من يدفعني ويدفعك , ومضايقتي لك إنما هي سبب مدافعتي عنك، ولا يزال
كذلك حتى يخرجك، وقد تمكن في موضعك فيدعي أنه حقه وأنه مستحقه؛ فإن
شئت فقف حيث توضع النعال، فليس لك من هذا الصاحب المهذب إلا الإذلال.
يا أمراء المسلمين , راقبوا الله في قومكم وأبناء وطنكم , إن ثروتكم ورغد
عيشكم ونيلكم هذه المناصب، إنما هو بهم، والنصح والإخلاص لكم محال من
سواهم، فلا تبطروا ولا يغرنكم ركوب العربات مع أهل الغرب ونسائهم , تلكم
مصانعة مؤقتة للحصول على مطالبهم , ومداهنات محفوفة بغايات، وإلا فما هي
العلة؟ ألرحم قرابة، أم لاتحاد وطن أم لرابطة دين؟ [١] فراقبوا الله فينا، وفي
بلادكم وأولادكم، والغيرة الغيرة على شرفكم وحريمكم، أتعجزون عن خداع من
خادعكم، أليس يقال: رب حيلة خير من قبيلة. والعاقل قد يتحيل بالزمان
والمصلحة، ويتعلل بخوف الفساد والأمة، ومن يوم ليوم إلى أن تتوفر لديه العدة
ويستكمل القوة وينشأ في قومه الأكفاء، ما هذا الخوف والجبن، فإن أحدًا لا
يستطيع أن يسأل السيف، وإنما هي مخادعة في السياسة وترهيبات، إن قاومهم
بثبات أصبحت أضغاث أحلام، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثم لينظر العاقل إلى أهل الهند. وبأي الحيل خُدعت سلاطينهم. ثم إلى أي
حالة آلت حالة أولاد أولئك السلاطين والأمراء المترفين , تراهم في أنحاء البلاد
يتكففون الناس مع الفقراء والمساكين. تلك جناية آبائهم على بلادهم وقومهم، أحلتْ
النقمة بأولادهم أكثر منها بالرعية؛ لأن الرعايا كما كانوا سابقًا يتكسبون معاشهم،
بل هم الآن يتكسبون بالمكر، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
ويا معشر المسلمين , يا إخواني , يا أولياء الغيرة، يا معشر المصريين ,
بشرفكم لبيك إجابة لمستغيث تقطعت أحشاؤه غمًّا وكآبة عليكم , فأنتم
قومه وأمته ورأس ماله وربحه , بل أعز عليه من روحه. إن لي فيكم أيها
المصريون أملاً وطيدًا , أمنيتي إليكم أن تؤلفوا لجنة تسمونها مجلس الإسلام - أو ما
شئتم أن تسموها - يشترك فيها كل من أخلص لقومه ومَلَكه حُبُّه , وغرق في عشقهم ,
أولئك الذين لا يهابون الخطوب , ولا تعوقهم المصائب عن السعي في فلاح قومهم
ونجاتهم، وأشرِكوا فيها كل من يصلح للإشراك من سائر طوائف المسلمين. وعلى
أهل هذه اللجنة أن يبثوا الوعاظ الأمناء العقلاء في سائر أنحاء بلاد المسلمين،
ويدعونهم إلى الوفاق وترك التقليد الذي فرقهم، وأضاع عليهم دينهم وبلادهم،
وأوقعهم فيما هم فيه من الجهد وعدم مجاراة الأمم المتمدنة. وأهل هذه اللجنة
يؤلفون وفدًا من كبارهم وعقلائهم يوجهونه إلى حضرة السلطان الخليفة الأعظم
رأسًا، وإذا لاقوه يبينون له حالة المسلمين وأسباب وهنهم , وكذلك يبينون له كل
اختلال واقع في بلاده , ويلتمسون أن يوافقهم على إقامة مجلس شورى للمسلمين
يرأسه السلطان نفسه شبيه بإمبراطورية الجرمان أو برلمان إنكلترا. مجلس شورى
المسلمين تتألف أركانه من جميع طوائف المسلمين , وكل أمير من أمراء المسلمين
يكون له نائب في ذلك المجلس من عرب نجد وحضرموت واليمن والحجاز
والعراق ومصر إلى غير ذلك , ومن أكراد وترك وغيرهم , وأهل هذه اللجنة أثناء
عملهم يتناوبون في إقامة جماعة منهم في الآستانة. ويكون مقر لجنة الإسلام في
مصر , ومن مصر يبعثون الوفود إلى سائر بلاد الإسلام , وكذلك الدعاة والوعاظ
ليسود الأمن والأمان، لا للحرب والطعان، بل لإشاعة العلوم وإنقاذ المظلوم، ثم
إن كل أمير يبقى أميرًا على إمارته ويعقد بها مجلس شورى أيضًا , وكل هذه
الأشياء بانتخاب الأمة كشأن أهل الغرب , لكن على طريق الشرع.
ومجلس الشورى يقنن القوانين في المسائل غير المنصوصة شرعًا , ويعقد
المعاهدة بين جميع الأمراء وبين الخليفة الأعظم , ويتعاهد بلادهم ويرسل إليها
العلماء والحكماء والمهندسين , والنفقات في ذلك عليهم بالمعروف , ويحملهم على
إنشاء المدارس وتأمين الطرق ومنع الظلم وفتح أبواب التجارة، وليصلحوا من
شأنهم وجنودهم بكل قوة وعدة يستطيعون بها دفع هجوم قطاع الطريق وكل فساد.
وهم تبع لخليفتهم إمام العدل والأمان , وجندهم مع جنده جند سلطنة واحدة.
هذا ما أدعوكم إليه، وهو لا ينقص فائدة عن المدارس التي تصرفون فيها
الألوف من الدنانير، بل لا نسبة بين ذا وذا، وأين الثريا من الثرى. إنكم إن فعلتم
ذلك فقد بؤتم بالشرف وسُدتم جميع المسلمين، وكنتم السبب في نجاتهم , والله
كفيل لكم بالنصر والفلاح والتأييد. واعلموا أنكم إن رمتم ذلك الإصلاح لتجدن في
طريقه مقاومات ودسائس وعراقيل، ولكن من صبر ظفر، ومن سار على الدرب
وصل، ولا جبن يطوِّل عمرًا، ولا شجاعة تقصره، وإن تم لكم هذا المرام فمن ذا
الذي يمكنه أن يطمع في بلادكم، أو يتجرأ عليكم بالتهديد وإثارة الفتن؟ وهل يمكن
أي طماع أن يتصور في ذهنه تقسيم بلادكم واحتلالها، والحق لا يعدم نصيرًا , فإن
في أهل أوربا الحكماء والعقلاء المولعين بحب النوع الإنساني بغير تعيين بلاد
وقوم, فهم بلا شك يساعدون في فعل هذا الخير العميم.
وقد أثبتُّ في هذه الرسالة سبب سقوط المسلمين , ثم سبب خمودهم في هذه
الفترة , وأعقبت ذلك بالدواء النافع لهذا المرض , وهو ليس بالشديد ولا بالصعب
المتعذر في جانب المضار المترقبة المقبلة على سائر الأمة والبلاد , إنما ذلك
يستدعي تدبيرًا وسياسة وصبرًا وتجديد أمل بعد أمل من غير يأس وقنوط , وفي
مدة قريبة تتبين الفائدة بيانًا واضحًا، ولتسمعن من بدو الجبال فضلاً عن أهل المدن
والقرى ما يسر قلوبكم وخواطركم من الطاعة والحمية والتقدم في المعارف وبذل
الأنفس والأموال في محبة القوم والوطن , ولتذهبن الأحقاد والضغائن التي ملأت
أسماعنا من أقوال كثيرين من المسلمين من أن الأتراك يعاملون رعاياهم معاملة
الفاتح لأمة أجنبية، وأن الترك تفتخر وتعتقد أن السلطان إنما هو سلطانهم، وأنهم
أولى من سائر المسلمين بكل سلطة وإمارة إلى غير ذلك من الخيالات. فبما ذكرناه
يذهب ذلك كله ويعود المسلمون إخوانًا كما آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم في أول الإسلام، ولنا الرجاء الأوفر بمبادرة إخواننا المصريين إلى هذه
الأمنية الغالية , ولا نرجو ذلك من غيرهم إلا أن يكون ذلك غير قياس عقولنا ,
وكل ميسر لما خلق له , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ١٤ج ٢ سنة ١٣٢٢.
... ... ... ... ... ... (صالح بن علي اليافعي)
(المنار)
صفوة كلام الكاتب أن مرض المسلمين في أمرين هما الأصل في جميع
الأعراض المؤلمة التي يتوجع منها أهل الشعور منهم؛ وهما استبداد الحكام،
والتقليد في الدين الذي استلزم التقليد في كل شيء. وكل من الأمرين مخالف
للإسلام , ويعلم قراء المنار أن هذا موافق لرأينا , وأننا لا نقاوم شيئًا مقاومتنا لهذين
المرضين الخبيثين , وإنما طريقنا في ذلك محاولة إقناع عقلاء الأمة وفضلائها بذلك
تدريجًا حتى إذا ما كثر المقتنعون بشيء نهض بتعميم الإصلاح فيه من يقيضه الله
تعالى من الزعماء الذين يظهرون في الأمم عند استعدادها للانقلابات الكبرى كما
يظهر المعدون لها لقبول الانقلاب.
أما أمنية الكاتب فهي من جملة ما يصح أن يعرض على المسلمين ليتفكر فيها
أهل الفكر منهم , وقد سبق لنا نشر مثلها في المنار , وأعجبنا منه أن سماها أمنية ,
ولكنه حث عليها بعد ذلك بما يفهم منه أن له رجاءً قويًّا في إنفاذ المصريين لها،
ولكن المصريين يعرفون من أنفسهم أنهم قد استعدوا للقول ولم يستعدوا للعمل
لأنفسهم فضلاً عن العمل لجميع المسلمين. وأن الأقوال التي تنشر في الجرائد
المصرية قد غشَّت مسلمي الأقطار الإسلامية البعيدة عن مصر بالمصريين، ولكنها
لم تغش المصريين بأنفسهم، وغاية ما كان من تأثيرها فيهم أن بغضت إليهم
الاحتلال الإنكليزي زمنًا , وعلقت آمالهم بفرنسا لا بأنفسهم، وقد انقطع حبل هذا
الأمل بالوفاق الفرنسي الإنكليزي، بل بحادثة فشودة قبله، وثبت للمصريين
بالاختبار أن جرائدهم كانت تغشهم لأجل سلب المال منهم وإحراز الجاه عندهم،
وأن الإنكليز خير لهم من أمرائهم السابقين , ويمكنهم أن يرتقوا في أيامهم إذا عملوا.
وكان ذلك محالاً عليهم من قبلهم , وأن الاحتلال المنافي للاستقلال لا يمكن أن
يقاوم بالقيل والقال، والاتكال على من لا يصح عليه الاتكال , فزالت من نفوسهم
فكرة مقاومة الإنكليز بالمرة , ولكن العقلاء يعرفون ما لا ينكره الدهماء أن
الاستقلال هو سعادة الأمم ويتمنونه لبلادهم، ولكن لا يوجد فيهم عاملون لأجل
الاستقلال.
ماذا رأى مسلمو الهند وغيرهم من النائين الذين ينظرون إلى المصريين
بالمناظير المكبرة , فتتمثل لهم صورة كل مصري في شكل أبي الهول؟ هل رأوا
في هذا الهيكل العظيم آيات الحياة الاجتماعية الحقيقية وما هي هذه الآيات؟
يذكر كاتب هذه المقالة المدارس، وبذل الألوف من الدنانير في سبيل إنشائها ,
ويا فضيحة مصر إذا ذكر إنشاء المدارس وبذل المال لها. إن في سوريا ولبنان
عدة مدارس كلية , وليس في القطر المصري مدرسة كلية , فالقطر المصري لم
يصل في الارتقاء بالتعليم - وهو أغنى قطر إسلامي - إلى مساواة قرية زحلة من قرى لبنان، بل تقول جريدة المؤيد: إن المصريين لم يستعدوا ويرتقوا إلى
الدرجة التي تمكنهم من إنشاء مدرسة كلية؟ فلا تغرنك أيها الكاتب الغيور جعجعة
الجرائد المصرية عندما تذكر إنشاء مدرسة ابتدائية، لا سيما إذا كانت منتسبة إلى
جمعية، فليس هاهنا مدارس حقيقية ولا تعليم حقيقي، ولا تغرنك شقشقة بعض
الكاتبين , فإنما هم قوم يبيعون الكلام للعوام وللأمراء العظام , والدليل على ذلك
أنك لا تجد واحدًا منهم يحارب الاستبداد والتقليد اللذين هما أقتل أمراض الأمة، بل
هما أصل جميع مصائبها ورزاياها، ذلك أن محاربة التقليد تنفر منهم العوام تبعًا
لرؤساء الدين، ومحاربة استبداد الملوك والأمراء يحرمهم من الرتب
والنياشين.
انظر كيف ظهر بُعْدَ رجائك بالمصريين , ولرجاؤك بالملوك والأمراء أبعد.
ولم يبق للإصلاح إلا شيء واحد؛ وهو السعي في تربية رجال مستقلين في
أفكارهم وإرادتهم مقتنعين بوجوب السعي في إبطال التقليد والاستبداد , والقيام
بالأعمال العامة التي ترتقي بها الأمة , والله الموفق والمعين.
((يتبع بمقال تالٍ))