للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الصنائع والتربية والتعليم [*]
الصنائع ركن من أركان المعيشة الإنسانية لا يستغني عنها البشر في طور
من أطوار حياتهم وهي تترقى بترقي النوع في مدارج الحياة، فتبتدي في طور
البداوة بما يناسبه من البساطة والسذاجة والبعد عن الزخرف والزينة، ولا حد
لنهايتها، وإنما يسوق الناس إلى الترقي فيها الحاجة، فكلما ازدادوا عمرانًا وعلمًا
تجددت لهم حاجات تناسب الطور الذي ارتقوا إليه، والحاجة أم الاختراع، فهي
التي تهديهم إلى الاستنباط والعلم.
مطالبة الأمة في طور من أطوار الحياة بالصنائع التي تناسب طورًا أعلى منه،
إعجاز وإعنات، لا سيما في هذه الأزمنة التي بنيت فيها الصنائع على أسس العلوم
الطبيعية والرياضية والاقتصادية، فإذا كلفنا تجار بغداد - الذين طلب منا مكاتب
جريدة وكيل الهندية الغراء أن نحثهم على إنشاء المعامل - أن ينشئوا معملاً للقطن
أو للصوف، ونحن نعلم أنهم يحتاجون في ذلك إلى اجتلاب جميع آلات المعمل
وأدواته من أوروبا بأثمان أغلى مما هي عليه في بلادها، وإلى نفقات النقل مع
صعوبة المواصلات، وإلى دفع المكوس والضرائب للحكومة، وإلى عمال من
الأجانب يشتغلون في المعمل لجهل الوطنيين بذلك، فهل نقدر على إقناعهم بأن
مصنوعهم هذا يمكن أن يباع بالسعر الذي يباع به مثله من المصنوع الأوروبي مع
الربح الذي يساوي أو يُربي على ما يربحونه من تصريف أموالهم في تجارتهم
الحاضرة؟ لا بد لمن يحث هؤلاء على عمل كهذا أن يعرف جميع ما أشرنا إليه
مفصلاً تفصيلاً.
التجار والعمال أعلم بموضوع عملهم من أرباب الجرائد، وإن كانوا لا
يستغنون عن إرشادها، وما توصله إليهم من أنباء أبناء صنفهم وأعمال البعداء عنهم
مما يتعلق بالموضوع نفسه، وغير ذلك مما يحتاجون لمعرفته فيما هم فيه، كما تحتاج
السياسة إلى الجرائد السياسية. ربما تنبه الجرائد أهل السياسة أو التجارة والصناعة
إلى ما لم يحيطوا به علمًا؛ لأنها وصلة الهيئة الاجتماعية وملتقى أفكار الأصناف،
ولكن لا يقول أحد: إن قوام السياسة أو غيرها بالجرائد، وأن كتابها أعلم من
السياسة والتجار والصناع في مواضيع أعمالهم.
من مست حاجته إلى شيء وتهيأت له أسبابه تكفيه الإشارة الإجمالية إلى الأخذ
به، ويزيده التفصيل بصيرة، ومن يؤمر بما تنافيه حالته في نفسه وفي قومه
ووطنه، فجدير بأن لا يمتثل الأمر ولا يعي الخطاب.
إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت ناصحًا ... فمُرْ بالذي لا يستطاع من الأمر
مما شرحنا تفهم السر في اكتفاء الديانة الإسلامية - التي جاءت لسوق الناس
إلى سعادة الدارين - بالإرشاد الإجمالي في المصالح الدنيوية، كقوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: ١٣) ونحوها، وقوله عز
وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) وقوله:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: ٧٨) والشكر إنما يكون باستعمالها فيما خُلقت لأجله،
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياًّ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: ١٤) الابتغاء من فضله مفسَّر بالتجارة.
اكتفى القرآن بمثل هذا الإجمال والتنبيه على أن للكون سننًا لا تتغير ينبغي
الاهتداء بها، وأفاض في تقبيح العقائد الباطلة والحث على الأخذ بالبرهان في
الاعتقاد، كما أفاض في الحض على تهذيب الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ لأن هذا
هو الذي يجمع كلمة الأمة ويرقيها في معارج الكمال الاجتماعي، وعند ذلك تهتدى
إلي ما في ذلك الإجمال من الإرشاد إلى السعادة، فتندفع له عن بصيرة وعقل،
فتبلغ الغاية منه بإذن الله تعالى.
والخلاصة أن لكل مقام مقالاً، ولكل طور من أطوار الحياة أعمالاً، ونحن
معشر المسلمين اليوم منحطون في كل شيء ومحتاجون أشد الاحتياج إلى مجاراة
مجاورينا في كل ما هم فيه من التقدم الاجتماعي والمدني والعسكري، ويتوقف ذلك
على علوم وفنون وأعمال وصناعات نحن في بعد عنها كلها بقدر ما نحن في حاجة
إليها، وما يبعدنا عنها أمور كثيرة ترجع إلى شيئين، وهما: الدين، والحكومات.
أما الدين فمن وجهين:
(أولهما) : الإعراض عنه تخلقًا وعملاً؛ لعدم تعلمه والتربية عليه على الوجه
الذي ينبغي، ولذلك تفرقت الكلمة وارتفعت الثقة وصار الإخوة أعداء، ولا يمكن
مع هذا القيام بالصنائع والأعمال النافعة التي تتوقف على الاجتماع والتعاون
وروحهما الثقة، وهي لا تحصل بالتكلف ولا بالإجبار، بل يكون الإنسان أهلاً لأن
يوثق به لصدقه وأمانته ونشاطه، وكل هذا يكون بالتربية والتعليم الصحيحين.
(وثانيهما) : فهمه على غير وجهه؛ فإن أكثر المسلمين يعتقدون أن العلوم
الطبيعية والرياضية كفر، وكل من تعلمها تفسد عقيدته، ويحتجون على ذلك بأن
متعلميها لا يبالون بالدين، والسبب الصحيح في عدم المبالاة هو عدم تعلم الدين
وعدم التربية عليه، وربما كان قول بعض شيوخ الدين لمن تكلم في مسألة من هذه
الفنون يعتقدها بالبرهان: أنها من الكفر ومخالفة للدين - سببًا في اعتقاده بطلان
الدين؛ لأن كل ما خالف الحقيقة الثابتة بالبرهان باطل، ويقع مثل هذا كثيرًا.
وأكثر المسلمين يعتقدون أيضًا أن السعة في الدنيا خاصة بالكافرين، ومن
الجمل المسلَّمة الدائرة على ألسنتهم: (لهم الدنيا ولنا الآخرة) وقد جاءهم هذا
الوهم من الوعاظ وخطباء الفتنة، وقد أوردنا لك آنفًا قوله تعالى: {هِيَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) وهو صريح في أن
الزينة والطيبات هي موهوبة من الله تعالى للمؤمنين باستحقاق؛ لأنهم الذين
يشكرون عليها ويأخذونها بحقها، وإن كان غيرهم يشاركهم فيها كما أفاده قوله:
] خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ [ولهم غير ذلك من الاعتقادات المأخوذة من الدين على غير
وجهها، وهي من عقبات التقدم والإصلاح، وقد ألممنا بها في المقالات السابقة إجمالاً
وتفصيلاً.
وأما الحكومات فهي متمكنة بما لها من الاستبداد المطلق والسلطة النافذة من
تمهيد العقبات والنهوض بالأمة في أقرب الأوقات كما فعل ميكادو اليابان، ولكنها
تُعسِّر ولا تُيسِّر، وتمنح الأجنبي وتحرم الوطني، وتفصيل ذلك يطول، والشواهد
عليه كثيرة جدًّا، نكتفي هنا بواحدة منها، وهو ما كُتب إلينا حديثًا من سوريا، قال
المكاتب ما مثاله:
احتكر المسيو موسى فريج من بيروت من عدة سنين بضاعة إفرنجية، وهي
نوع من نسيج الديباج أو الإستبرق يتخذ سجوفًا للمناظر (ستائر للنوافذ والشبابيك)
وظهارات للأرائك والمقاعد، يبيع الذراع منه بثمانين قرشًا إلى ١٥٠ قرشًا،
فاطَّلع على ذلك أحد المهرة في صناعة الحياكة والنسيج من أهل دمشق الشام، فأنشأ
يقلد هذا النسيج حتى جاء بخير منه متانة وحسنًا وأرخص منه ثمنًا، فهبطت أسعار
النسيج الإفرنجي، ونقص ربح فريج الفاحش، فطفق يتجسس الأخبار ويبحث عن
السبب حتى اهتدى إلى ما كان من النساج الدمشقي، فابتغى إلى رشيد بك والي
بيروت الوسيلة في منعه، فقابل الوالي ذلك بما تقتضيه عثمانيته من الاهتمام،
واستحضر ذلك الوطني المسكين، وحتم عليه ترك العمل وهدده بالعقوبة إذا هو عاد
إليه، ولم يكتفِ بذلك، بل كسر له المنوال الذي يحوك عليه، لكن حلاوة الربح
حملت العامل على اتخاذ منوال آخر يحوك عليه سرًّا، قال الكاتب: وهذا النسيج
الوطني يباع الآن في بيروت سراً كما يباع البارود والديناميت، إنا لله وإنا إليه
راجعون.
هذا هو الوالي الذي تقدسه جرائد سوريا، ويشفع له بعض المقربين كلما أراد
مولانا السلطان عزله، أي خزي تخزى به أمة أشد من نزول البلاء عليها من حيث
تُرتجى النعماء لها، وفيضان طوفان الشقاوة عليها من سماء السعادة؟ أمة هذا شأنها
بماذا يكون إرشادها؟ ما هو الأهم الذي يقدَّم على المهم؟ بماذا ينبغي الإسهاب
والتفصيل، وما الذي يكفي فيه الإجمال والاختصار؟
يذهب قوم إلى أن الأهم المقدَّم هو التحامل على الأمراء والحكام وإظهار
معايبهم، وآخرون إلى الترغيب في الأعمال والصنائع وما تتوقف عليه من العلوم
والفنون، وهذا ما تلهج به الجرائد العملية والسياسية. أما رأينا فهو: أن أهم ما
يجب تقديم العناية به وتفصيل القول فيه هو الحث على التربية والتعليم الصحيحين،
إذ بهما تتآلف القلوب وتجتمع الكلمة وتُعرف الحقوق والواجبات الملية والقومية
والوطنية معرفة كاملة تبعث الإرادة على العمل، ومتى تكونت الأمة وتربت
وتعلمت فهي تصلح حكامها، وتندفع بطبيعتها إلى الأعمال النافعة والصنائع المفيدة؛
ولهذا أنشأنا المنار وعليه جرينا، نعم إننا ما قلنا ولن نقول: إنه لا ينبغي أن يكون
مع التربية والتعليم شيء آخر، بل حثثنا ولا نزال نحث على تأليف الشركات
المالية للقيام بالأعمال النافعة، زراعية وتجارية وصناعية، بحسب ما تقتضيه حالة
الزمان والمكان، ونبين أن ذلك لا ينافي الدين، بل يحفظه ويعزه، ونكل التفصيل
في ذلك لأهله، جريًا على سنة الدين، فقد كان الشارع عليه السلام يرغب في
الأعمال بمثل قوله: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرسها) وهو أبلغ ما
يقال في التنشيط على العمل الدنيوي، وقال في حادثة تأبير النخل: أنتم أعلم بأمور
دنياكم.
هذا هو رأينا، ومن أُشربه في قلبه لا يعذلنا فيه، وبالله التوفيق.