النبوة النبوة إصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى على يد شخص يصطفيه من بين خلقه. معنى أنها من قِبل الله أنها ليست مستمدة من معلومات من جاور هؤلاء المصطفين الأخيار من الأقوام. بل هي أرقى بكثير مما عليه الناس وما وصلوا إليه. وفائدتها تقدم العالم بسرعة إلى الإمام وإصلاح ضمائر الخلق وما تكنه صدورهم بسبب ما توجبه من الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عقاب أو ثواب؛ وبذلك تستقيم أمورهم في السر والعلن، ذكرنا الإيمان باليوم الآخر وحده ولم نذكر الإيمان بالله مع أنهما مرتبطان أتم الارتباط؛ لأن الأول لا سبيل للعقل أن يجزم به بدون النبوة بخلاف الثاني فالعقل وحده كاف لمعرفته ومعرفة صفاته كما بيناه آنفًا. إذ الغرض الأكبر من النبوة حمل الناس على الإيمان بذلك اليوم وإصلاح حالهم الدينية والدنيوية إصلاحًا لا يصِلون إليه بأنفسهم، ولو بعد مئات من السنين إن لم نقل آلاف منها. هذا ولما كان محمد -عليه السلام- المثال الأكبر للأنبياء وتاريخه أقرب عهدًا وأصح سندًا رأيت أن أتكلم على حياته بما يقتضيه المقام؛ إيضاحًا لما أجملته فيما مر من الكلام، وهذا يستلزم ذكر أحوال العالم في ذلك الوقت، ثم أحواله -عليه السلام- وما أتى به من الإصلاح في الأرض، ولذا أبدأ الآن بوصف حالة العالم في عصره فأقول: كثرت المشاغبات في الدين، وطمس نور الحق بين العالمين. تشعبت الآراء وتعددت الأهواء، وعبد كٌّل ما شاء الشيطان من الأباطيل. عَمَّ السجود للأوثان، وعبدت الصور والصلبان، واعتقد الناس الألوهية في التماثيل. خلط الخلق في شأن اللاهوت، وتوهموا ظهوره في الناسوت، فاتخذ البشر آلهة من دون واجب الوجود. سهل على الناس اعتقاد السلطة في بعض الأفراد، وظنوا أن بيدهم الإشقاء والإسعاد، فهابوا مقامهم وأعلوا شأنهم، فطغى أولئك وبغوا، وافتروا ما شاءوا من الأحكام، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام. أصبح الناس عبيدًا أذلاء، في جهالة عمياء، اشتغل الرؤساء بالمطامع الشخصية، وتفانوا في الحصول على لذاتهم البهيمية، وأخذوا العويص من المسائل الدينية ذريعة للمشاجرات والمماحكات. فتعددت البدع وكثرت الفرق وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين، أثار كل رئيس من تحت يده من المرؤوسين، وأشهروا الحرب على الآخرين فأريقت دماء العالمين. هذا كان حال الأمم في كل بقعة من الأرض، وفي بلاد العرب أدهى وأمرّ. عم الفساد وزاد العناد، وزال العلم، وحل الجهل، وفسدت الأخلاق في سائر الآفاق. ليس ما ذكر تخيلات شعرية، ولا أفكار وهمية، بل هي حقائق تاريخية اتفق عليها أهل العلم، ولم يشذ عنهم ذو فهم. ظهر في هذا الوسط الجاهل والظلام الحالك، الذي يضل فيه كل سالك، محمد العربي والنبي الأمي. ونشأ يتيمًا فقيرًا لا أب له يهذبه ويربيه ولا معلم يرشده ويهديه. قد يزعم بعض المجادلين أنه تعلم القراءة والكتابة ليدفع بذلك ما سيُلقى على سمعه من قوة البرهان ولكنه وهمٌ نُزيله بما يأتي من الدلائل الواضحة: (١) أن الجمهور الأعظم من أمته كان أميًّا إلا نفرًا قليلاً؛ فإذا أضفنا إلى ذلك يُتمه وفقره وأميته فلا نجد أي حامل يحمله على تعلم القراءة والكتابة؛ إذ أولى له أن يسعى على عيشه من أن يصرف وقته في الحصول على شيء لا يعرفه إلا القليل ممن جاوره. (٢) تعلم القراءة والكتابة يحتاج إلى زمن ليس بقصير، وخصوصًا في بلاد ليس فيها دور للعلم ولا كتب ولا مدرسون؛ فلو سعى في تعلمهما لوجد مشقة عظيمة ولما أمكنه إخفاء أمره إذ لا بد أن يشاهده الناس ولو مرة واحدة مع أنه كان يجاهر بأميته على رءوس الأشهاد، ولم يوجد من يعارضه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: ٤٨) . (٣) لم يعهد عنه أنه كان يماشي أحدًا ممن اشتهر بمعرفة القراءة والكتابة قبل نبوَّته. (٤) لو كان أحد من الناس يعلمه لاضطر النبي إلى تقديمه على أصحابه ولأظهر له احترامًا زائدًا، ولفاه المعلم بذلك لبعض الناس مع أنه لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا. (٥) لم يشاهد أنه في منزله أو خارجه قبل النبوة أو بعدها كان يستعمل قرطاسًا أو قلمًا في تأليف شيء ما، أو تدوينه. فلو فرضنا أنه لم يشاهد وهو يتعلم فيبعد جدًّا أن لا يشاهد وهو يستعمل القراءة والكتابة في شئونه الخاصة. (٦) لو كان ابتدأ بتعلم القراءة والكتابة لا لقصد دعوى النبوة لأظهر افتخاره بذلك وجاهر به ولو كان لقصد دعوى النبوة فمن البعيد جدًّا أن يدبر حيلة كهذه وخصوصًا إذا أضفناها إلى غيرها مما يسميه أعداؤه حيلاً؛ فإنها تغيب عن أذهان الفلاسفة والسياسيين؛ لأنهم إذا دبروا عدة حيل يظهر أمرهم، ولو في إحداها على ممر الأزمان، فكيف يتأتى لواحد مثل محمد في أول نشأته أن يدبر كل ذلك بنفسه ويكتمه حتى يصير كهلاً، ولا يفتضح أمره مرة واحدة؟ إن ذلك لبهتان عظيم. والخلاصة: أن حاله ووسطه الذي تربى فيه كان اليتم والفقر، والجهل والأمية؛ والأوهام، والضلال، والوثنية، وقد أحاط به فساد الأخلاق من جميع الجهات، والتف حوله عشيرته الغارقة في بحر من الخرافات والترهات، فكيف كان تأثير ذلك في نفسه؟ لم يكن له ذاك التأثير المعهود بل نشأ منشأ يخالف ما عليه أهله وقومه: بغضت إليه الوثنية في مبدأ عمره. فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم قط، أو احتفل بمعبود مع أهله. كانوا يشربون حوله الخمور، وينغمسون في الشهوات والفجور، وهو بعيد عنهم منكر عليهم، كانوا يشتغلون بالتافه من الأمور ويثيرون الحروب لمسائل واهية، ولم يكن هو منهم، كانوا يقومون ويقعدون، ويتفانون ويقتتلون لقصيدة أو بيت شعر وهو لا يحفل بذلك ولا يجاريهم عليه. ماذا كانت حاله إذًا؟ الجد والاستقامة دأبه، والصدق والأمانة طبعه حتى عرف بين أهل مكة بالأمين وهو في ريعان شبابه. ينهمك الشبان عادة في الشهوات ولو كانوا معلمين مهذبين، ولكنه هو يتزوج العوان ويبقى معها إلى ما بعد الأربعين حتى حين وفاتها ولا ينظر إلى سواها ويعيش معها بكل طهارة وعفة فلم يسمع عنه أنه ارتكب منكرًا في زمن شبابه، أو علق بحب فتاة أو مَالَ إلى عشقها مع أن قومه كانوا غارقين في هذه البحار، وقصائدهم تشهد بذلك. ماذا كان شغله إذًا؟ كان شغله رعي الأغنام، ثم التجارة، ثم التعبد في الخلاء والتحنث بمناجاة الله تعالى. قام عند بلوغه الأربعين بدعوة الخلق إلى عبادة الحق وقرر أن للعالم إلهًا واحدًا بريئًا من كل ما ينسبونه إليه مما لا يليق به وأثبت ذلك بالحجج البينات، أمر الناس باستعمال الفكر والعقل في كل شيء ونهى عن التقليد وحض على النظر في الموجودات. أطلق للناس الحرية الصحيحة وحرم عليهم الخضوع لرئيس في الدين أو لأي أحد سوى رب العالمين، ومنعهم من الالتجاء إلا إليه مباشرة وأمرهم بالاستعانة به وحده. أعطى الروح والبدن ما يطلبانه بشرط أن لا يضر بهما ولم يحث على المبالغة في الزهد ولا الرهبانية، بل أمر بالسعي والعمل وتصريف الأعضاء فيما خلقت لأجله مع مراعاة أن لا يضر ذلك بالمرء أو بغيره. أباح الطيبات وحرم الخبائث. وأمر بالعدل والمساواة ومسالمة المخالفين في الدين ومعاملتهم بالتي هي أحسن والتوفيق بيننا وبينهم ونهى عن الإكراه في الدين وأوجب تأمين الراغبين في النظر فيه ولو وقت الحرب {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: ٦) إلى غير ذلك مما لم تهتد إليه الناس في الغرب إلا بعد أن وصل إليهم شعاع من نور الإسلام في الشرق. فارجع البصر إلى تاريخ أوروبا قبل الإصلاح الديني بلوثر وقبل الإصلاح السياسي بالثورة الفرنساوية لتعرف ما كانوا عليه. أتى مع ذلك بجميع الأخلاق الفاضلة المعتدلة والعبادات الصالحة والمعاملات الكاملة والمبادئ السليمة والسياسات القويمة وغيرها مما كان السبب في إصلاح أمر الإنسان وتحريره من العبودية، وإنقاذ العقل من الأسر، ورده إلى مملكته؛ ليحكم فيها بالقسط فنهض الشرق نهضة سريعة عالية لم يعهد لها مثيل في التاريخ، ثم امتدت إلى الغرب. فهذه هي آثار ذلك الأمي وهذه هي أعماله فماذا يجيب الضالّون؟ زعم بعضهم بعد أن سلم بأميته أنه لابد أن يكون تلقى ما أتى به من أحد الناس بالمشافهة؛ فيجيب بأن ذلك التلقي الموهوم إما أن يكون حصل قبل النبوة أو بعدها. فإن كان قبل النبوة، فإما أن يكون حصل ذلك في بلاده، أو في غيرها، أما في غيرها فهو لم يسافر إلا إلى بلاد الشام، وذلك مرتين الأولى مع عمه أبي طالب قبل بلوغه رشده، والثانية في سن الخامسة والعشرين مع غلام خديجة وفي كلتيهما لم يكن منفردًا ولم يشاهده أحد من التجار المسافرين معه يتلقى العلم عن أحد ولم يغب عن قومه إلا مدة التجارة وإلا لو غاب عنهم بضع سنين لقالوا له: لعلك تعلمت هذا مدة غيابك عنا. وهم لم يفوهوا بمثل هذا مع أنهم كانوا يحاولون أن يلصقوا به هذه الشبهة وهي التعلم من الناس وأيضًا فأي حامل يحمل هذا الفقير الذي نشأ هذا المنشأ الذي بيناه ولم يوجد من ينبهه ويرشد فكره لفضيلة العلم حتى يترك ما يقتات به وهو في تلك البلاد الأجنبية وما به إرضاء خديجة التي بعثته إليها ويجهد نفسه في البحث عن عالم ليس من أمته، ولم يكن على عقائدهم ويرضخ له حتى يبعث في قلبه كل هذه التعليمات ويسلم له فيما خالف معتقد آبائه وأجداده؟. وإن زعم أنه حصل ذلك في بلاده فهو غير ممكن لأسباب: (١) أنه كان يُشاهَد يفعل ذلك، ولو مرة واحدة. (٢) أن المعلم له إما أنه كان من الوثنيين، وهذا لا يمكن أن يعلِّمه ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من عقائد الموحدين، وإما أنه كان من اليهود، وهذا لا يمكن أن يعلمه أخبار المسيح وأمه والإقرار لهما بالفضل والنزاهة، وإما أنه كان من النصارى، وهذا لا يعلمه أن ينكر لاهوت المسيح، ولا التثليث، ولا الصلب ولا أن يرمي النصارى بالتحريف في كتبهم، ولا غير ذلك مما يوجد في القرآن من الإنكار عليهم، وإما أنه كان من المبتدعين، ومثل هذا أولى أن يشتهر بين الناس بنفسه أو تعرف له علاقة في التاريخ بمحمد عليه السلام تؤهله أن يتعلم منه. (٣) أي حامل يحمل هذا المعلم على إجهاد نفسه، وصرف وقته في تعليم هذا الغريب الأمي، ولِمَ لَمْ يدعُ الناس إلى هذه الأشياء بنفسه، أو يختار أحدًا ممن اشتهر بشعر أو بخطابة أو شيء من العلم، أو كان له جاه أو أعوان أو مال أو غير ذلك مما يكسب المهابة في قلوب الناس. (٤) أنه من الصعب جدًّا أن يقدر أحد من الناس أن يهذب هذا الأميّ كل هذا التهذيب، وأن يخرجه من عقائد آبائه وأجداده ويدخل في ذهنه مسائل النبوة والوحي، والتنزيه، والتوحيد ويجعله يعتقد ذلك اعتقادًا يقينيًّا إلا إذا كان هذا المعلم مقتدرًا عالمًا حكيمًا، ومثل هذا لم يعرف له ذكر في بلاد العرب، ولا فيما جاورها فكيف لم يشتهر بالعلم والفضل، وأي مؤرخ لذلك العهد ذكر كلمة عن أحد مثل هذا متمسكًا بما يوجد في القرآن من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق والمبادئ وغيرها. (٥) لِمَ لَمْ يُسِرّ هذا المعلم إلى أحد بأنه يعلم محمدًا ويهذبه وما الذي حمله على إخفاء هذه المسألة وكتمها هذا الكتمان المطلق؟ . (٦) لِمَ لَمْ يُشاهد محمدًا يحترم أحدًا قبل نبوته أكثر من غيره، أو يلوذ به ويلازمه كما هو شأن التلميذ مع معلمه؟ . (٧) أي شيء ألزمه الصبر أربعين سنة ولم يجعله يسارع إلى دعوى النبوة، ولم لم يبادر إلى سرد القصص التي تعلمها مرة واحدة. وكذلك الأحكام والعقائد وغيرها خوفًا من الذهاب من الذاكرة والنسيان، وهو الأمي الذي لا يمكنه أن يستعمل مذكرة لشيء مطلقًا خوفًا من أن يطلع عليها أحد وهي معه. شأن الذي يريد أن يدعي شيئًا مثل هذا أن يظهر عليه عدة محاولات تدل على ما تطويه سريرته، ثم يتجرأ فيزداد شيئًا فشيئًا، لا أن يسكت أربعين سنة ثم يندفع بدعواه مرة واحدة بعزيمة واحدة قوتها في الأول كقوته في الآخر. (٨) كيف أن هذه الفكرة لم تأخذ بلبه ومشاعره فتجعله مشتغلاً بها طول السنة؟ وكيف يتناساها أحد عشر شهرًا ويشتغل بها شهر رمضان فقط من كل سنة فيستعد فيه لما سيدعيه كما يزعمه أولو الأهواء في عزلته السنوية؟ عادة المفترين أن تأخذ مثل هذه النيات بحواسهم وعقولهم حتى يظهر للناس أنهم دائمًا في انشغال بال، ولكن النبي ما كان يشغله شيء عن شيء وإلا لأنهك الفكر بدنه، وصار سقيمًا، وكلت قواه العقلية من كثرة الحيل، وتعدد الصعوبات التي كان يلاقيها فتضعف عن أن تدبر كل ما كان يدبره لولا الإرشادات الإلهية، والإلهامات الربانية وكيف علم أنه لن ينقضي أجله حتى يتم القرآن في آخر سنة من حياته ويأمن على نفسه فيأتي به نجومًا نجومًا؟ وإن كان التعلم حصل بعد ظهوره بالنبوة: (١) فكيف ابتدأ دعواه على جهله، وأي منبه قام بفكره حتى حمله على ذلك وكيف ضمن أنه يجد من يعلمه. (٢) لِمَ لَمْ يشاهَد مرة يلجأ إلى أحد الناس ليتعلم منه؟ . (٣) لِمَ لَمْ يقدِّم هذا المعلم ويفضله على أصحابه أو يوصي له بالخلافة ولِمَ بقي معلمه مرءوسًا له، ولم يكن رئيسًا عليه؟ (راجع أيضًا الأوجه السابقة) . (٤) لِمَ لَمْ يوجد بين أصحابه من كان يأنف من أن يتلقى العلم عنه ويخضع لأمره وينتهي بنهيه، فأين كان هذا المعلم حتى ساوى نفسه بأصحابه؟ هذا ولم يعرف أحد بينهم ممتازًا بعلم سوى ما أخذه بإقرارهم جميعًا عن كتاب الله وحديث رسوله فإن كان هذا المُعلم موجودًا في عصر النبوة، فلِمَ لَمْ يشتهر قبل دعوى محمد بالعلم الفلسفة؟ ولِمَ أخفى نفسه حتى ادَّعى محمد النبوة؟ ولِمَ لَمْ يظهر بين العرب حتى تجلّه وتحترمه احترامها لمحمدٍ؟ وأي شيء استفاده حتى يكتم كل هذا؟ فيالله من التعصب الذي يُعمي ويُصمّ. علمت مما تقدم أنه كان أميًّا، وأنه لم يتلق العلم عن أحد شفاهيًّا فكيف أتى بما أتى؟ وكيف عمل ما عمل؟ شيء آخر في تاريخه، وهو أنه لم يجارِ العرب في الاشتغال بالشعر، أو النثر، أو الخطابة، أو غير ذلك مما كانت تتفانى فيه العرب ولم يشتهر بينهم بشيء من ذلك مطلقًا ولم ينقل عنه أنه قال كلامًا في منتهى البلاغة قبل نبوته وكان قليل العناية بمجتمعاتهم وافتخارهم بنثرهم ونظمهم فكيف أتى بهذه البلاغة الخارقة للعادة؟ وكيف أتى بهذا الأسلوب المعجز واخترعه؟ وكيف لم يوجد فرق في البلاغة بين أول ما نزل من القرآن وآخره مع أن العادة أن الإنسان يتدرج في الشيء فيكون آخر ما أتى به أحسن مما ابتدأ بإنشائه؟ وكيف يكون الكل معجزًا مع أن المعتاد من البلغاء أن يكون بعض كلامهم في منتهى البلاغة والبعض الآخر ليس كذلك؟ كيف لم تجد العرب إعجازًا في كلامه الذي ينسبه لنفسه قبل النبوة أو بعدها؟ مع أنه لم يظهر عليه شيء يدل على عنايته بإنشاء أحدهما دون الآخر، بل كثيرًا ما كان يقول أحدهما في عين الظروف التي يقول فيها الآخر بدون تكلف أو تحوير فيما يلقيه من أول وهلة. كيف أمكنه الجزم بأن جميع الناس لن تقدر على الإتيان بكلام مثل القرآن منفردين ومجتمعين، ويخبر بذلك قبل وقوعه ويصدق خبره {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: ٢٤) الآية وغيرها فما هذه الحجج الملجمات؟ وما هذه البراهين المفحمات؟. قام بالدعوة إلى الله وحده، ولا حول له ولا قوة، والناس حواليه أحباء ما ألفوا أعداء لما دعوا إليه. فسفه آراءهم. ونكس أصنامهم. ولاقى بسبب ذلك منهم ما لاقى ما يثبط الهمم ويذهب بالعزائم، لولا تثبته في أمره وجزمه بالظفر والنجاح. نجا من جميع الشراك التي كانت تُنصب له في الحروب وغيرها، وسَلِمَ من الدسائس التي كانت تعمل له والتربصات لقتله غِيلةً، التي كانت تعقد عليه، ووعد أصحابه بالنصر والفتح والتمكين في الأرض والخلافة، فوقع كل ذلك لهم، وصدق في جميع ما أخبر به من المغيبات. تحققت نبوته وصح إخباره بانتصار الروم على الفرس في السورة المعروفة مع أنهم كانوا في حالة لا يرجى معها نصر لشدة ضعفهم وقوة عدوهم، وهو لم يكن من السياسيين ولا المطلعين على مواقع البلاد وأحوال الأمم وتاريخها فكيف يتأتى له الحكم بشيء مثل هذا ويعرض نفسه للتكذيب والخذلان مع أن المسألة ليست مما يهم كثيرًا، حتى يبت الحكم فيها؟ فلولا ثقته بالوحي لما تجرَّأ على القول بأنهم سيغلبون في بضع سنين، وعرض نفسه للسخرية والتكذيب وهو أحرص الناس على عدم افتضاح أمره كما يقول أعداؤه. وإذا صحت قراءة من قرأ (سيغلبون) بالبناء للمجهول، أي أن المسلمين تغلبهم ففيها أيضًا الإخبار بمغيب لو لم يقع لظهر كذبه! . اجتمعت عليه العرب مرة أحزابًا واتحدوا على محو ذكره من الوجود انتقامًا. فأرسل الله عليهم ريحًا وألقى في قلوبهم الرعب من غير سبب ففروا انهزامًا. وكفى الله المؤمنين القتال. فما كل هذه المصادفات إن صح ما يقول الواهمون الذين يتمحكون بهذه التأويلات الفارغة ويتمسكون بالتعليلات الباردة. سمعت من بعضهم بعد أن أدهشه الدليل بأن النبي لم يتعلم من واحد مخصوص قولاً يريد به تسكين نفسه وتهدئة خاطره، وهو أنَّ ما كان يسمعه النبي ممن حوله من الناس في مسائل الدين سهل عليه الإتيان بما أتى به، وأنه كان يتصيد معلوماته ممن جاوره من النصارى واليهود باستراق السمع منهم فأقول له: مهلاً أيها المعجب بتفسيراته، المغرور بتعليلاته، واستمع لما سأتلو عليك وأنت شهيد، ولا تكن ممن عن الحق يحيد: إنه لم يكن في مكة من أهل الكتاب إلا أشخاص يعدون على أصابع اليد الواحدة، وكانوا من أجهل الناس، وأحطهم مقامًا في الهيئة الاجتماعية، وكانوا يحترفون بدنيء الحرف، كخدمة بعض العرب أو الاتجار في بعض أشياء حقيرة. وقد نزل في مكة من القرآن ما كان محمد في أشد الحاجة إلى من يلقنه إياه فهل يسلم العقل أن علم محمد مستفادة من هؤلاء الأشخاص؟ هبْ أنه كان يتصيد المسائل من نصارى العرب ويهودها، فكيف أمن من الوقوع في خرافاتهم التي يجزم العقل ببطلانها كقصة شمشون، وما يتعلق بقوته وشعره ونحو ذلك من الأوهام التي كانت ولا تزال منتشرة بين النصارى واليهود إلى اليوم؟ لم تنزَّه كلامه عن أضاليلهم في المسألة اللاهوتية كعقائدهم في المسيح والصلب والتثليث، ومصارعة الله بعض الأنبياء، وظهوره بمظهر شخص لم يترو فيما فعل فندم بعد ذلك على ما وقع منه كأنه لم يكن يعرف عواقب الأمور؟ أليس من المعهود أن الإنسان يقع في بعض غلطات من كان يجعل كلامهم معتمدة فيما يعتقد أنه صواب؟ فلماذا لم يقع محمد في خطأ واحد من خطئهم؟ ! كيف سلم كلامه من الغلطات في المسائل العلمية التي كانت منتشرة بينهم في ذلك الوقت كاعتقادهم أن الشمس وقفت لفلان، أو رجعت بعض درجات، وأن الحية لا تأكل إلا التراب، مع أنها لا تأكل التراب، وكالأوهام في شأن جنة عدن وما ذكر معها من الأنهار مما لا يصدق به إلا الجهلة من أهل التخريف إلى غير ذلك مما كان ذائعاً بينهم ولا يزال إلى الآن. هل يعرف الأمي الذي نشأ في وسط الجهل وفي زمن الجهل ما صح من المسائل وما فسد منها حتى إنه لا يقع في كلامه إلا الصحيح مع أن انتشار الخرافات والأقوال الفاسدة كان بحيث إذا كلف فليسوف بانتقادها واختيار صحيحها لوقع في الوهم، ولحكم على بعض الصحيح بأنه باطل وعلى كثير من الباطل بأنه صحيح، وخصوصًا في ذلك الزمن، وفي تلك البلاد العربية التي كان فيها العلم عبارة عن مجموع خرافات للعجائز اختلطت بشيء لا يخلو من الصحة من بعض الوجوه؛ فما بالك بمحمد الأمي والرجل العامي؟ . أيتصور أن هذا الرجل الذي كان يعتقد في أهل الكتاب أنهم غاشون ماكرون يحرفون الكلم عن مواضعه، ويفترون على الله الكذب، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا، أيتصور منه وهو يعرف كل هذا عنهم أن يثق بأقوال يسمعها من أفواه الجهلة منهم، ويزعم بعد ذلك أنها من عند الله مع أنه ما كان يثق بقول أعظم عالم من علمائهم، بل كان يرميهم بأنهم لا يفهمون حقائق ما عندهم من الكتاب، وأنهم يختلقون أشياء كثيرة لتضليل عامتهم وغشهم؟ فكيف يعول النبي الذي لا ينكر أحد رجحان عقله على قولهم مع أنه شرح للناس مكرهم وكذبهم، وكيف لا يخاف أن يكذبوا عليه ويغروه ويقعوه في الخطأ الذي لا يمكنه التخلص منه. وكيف يسلم لأحد منهم ما يقوله في دينه مع أنه يجوز أن يكون مخطئًا، ولا أثر لما يقول في الدين لما نشاهد ذلك كثيرًا في المسلمين، وغيرهم فكم من غلط وقع فيه الكُتَّاب الغربيون أثناء كلامهم عن الإسلام وعن عقائدهم بسبب ما يسمعونه من جهلة المسلمين. هل يمكن للعامي الأمي إذا سمع خليطًا من قصص بني إسرائيل من أفواه آحاد الناس في مجالسهم مشوهة ممزوجة بكثير من الخرافات كما هو شأن العامة في أحاديثهم غير مرتبة على حسب وقوعها، وغير مفصلة تفصيلاً يزيل ما اشتبه على الأفهام بحيث لا يُدرى صحيحها من كذبها، أن يفهم منها حقيقة تاريخهم وعقائدهم ودعوى أنبيائهم، ويأتي بعد ذلك بتفاصيل أهم حوادثهم، وذكر أعظم رجالهم وما حدث لهم ويشير إلى ترتيب أزمنتها وإلى بعض البلاد التي وقعت فيها وإلى موقعها الجغرافي، كأن يومئ إلى موقع البحر الأحمر بالنسبة إلى مصر بقوله: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} (الشعراء: ٦٠) ويأتي على القصص الطويلة كقصة يوسف وموسى وإبراهيم ولوط وغيرهم ويعرف نسبة كل منهم إلى الآخر ويرتبها على حسب ترتيبها الطبيعي من غير تقديم أو تأخير في حوادثها، أو يخلط فيها مع أن هذا التاريخ أجنبي عنه وعن قومه ولم يدرسه دراسة تمكنه من أن يكتب إحدى حوادثه الكبيرة؟ تصور حالة عامي من عامة المصريين إذا سمع أقوالاً متفرقة متشعبة من أفواه بعض جهلة الأوروبيين عن تاريخه فهل يمكن هذا العامي أن يأتينا بشيء عظيم صحيح من تاريخه مثل ما أتى به القرآن، ويسرد علينا آراءهم ومبادئهم ومعتقداتهم، ويذكر أهم رجالهم ونسبتهم وتاريخ حياتهم وما أتوا به من الإصلاح في بلادهم وينبه على وجوه العبرة في كل ما يقص علينا، وعلى ارتباط الحواث بعضها ببعض، ولا يذكر إلا الصحيح منها، ويترك الأباطيل التي ألحقتها الأوهام بها. قل لي بأبيك هل هذا ممكن؟ يزعم البعض أن في القرآن خطأ في هذه المسائل، ويأتوننا بأشياء تعد على أصابع اليد الواحدة، ويزعمون أنها غلط من غير اعتماد على دليل صحيح يعتد به. فلو كان مصدر القرآن كما يقولون، هل كنا نجد فيه هذه الغلطات القليلة؟ (على زعمهم) فقط غير الثابتة، أم كنا نجد كل صحيفة ممتلئة بالأوهام والخرافات والخلط في المسائل والخبط من غير اهتداء إلى صحيحها وذلك من غير كثير عناء وتعب، بل مجرد مطالعتها كان يضحكنا ويجعلنا نهزأ بها ونتعجب من ترهاتها وخصوصًا في زماننا هذا الذي صار فيه تلامذة مكاتبنا يضحكون من أفكار بعض فلاسفة من سبقنا، ويتفكهون بذكرها ولا نحتاج إلى البحث والتنقيب، وصرف الوقت في الحصول على هفوة قلّ أن تجدها في القرآن وإذا وجدناها؛ فإنها لا تلبث أن تزول بعد التروي والتأمل والتعمق في البحث. فهل هذا هو ما ننتظره في قول العامي المصري الذي ضربناه لك مثلاً أم كنا نستلقي على قفانا من الضحك عند سماع بضعة أسطر من كلامه في المسائل الطبيعية، والتاريخية، والعمرانية، والأخلاقية واللاهوتية والشرائع المدنية والعبادات الدينية - إذا حاول أن يملي علينا شيئًا من ذلك؟ استحضر الآن في فكرك ما أتى به القرآن. أليست الشريعة الإسلامية تضارع أعظم الشرائع كالرومانية وغيرها؟. أليست الأخلاق المحمدية أكمل الأخلاق لتقويم النفوس مع خلوها من الضعف، وما يوجب المسكنة وإذلال النفس وغير ذلك مما ورد في غيرها من التفريط أو الإفراط؟ أليست قصص القرآن عبرة لمن اعتبر مع بُعدها عن سفاسف الأمور، واللغو الذي لا فائدة فيه؟ قارنها ببعض أسفار العهد القديم مثلاً كسفري الملوك وأخبار الأيام. أليس من المبادئ الإسلامية ما لم تهتد الناس إليه إلا في العصر الحاضر؟ . ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... حكيم بسجن طره (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))