للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ عبد الباقي الأفغاني
(وفاته)

نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في
صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه
ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى
كان يقول:
(إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي
نعيًا وترجمة:
فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل
النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من
غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون
على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من
هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة،
ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين
متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من
سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة
علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم.
(النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام،
والرضا عن كل خادم بهذه المائدة.
(النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات
للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا
المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون
هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد
من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو
أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا
واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة
فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء
هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان
منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم.
ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا
هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا
انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما
يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم
الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا.
كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه،
فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن
زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر
مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد.
نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في
غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس
هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في
البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض
البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب
إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو
القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا
مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه.
مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان
يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي
أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين
وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم ١٣٢٣ وكان
لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.