التخييل التحضيري تتداعى المعاني بوسيلة التذكر للأسباب التي كنا بصدد البحث عنها، ثم المخيلة تنتخب منها ما يناسب الغرض، وهذا العمل - أعني الانتخاب - يسميه علماء النفس تخييلاً تحضيريًّا؛ لأنه العمل الذي تتمكن به المخيلة من استحضار العناصر المناسبة للمرام. تقتصر المخيلة عند الانتخاب على ما يدعو إليه الغرض، حتى إنها تأخذ الجسم مقطوعًا من بعض الأعضاء التي لا مدخل لها في المعنى، فتتصور الجواد بغير قوائم كما قال المتنبي: أتوك يجرون الحديد كأنما ... أتوا بجياد ما لهن قوائم والعقرب بغير ذنب كما قال أبو هلال: تبدو الثريا وأمر الليل مجتمع ... كأنها عقرب مقطوعة الذنب وربما انتزعت العضو من بين سائر الجسم كما أخذ ابن هانئ اليد، فقال: ولاحت نجوم للثريا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفى وأخذ ابن المعتز القدم فقال: وارى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حداد وأخذ آخر القلب فقال: نقل الجبال الرواسي من مواطنها ... أخف من رد قلب حين ينصرف *** التخييل الإبداعي بعد أن تنتخب المخيلة ما يليق بالغرض من العناصر تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويسمى هذا التصرف تخييلاً إبداعيًّا، أو اختراعيًّا. ويجري هذا التخييل في التشبيه والاستعارة وغيرها. فالتشبيه قد تحذف أداته كما في قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وعمل الخيال فيه هو إحضار صورة المشبه به - أعني الشمس والكواكب - وإلغاء وجوه التباين بينها وبين المشبه - أعني الممدوح - وبقية الملوك، حتى يدعي اتحادهما، ويصح الإخبار بأحدهما عن الآخر، وبنى على هذا الادّعاء أن ليس للملوك مظهر، ولا تقوم لهم أمام هذا الملك سمعة، فإن الكواكب يتقلص ضوءها ويغرب عن العيون مشهدها عندما تتجلى الشمس في طلعتها الباهرة. وأما ما تذكر فيه أداة التشبيه، فلا أستطيع أن أعده في قبيل الخيال جملة، كما أني لا أعزله عنه في كل حال، فإن كان فيه إخراج المعقول في صورة المحسوس، أو المحسوس في صورة المعقول، أو إخراج الخفي إلى ما يعرف بالبداهة، أو إخراج الضعيف في الوصف إلى ما هو أقوى فيه، فتصح إضافته إلى الخيال؛ إذ له الأثر القوي في تقريره. وأما عقد المشابهة بين أمرين متفقين في وجه الشبه من غير تفاوت، كالتشبيه الذي يساق لبيان الاتحاد في الجنس أو اللون أو المقدار أو الخاصية، فلا يصح نسبته إلى الخيال الشعري، وإن وقع في كلام مقفى، وإنما هو مما ينظر فيه الباحث عن الحقائق كالفيلسوف أو الطبيب. فلو اتفق أن وقف فتى بجانب ظبي وانطلقا في فسيح من الأرض، ولم يفت أحدهما صاحبه قيد شبر، فبدا لك أن تتحدث عنهما فقلت: ولو في نظم (كان فلان في سرعة عدوه كالغزال) لم يكن في هذا التشبيه شيء من الخيال؛ لأن عقد المشابهة بينهما في هذا الحال يشاركك فيه كل من شاهد الواقعة، وإنما يمتاز التخيل بمثل قول الشاعر: وفي الهيجاء ما جربت نفسي ... ولكن في الهزيمة كالغزال حيث إن الخيال بحث عن صورة المشبه به وهو الغزال، وانتقاها من بين سائر الصور المتراكمة في الحافظة، ثم تصور انطلاق المنهزم وهو الشاعر نفسه، وبالغ في مقدار سرعته إلى أن وقع التشابه بينه وبين الغزال. وإن أردت أن تفرق بين التشبيه الذي يدخل في التخيل، والتشبيه الذي هو حائد عن طريقته، فانظر إلى قول المجنون: كأن القلب ليلة قيل يفدى ... بليلى العامرية أو يراح قطاة غرها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح فترى الخيال هنا قد تجول حتى تصيد معنى القطاة، ووقع على الشرك، ثم انتزع منهما هذه المعاني وهي وقوع القطاة في الشرك، وعلوق جناحها به، ومعالجتها له كي تتخلص منه، وضم بعضها إلى بعض، فانتظم ذلك المعنى المركب، وانعقدت المشابهة يبنه وبين حال القلب الذي وقع في حب العامرية، فأخذ يرتجف وجلاً من لوعة الفراق. ولو نظر شاعر إلى أزهار مفتحة بمكان منخفض من الأرض، وقال مثلاً: هذه الأزهار في منظرها ... وشذاها مثل أزهار الربا لاستبردت شعره لأول وهلة، وأخذت تهزأ به كما هزأت بقول الآخر: كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء بيد أن ذلك التشبيه نفسه لو يصدر من العالم بالنبات في الرد على من يدعي أن هذه الأزهار ليس لها لون ولا نفحات عاطرة، كالأزهار التي تنبت على الربا لأصغيت إليه سمعك، وتلقيته منه بكل وقار، وما ذاك إلا لأن الأول قاله بوصف كونه شاعرًا، ولم يأت فيه على عادة الشعراء بشيء من التخييل، وأما الثاني فإنما ألقاه إليك في صدد البحث عن الحقيقة، فلا تنتظر منه أن يصله بشيء من عمل الخيال. والاستعارة يصنع فيها الخيال ما يصنع في التشبيه المجرد من الأداة، إلا أنها تعرض عليك المشبه في صورة المشبه به على وجه أبلغ، ولا سيما إذا أضيف إليها بعض معان عهد اختصاصها بنوع المشبه به، أعني ما يسميه البيانيون ترشيحًا، ومن أبدع ما نسج على منوالها قول البارودي: من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر أراد الشاعر وصف قومه بأنهم أولو الصرامة التي تفرج الكرب المدلهمة، والسطوة التي يرهبها كل خطير، فساق إليك هذا الغرض في صورة تنظر منها إلى سيوفهم كيف تجرد حول الليلة الفاحمة، فيسطع نور الفجر الواضح في جوانبها، وترى فيها الحسام الواحد كيف يسل من جفنه فترتعد الأفلاك ذعرًا، ويلتفت له الدهر حذرًا خيل إليك أن الداهية ليلة ظلماء، وأن الفرج الذي ينبعث من مطلع سيوفهم صبيحة غراء، وعبر عن الأولى باسم الداجية، وعن الثانية باسم الفجر، وهذا التعبير الملوح إلى ذلك التخييل هو الذي يعنيه البيانيون بقولهم: استعارة مصرحة. ثم خيل الفلك إلى صورة من له قلب يفزّع، والدهر في صورة من له وجه يلتفت، والتصريح باسمهما بعد هذا التخييل يدخل به الكلام فيما يطلقون عليه لقب الاستعارة بالكناية، ويمكنك أن تفهم الفجر في البيت لمعان السيوف، وتألقها المشاهد بالأبصار على نمط قول بشر: سللت له الحسام فخلت أني ... شققت به لدى الظلماء فجرًا ولكنك تضيع من يدك ما أفاده الوجه الأول من أن النجدة في جانبها، والظفر مقرون بطالعها؛ إذ لا يلزم من لمعانها في حواشي الداجية أن تطعن في لبتها، وتقلبها بالفوز عليها إلى صبيحة مسفرة [١] . ومن التخييل الذي لا يدخل له الشاعر من طريق تشبيه أو مجاز ما تشهد لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية المعقول كقول الطائي: ولا يروعك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب الذين هما محبوبان ومحترمان لكل أحد ابتغاء أن تأنس العين لرأيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به، وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق، وإن استحكم تأليفها ودق مأخذها. ومنه ما يستملحه الذوق ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير: لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من حساب التخيلات المقبولة، وبلوغ كف الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح، غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال على امتناعه قد خلصه من زلة الكذب وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى القضايا الوهمية. *** فنون الخيال يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا يسع المقام استيعابها وتقصي آثارها، فنلم لك بمهماتها وما يصلح أن يكون بمنزلة أصل تتفرع عليه تفاصيلها: أحدها تكثير القليل؛ كقول عمرو بن كلثوم: ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا فإنه اطرد في حلية الفخر حتى وصل إلى التعبير عن منعة الجانب، والسطوة التي لا يفوتها هارب، فخطر له أن يثبت له ولقومه من القوة ووسائل الفوز ما يرهبون به عدوهم، فذكر أنهم ملؤوا البر جندًا حتى لم يبق فيه متسع، ويملؤون ظهر البحر بالمنشآت من السفن؛ ليدل بهذا على أنهم لا يبالون بالعدو من أي ناحية هجم، ولا يتعاصى عليهم إدراكه في أي موطن ضرب بخيامه. والذي صنع خيال الشاعر في هذا البيت أنه تجاوز في الإخبار بكثرة قبيلته وسفنه حد الحقيقة، وتطوحت به نشوة الفخر إلى أن تخيل أن البر قد غص كما تغص الثكنة بجنودهم، وأن البحر يتموج بسفنهم كموج السماء المصحية بكواكبها الزاهرة. ومنها: تكبير الصغير كقول بشر يصف (وقعة الأسد) حين قسمه بالضربة القاضية على شطرين: فخر مضرجًا بدم كأني ... هدمت به بناءً مشمخرا فقد تخيل عندما سقط الأسد إلى الأرض دفعة أنه أتى إلى بناء شامخ ونقضه من أساسه، فانقضت أعاليه على أسافله، فالخيال هو الذي بلغ بجثة الأسد إلى أن جعلها في العظم بمقدار بناء ارتفعت شرفاته حتى اتخذت من السحب أطواقًا. ومنها: تصغير الكبير كقول المتنبي: كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقوله: ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... وخط به ما غير الخط كاتب فالصب وإن تقلب على فراش الهجر أمدًا طويلاً، وأكل الوجد من لحمه حتى شبع، وشرب من دمه حتى ارتوى، لا يصل في نحافة جسمه إلى أن يسعه شق رأس القلم أو يخفى عن عين الناظر إليه، وإن كانت عشواء، وإنما هو الخيال أخذ يستصغر ذلك الجسم حتى ادعى في البيت الأول أن مخاطبته للناس هي التي تهديهم إلى مكانه فيبصرونه، ولولاها لبقي محجوبًا عن أبصارهم وإن وقف قبالتهم، وادعى في البيت الثاني أنه لو وقع في شق اليراعة، وانطلقت به اليد في الكتابة لاستمر الخط بحاله. ومنها: جعل الموجود بمنزلة المعدوم كقول المتنبي: ومطالب فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها وصف نفسه بالإقدام على مواقع الردى واقتحام الأخطار بجنان ثابت وعزم لا يتزلزل، حتى تخيل لقلة المبالاة بها وعدم الفزع لملتقاها أنه لم يكن قد خاض غمارها، ورآها كيف تنشب أظفارها، وإنما نشأ هذا الخيال من جهة أن الخطوب المدلهمة لا يسلم من روعتها والدهشة لوقعتها في مجرى العادة إلا من حاد عن ساحتها، وجذب عنانه عن السير في ناحيتها. ومنها: تصوير الأمر بصورة حقيقة أخرى، ولها في هذا المقام أربعة أحوال: أحدها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس كما في قول زهير: يجرون البرود وقد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء تمشي بين قتلى قد أصيبت ... مقاتلهم ولم تهرق دماء فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم بمثل خنق، أو سقاء سم دب دبيب الخمر في مفاصلهم. ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس كما في قول الشاعر: مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت علام تنتحب الفتاة فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعًا دون خلق الله ماتوا تصور المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء ويعقد بينه وبينها هذه المحاورة. ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى الكفر فقال: أمطري لؤلؤًا جبال سرنديب ... وفيضي أجبال تكرور تبرا منزلي منزل الكرام ونفسي ... نفس حر ترى المذلة كفرا رابعها: تخيل المحسوس في صورة المعقول، وهذا لم نعثر له على مثال في كلام العرب، ولكن التشبيه الذي هو أساس هذا الفن قد جرى في كلام المولدين بإيراد المحسوس في معرض المعقول، كقول التنوخي: فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا وقول الفاروقي: تمر مع الأتراب بالخيف من منى ... مرور المعاني في مفاوز أفكاري وقد يعمد الشاعر إلى بعض المعاني وينفيه عن أفراده المعهودة ويثبته لأفراد مفهوم آخر، وتجد هذا في قول بعضهم: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبًا ... كاسفًا باله قليل الرجاء فقد نفى أن يكون من قضى نحبه ميتًا، وأطلق اسم الميت على من فاضت نفسه كآبة، وضاق صدره يأسًا على طريقة القصر بدعوى أن المعنى الذي علق عليه الواضع اسم الميت إنما يتحقق فيمن عاش في نكد وبلاء لا يرجو خلاصًا منه، والذي أخذ به إلى هذه الدعوى ما تخيله من أن خواص الراحل إلى قبره وهي مفارقة ما كان يتمتع به من طيبات الحياة وانقطاع أمله منها، ونكث يده من العمل فيها توجد بأجمعها في الكئيب اليائس من صفاء العيش بأشد مما توجد فيمن ركبوا على مطية المنون؛ لأنه يزيد عليهم في الشقاء بأنه يصلى نار الحسرة والأسف بكرةً وعشيًّا. وقد يكون الأمر مربوطًا بعلة محققة ظاهرة، فيضرب عنها ويخترع له علة من عنده، ونجد هذا في قول أبي العباس الضبي: لا تركنن إلى الفراق ... فإنه مر المذاق فالشمس عند غروبها ... تصفر من فَرَقِ الفراق ادعى أن العلة في الاصفرار الذي يبدو على وجه الشمس حين تتدلى إلى الغروب وتنطفئ بهرتها، إنما هو الوجل والهلع من مفارقة الناس الذين طلعت عليهم ذلك اليوم حيث اتصلت بينهم وبينها فيما يزعم عاطفة ألفة وإيناس. ومما صنعت على هذا النمط، وقد أخذ البرد يتساقط في حديقة: هز النسيم غصون الروض في سحر ... كما يهز بنان الغادة الوترا لذ الحفيف على أذن السحاب أما ... تراه يحثو على أدواحها دررا وقلت وقد أخذت الريح تنسف في روض: قام هذا الروض يشدو مادحًا ... بلسان البلبل الزاهي سحابا وتمادى غاليًا في مدحه ... فحثت في وجهه الريح ترابا وقلت في حال أشجار تراكم عليها الثلج، ثم ضربت فيها الشمس فأخذ يتقاطر على جوانبها: نسج الغمام لهذه الأشجار من ... غزل الثلوج براقعًا وجلاببا والشمس تبعث في الضحى بأشعة ... تسطو على تلك الثياب نواهبا فبكت لكشف حجابها أو ما ترى ... عبراتها بين الغصون سواكبا وقلت في حمرة الشفق: قتل الدجى هذا النهار ودسه ... تحت التراب مضرجًا بدمائه فخذوا من الشفق الشهادة إنه ... لطخ من الدم نال ذيل ردائه وربما يصاغ التعليل في قالب التشبيه كقول أبي تمام: كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيبًا فلا ترقا لهن مدامع فلو حذفت أداة التشبيه هنا لكان الباقي بمنزلة العلة الخيالية لنزول الغيث المنسجم من ينابيع السحاب، واقترانه بأداة التشبيه يجعله بحيث يسكت عنه العقل ولا يمانعه من أن يدخل في سبيل المعاني الصادقة. ومما نظمت على هذا المثال وكان الجو يقذف وقت السحر بنثار من الثلج: تطاول هذا الليل والجو مزبد ... فضاقت بأمواج الثلوج مسالكه كأني أذيب الصبح بالحدق التي ... يقلبها وجدي وتلك سبائكه وقد يقرر الشاعر معنى، ثم يقابله بأمر أوضح منه عند المخاطب دون أن يصرح فيه بأداة تشبيه، بل تكون مصدرة بأداة استفهام، كقول مسكين الدارمي: وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح أو بأداة التوكيد بالفاء كقول بشار: فلا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم أو بالفاء وحدها كقول بعضهم: لا تحسبوا أن رقصي بينكم طرب ... فالطير يرقص مذبوحًا من الألم ولنوجه البحث إلى معنى البيت الأول، ثم لا يشتبه عليك بعد تحرير الغرض منه أن بقية الأبيات جارية بمعنى التمثيل، أو ذاهبة مذهب الاستدلال والتعليل. صدر الدارمي البيت بجعل ابن عم المرء بمكان الجناح له، والشطر الثاني ينفي عن البازي أن ينهض بغير جناح، ومعنى الشطرين لا يلتئم إلا بملاحظة جملة مطوية ما بين الصدر والعجز لم يفصح عنها الشاعر لسهولة مأخذها، وبعد ملاحظة تلك الجملة يكون مفاد البيت أن ابن عم المرء بمنزلة جناحه، فلا يقدر أن يقوم بأعباء الحياة أو يدرك فيها غاية شريفة إلا بمعاضدته، كما أن البازي لا ينهض إلى الطيران إلا إذا ساعده جناحه، فالقصد تمثيل حاجة الإنسان إلى ابن عمه بحاجة البازي إلى جناحه، وليس القصد الاستدلال حتى يلتحق ببيت أبي تمام المسوق فيما سلف للاستشهاد على التخييل الذي يراد منه المخادعة، وقول الدماميني: فلا تعجبوا يومًا لكسر جفونها ... فإن إناء الخمر في الشرع يكسر فالأسلوب في نفسه وارد في الغرضين، غير أن فحوى الكلام ومجرى الخطاب وطبيعة المعنى تصرفك إلى التمثيل، أو تأخذ بك إلى الاستدلال والتعليل. وقد يعمد إلى أمرين يعدهما الناس بشدة التباين وغاية الاختلاف، فيعقد بينهما تشابهًا، وتجد هذا في قول المعري: وشبيه صوت النعي إذا قيس ... بصوت البشير في كل ناد أبكت تلكم الحمامة أم غنت ... على غصن دوحها المياد فالمعهود أن النفس ترتاع لصوت النعي وتتفطر حزنًا، وترتاح لصوت البشير وتأنس له طربًا، ولكن الحكيم يغوص في أعماق الحوادث، وينظر إلى ما تصير إليه من العواقب، فيتراءى له أن ليس في الحياة ما يدعو إلى لذة أو يستثير النفس إلى جزع، فتكون نغمة البشير وصيحة الناعي في أذنه سواء، ولا يرى فارقًا ما بين النواح والحداء. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))