للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بحث أبدية النار

حضرة مولانا السيد السديد، الأستاذ الأكبر محمد رشيد رضا، أدام رشده
الرب الفعال لما يريد، آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد اطلعت على جزئي المنار
الأغر الأول والثاني من المجلد الثاني والعشرين، فألفيت بهما وجوه الفرق بين الجنة
والنار المنقولة عن ابن القيم - رحمه الله - بدوام الجنة وفناء النار، بخلاف ما
عليه المسلمون [١] من دوامهما معًا بدوام الله تعالى، وهو الحق الموافق للمعقول
والمنقول والحكمة، وأما الشُّبَهْ التي ذكرها ابن القيم فما هي إلا سراب، وقد عجبنا
من تحسين فضيلتكم لتلك الوجوه وأنها تفيد المارقين، وأنها الموافقة للغة دون
الاصطلاح الكلامي مما كاد يكون صريحًا في الميل لها، ومما زادني عجبًا قول
فضيلتكم في نهاية تعقيبها بأنها تنفع المارقين، ولا تضر المؤمنين بقول الجمهور
مستدلين أو مقلدين، فكيف الجمع بين متنافيين في عقيدة يجب توحيد الحق فيها [٢] ،
على أن ابن القيم نفسه لم يجزم بتلك الوجوه بدليل قوله عقبها: (فإن قيل: فإلى أين
انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف
مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: ١٠٧) إلخ،
وليس في هذه الآية ما يدل على فناء النار أصلاً، وإذا جاز تأويلها مع آيات التأبيد
الكثيرة فأي مانع يمنع من تأويل قوله تعالى في الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: ١٠٨) بأنه غير مقطوع ما دامت الجنة، كما قيل في العذاب، فالفرق بينهما
تحكم بدون موجب أصلاً، ودعوى أن الجنة مقتضى صفات الذات والنار مقتضى
صفة الفعل ليست بشيء؛ لأن العذاب الدائم مقتضى صفة القهر الدائمة كما سيأتي،
وقد ذكر ابن القيم تلك الوجوه أيضًا في كتابه شفاء العليل، وتوقف فيها ثم قال إثرها:
أو من كان عنده فضل علم فليحدثه. إشارة إلى عدم كفايتها في الدلالة مع الاجتهاد
في تحسينها كل التحسين بذكر أشياء حسنة في نفسها لكنها بعيدة عن المقصود، ولقد
وجدنا تلك الوجوه يناقض بعضها بعضًا، فتارة يذكر فيها استحالة دخول الكافر الجنة
كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف:
٤٠) وتارةً تجيز العفو عن الكافر بعد تطهيره بمكثه طويلاً في العذاب وبعد فناء
النار، ولا معنى للعفو والتطهير إلا إدخاله الجنة بعد ذلك، فخالف في ذلك صريح
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: ٤٨) هذه بعض ملاحظاتي
على ذكر تلك الوجوه الفاسدة والشبه الكاسدة بمجلة المنار الأغر، ولم يكن بد من
البحث وراء الحقيقة، فنقول بالاختصار:
إن تلك الوجوه ترجع إلى خمسة أمور:
أولها: مخالفة أبدية النار للعقل، ثانيها: النقل لا يفيد الأبدية، الثالثة:
الأبدية مخالفة لكون دائرة رحمة الله أوسع من دائرة غضبه، رابعها: لا مانع من
توبة الكافر بعد طهارته بالعذاب ولو بعد حين، خامسها: مخالفة الأبدية للحكمة.
وسنبين بطلان الجميع إن شاء الله، فنقول:
أما الأول: فهو أن هؤلاء الكفار لما زاولوا الكفر أو المعاصي عنادًا أو إهمالاً
مرة بعد مرة مع الإصرار عليها حتى صارت ملكة راسخة، فهم خبثت ذواتهم خبثًا
دائمًا، وأصروا على كفرهم وعصيانهم أبد الآباد، وعزموا على أن يدوموا عليه
ولا يتركوه بحال من الأحوال، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا
لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: ٢٨) ودعوى أن ذلك بالوقوف فقط، وعدم العذاب
بالفعل [٣] مردود بأنه لا فرق بين رؤية العذاب واقتحامه، على أنهم لم يطلبوا الرجعة
عند رؤيته فقط بل طلبوها مرارًا بعد مكثهم في العذاب؛ لقوله تعالى زجرًا للقائل
منهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} (المؤمنون: ٩٩-١٠٠) ، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا
ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون: ١٠٧-١٠٨) ، ونحو ذلك
من الآيات الكثيرة في هذا الصدد، فكان دوام العذاب جزاءً وفاقًا على قدر الجريمة
والمعصية، ألا ترى لو أن ملكًا وضع قانونًا لرعيته بيّن فيه عقاب كل جريمة،
واقتضى نظام رعيته، وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله وعرضه أنه جعل عقوبة
جريمة القتل مثلاً السجن الدائم مع الأشغال الشاقة، وأعلن ذلك على رعيته، ثم
ارتكب بعد ذلك واحد منهم تلك الجريمة، فعاقبه عليها بمقتضى قانونه الذي علم
الجاني قبل إقدامه على الجناية، فالعقل لا يستقبح ذلك، بل يعده العقلاء عدلاً
وحسنًا، فكذلك صنع الله الحكيم في خليقته جعل عقاب الكفر عذابًا أليمًا دائمًا في
دار الآخرة؛ لأنه جحود بنعمة من لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته، وقد بين
كل ذلك على لسان رسله، ونصب الأدلة في الأنفس والآفاق، ووعد أولئك الكفار
أنهم إن تابوا - أي: في الدنيا - يغفر لهم ما قد سلف فضلاً وكرمًا، وقال سبحانه:
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال: ٣٨) ، ثم إنه لا
شك أن الملك إذا وضع قانونًا وجعل فيه لكل جريمة عقابًا، فإذا لم يجزم الناس بأن
ذلك الملك يوقع عقاب كل جريمة على فاعلها كان جعل تلك العقوبات في ذلك
القانون عبثا ولا يفيد فائدته المطلوبة، ولولا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن
يَشَاءُ} (النساء: ٤٨) ما كان العقل يجيز العفو عن غير المشرك، ولكنه حيث
قال - وقوله الحق - قلنا بجوازه.
وأما الثاني: فلا شك أنه جاء ما لا يحصى في القرآن والسنة المتواترة مما
يدل على خلود الكفار في النار والعذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها، ودعوى عدم
صراحة الآيات والأحاديث في دوام العذاب، فهو بفرض تسليمه يرد بأنها: إن لم
تكن صريحة فيه فهي فيه ظاهرة، وقد صرح الأصوليون بأن دلالة الظواهر
الكثيرة على ما يظهر منها قطعية، على أن قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: ٣٧) بعد قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: ٣٧) كما ينفي
موتهم فيها مع بقائها ينفي فناءها حيث وصف نفس العذاب الحاصل بالنار بأنه مقيم؛
أي: دائم، ولولا هذه النكتة لم يكن له فائدة بعد قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: ٣٧) كما لا يخفى.
وأما الثالث: فمبني على أن الكفار أكثر من المؤمنين كما يقتضيه قوله تعالى:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} (هود: ١٧) فيكون المعذبون الخالدون أكثر
من المنعمين، فكيف تكون دائرة رحمته أوسع من دائرة عقابه؟ نقول: إن هذه
الكثرة بالنسبة إلى بني آدم فقط، وبنو آدم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور
والولدان:
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: ٣١) , {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٨) فيكون أهل الرحمة أكثر أهل من أهل الغضب، على أن أهل النار
مرخومون في عذابهم، فإن ما عند الله من كل شيء لا يتناهى، وبعض الشر أهون
من بعض، وهم مختلفون في العذاب، وإن ظن كل واحد من أهلها أنه أشد الناس
عذابًا، لكن الكلام إنما هو في الواقع ونفس الأمر، على أن الجميع ما داموا في
دائرة الوجود والحياة فهم في دائرة رحمة الله والفيض العميم، فإن كلاًّ منهما من
النعم التي يحافظ عليها الإنسان ويتجشم لأجلها أبشع الأدوية.
وأما الرابع: فلم يقل أحد: إن التوبة تنفع في الآخرة، فأما من تاب في هذه
الدار - دار العمل - من الكفر، فقد أبدل الكفر القبيح بضده الحسن اختيارًا منه،
وامتثالاً لأمر الله تعالى، فهناك كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى
هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها العمل أو يضر، ويمكن للعبد
باختياره أن يتدارك ما فاته من الأعمال الحسنة، وأن يندم على ما عمله من
الأعمال القبيحة فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن، قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: ١١٤) فلا بدع في مغفرة الله جودًا
وكرمًا ورحمة وفضلاً، وأما في الدار الآخرة التي هي دار الجزاء على الأعمال، لا
دار عمل فلا تنفعهم التوبة أصلاً، فقد اختلفت الداران وامتاز الفريقان {فَرِيقٌ فِي
الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: ٧) وانتهى الأمد بعد الذي ضربه الله على
لسان رسله للعمل وقبول التوبة، وقد رأينا في هذا أن الدواء ينفع وقتًا محدودًا، فإن
فات ذلك الوقت واستحكم الداء فلا ينفع الدواء.
وأما الخامس: وهو أهمها، فسنبين بعون الله تعالى من وجوه الحكمة في
دوام عذاب الكفار وعدم فنائها ما يكون ناقضًا للأساس الذي بنى عليه ابن القيم تلك
العلالي من مخالفة دوام العذاب للحكمة، فنقول: أما حكمة النهي عن الشرور
والوعيد عليها؛ أي: وعيد الكفار بتأبيد العذاب وغيرهم بالعذاب المؤقت فهي إرادة
تقليل وقوعها حتى لا يفسد الكون ويتم له ما قدر من الأجل، ونحن نرى المؤمن
المصدق بوعيد الله ورسوله تصده الشهوات والشياطين عن الانزجار بالوعيد مهما
بلغ من الشدة والصرامة؛ اغترارًا بكون العذاب مهما طال ينقطع، فكيف بالكافر
المكذب بالوعيد إذا كان العذاب الذي توعد به منتهيًا؟ أفيصح أن يكون توعدهم به
زاجرًا لهم عن كفرهم كزجر الوعيد بالعذاب الدائم؟ أفيبعد أن يكون العليم الحكيم قد
علم أنه لو لم يجعل عذابهم دائمًا لما آمن من الناس من يكون إيمانهم مانعًا من
مصير الكون إلى الخراب والفساد قبل انتهاء الأجل المقدر له؟ ثم في دوام عذاب
الكفار دوام ظهور آثار طائفة من أسمائه تعالى كالقهار والمنتقم، كما أن في بقاء
نعيم المؤمنين بقاء آثار جملة أخرى منها كالجواد والكريم، ومعلوم أن جميع
مدلولات أسمائه تعالى صفات كمال يجب بقاؤها له، وفناء النار وأهلها ينافي ذلك،
ولا جائز أن يقال: يمكن أن يخلق بعد هذا الفناء خلق يكلفون، فيعاقب المخالف
منهم، فيكون مظهر أسماء القهر؛ لأن هذا لم يقل به أحد ولم يدل عليه دليل [٤] . ثم
من المعروف المألوف أن الإنسان بعد طول النعيم عليه يصير نعيمه كأحد العادات،
ليس فيه كبير لذة، وإذا كان مسبوقًا بآلام نسيت الآلام بتتابع النعيم، فلو فنيت النار
وأهلها لخفت لذة أهل الجنة وقلت قيمة نعيمهم في نظرهم بعد طول العهد، فكان في
دوام تعذيب الكفار الذي استحقوه بكفرهم الذي لا حد لخبثه بعد إقامة الحجج وإزاحة
الأعذار دوامًا عظيمًا اغتباط المؤمنين بنعيمهم، واستمرار كمال شكرهم لربهم ومعلوم
أن المؤمنين أكثر جدًّا من الكافرين؛ إذ منهم الملائكة الذين لا يحيط بعشر معشار
عشرهم إلا خالقهم جل وعلا، وقد تقرر في العقول أن إيجاد الشر القليل لأجل الخير
الكثير خير، وقد اعترف هو (ابن القيم) بنحو ذلك فظهر أن لدوام عذاب الكفار عدة
حكم:
١- جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أريد لأجلها من منع
انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى.
٢- جعل العقاب مناسبًا للجريمة في عدم التناهي؛ لما علم من أن خبث الكفر
لا حد له.
٣- دوام ظهور آثار الأسماء الإلهية التي بها تتحقق الألوهية.
٤- دوام ابتهاج المنعمين بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين ما فيه المعذبون،
وقد يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ
أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وَأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (الإسراء: ٩-١٠) ، فأدخل إعداد العذاب الأليم لغير المؤمنين في بشارة
المؤمنين، وما هذا إلا لأنه يعظم اغتباطهم بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين عذاب
أعدائهم. هذا، وبقي أن بعض القاصرين يقول: إذا كان المخلوق لا يسمح ببقاء
عدوه في العذاب الصارم الطويل مهما بلغت عداوته له، وإن سمح عُدَّ غليظ القلب،
فكيف يسمح أرحم الراحمين بدوام العذاب البالغ غاية الصرامة؟ فنقول: هذا قياس
للغائب على الشاهد، وهو فاسد، فإن المخلوق يتألم قلبه برؤيته المعاقب، فإذا سعى
في إزالة عقابه كان ذلك بالحقيقة سعيًا في إزالة الألم عن نفسه، والله تعالى متنزه
عن القلب والانفعالات كما لا يخفى، وبقي أيضًا أن ما ينقل عن بعض السلف وما
يذكر في بعض كتب الصوفية بعدم الخلود في النار، فذلك محمول قطعًا على عدم
خلود عصاة المؤمنين الموحدين في النار، ومتى كان الكلام محتملاً تعين حمله على
ما لا يعارض القطعيات، هذا ما عنَّ لي ذكره في هذا الموضوع الخطير مؤملاً
تحقيق الحق فيه، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم محمد عريقات
... ... ... ... ... ... ... إمام وخطيب مسجد عز الدين
... ... ... ... ... ... ... ... ببرنبال - غربية
(المنار)
قد أحسن الكاتب بالتزامه شروط المنار بحصر الكلام في موضوعه،
وجل ما ذكره قد سبق للمنار قول فيه، وفي كثير من مسائله نظر أشرنا إلى بعض
ما يتعلق بالتفسير وأسماء الله منه لذاته لا لتعلقه بموضوع الرسالة، فإننا وعدنا
بعدم مناقشة المنتقدين في أصل هذه المسألة، ولا يمنعنا هذا من أن نوجه نظره إلى
التأمل في الحكم الأربع، هل الأولى واقعة والثانية ثابتة؟ وما حد الكفر المذكور
فيهما؟ وهل أسماء الأفعال كالقهار والمحيي والمميت أبدية كأسماء الذات خلافًا
للعلماء الذين قالوا بأبدية أسماء الذات فقط، وما دليل ذلك؟ وهل تعذيب بعض
العباد ليتنعم غيرهم، أو ليزداد نعيمه بعذابهم من الحكم التي لا تنافي العدل ولا
الرحمة، وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقاً} (النبأ: ٢٦) ، وقوله: {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ} (النساء: ٤٠) , وأمثاله؟ وكون العقاب بالعدل، والثواب بالفضل؟ وهل
ملائكة الجنة من الذين ينعمون فيها جزاءً على أعمالهم، وما القول في ملائكة النار
إذًا؟ نرجو أن يتأمل أخونا الكاتب الفاضل في ذلك كله حق التأمل، وإن شاء بعد
ذلك أن يبين ما يحققه فيه بمقال فعل.
***
رسالة أخرى بغير عنوان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تنزه عن الخطأ والنسيان، وجعل ذلك في الإنسان دليلاً على
كمال ربوبيته وأنه الواحد الديان، وأشهد ألا إله إلا هو منزل القرآن، بالوعد
والوعيد على سيد الأكوان، محمد خاتم النبيين وإمام الغر المحجلين، صلى الله
عليه وعلى آله ومن اقتفى أثره واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد، فقد رأيت
لأستاذنا العلامة صاحب المنار نقلاً في فناء النار معزوًّا لابن القيم - رحمه الله -
في كتابه حادي الأرواح، أعقب به تفسيره في آية الأنعام: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} (الأنعام: ١٢٨) إلخ.
فدهشت من قول ابن القيم، وأنكرت عليه ذلك القول، كما أنكرت على أستاذنا
صاحب المنار نقله في مناره ونشره بين الناس، وقد كتبت له في ذلك وكتب لي،
وقد ذكر الأسباب التي دعته لإيراد ما نقل، ولما رآني مصرًّا على إنكاري خاشيًا
عواقب هذه النقول على العامة كتب لي - حفظه الله - بأن أكتب ما يدفع الضرر
الذي أخشاه ريثما يعود هو للموضوع نفسه في تفسير آية هود، إذا كنت أظن أن
المدة إلى ذلك الوقت تطول، فكتبت ما سيأتي مستعينًا بالله متحريًا الاختصار المفيد،
راغبًا عن التطويل الممل إلا ما دعت إليه الحاجة.
وقبل البدع في كتابة ما أردت، أقدم شكري لأستاذي العلامة السيد محمد رشيد
على سعة صدره لي وقبوله نقدي واحترامه رأيي - مع أني تلميذه - ولو لم يكن في
هذا الانتقاد إلا بيان فضل الأستاذ السيد محمد أستاذنا في سَنِّه سُنَّة أماتها الذين لا
يحبون الحق، ويخافون أن تظهر عيوبهم أو تنتقص شيوخهم - لو لم يكن إلا ذلك
لكفاه فخرًا، ولا سيما أن المنتقد تلميذه، وقد أفسح له صدرًا مناره للانتقاد عليه وعلى
شيخنا ابن القيم العلامة - رحمه الله - فليحي المنار وصاحبه رافعًا راية الحق مرشدًا
الناس إليه بالقول والعمل والسلام.
قال أستاذي صاحب المنار بعد تفسيره الآية على الوجه الأكمل، وقد استوفى
ذلك بالإسهاب المحقق ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، فقال: (فصل) وأما
أبدية النار إلخ، وساق أقوالاً سبعة، وكأنه لم يرض إلا القول السابع وهو فناؤها.
وقال: قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة
وأبي سعيد وغيرهم. وساق رواية عبد بن حميد في تفسيره، وطفق يقوي السند
بما يشيد من ذكر بعض الشيوخ، ويقول: وحسبك بهذا الإسناد جلالة، ونحن نقول
له: حسبك أن الحسن لم يسمع من عمر، وإن اعتذر عن ذلك بقوله: وإن لم يسمع
من عمر إلخ، وجزم الحسن بصحة الخبر عن عمر، بل صحته عن عمر نفسه لو
صح لم يجز التعلق به في مسألة سمعية اعتقادية غيبية، زد على ذلك أن عمر ليس
رسولاً، ولو كان رسولاً وروي عنه بمثل هذا الإسناد المعلول لما ساغ لنا الأخذ به
والتعويل عليه، فما بالك وعمر - رضي الله عنه - ليس رسولاً ولا السند إليه
صحيحًا، وكيف يقول عمر هذا القول ويروى عنه وهو الذي عرفت شدته في
الدين؟ وهو الذي ضرب أبا هريرة في صدره بين ثدييه ضربة ألقاه على استه وفي
يده نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بعثه يخبر: (من لقي الله يشهد ألا
إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه دخل الجنة) ، فذهب أبو هريرة مجهشًا إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - شاكيًا له من عمر، فجاء عمر في خلف أبي هريرة، فقال
صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله، بأبي أنت
وأمي، أبعثت أبا هريرة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم) قال: فلا تفعل، فإني
أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(فخلهم) ، هذا معنى ما رواه مسلم في صحيحه، فهل عمر بعد هذا يقول ما رواه
عنه ابن حميد والحسن؟ وأي الإسنادين أصح؟ وأيهما أحق أن نأخذ به عن عمر؟
على أن شدة عمر في الدين لا تخفى على أحد ممن شم رائحة الإسلام.
وقد روي عنه أنه كان يقول: يا ليت أم عمر لم تلد عمر. وكان يقول:
ليتني شجرة تعضد. ونحو هذا كثير في السير، ثم كيف يقول هذا القول أبوهريرة
وهو صاحب القصة، ويتكلم في فناء النار، وهو وغيره من الصحابة كانوا
أحرص الناس على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرغبهم عن الخوض
فيما ليس لهم به علم؟ وقد كان يكون عند بعضهم الخبر عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم يكتمه خشية افتتان الناس به فلا يفشه إلا عند موته تأثمًا، يعلم هذا كل
من قرأ الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، ولست أظن أن ابن القيم لم ير ذلك
وهو الإمام الحافظ المطلع على ما لعلنا لم نطلع عليه ولم نره للآن، ولكن لم يكن
معصومًا من الخطأ والنسيان، ومن لم يكن عنده علم باصطلاح المحدثين وتحريهم
صحة السند وقولهم في الرجال وقبولهم الحديث الصحيح، وردهم ما لم يصح ولو
كان في سنده أقل علة، من لم يكن عالمًا بذلك، فحسبه مقدمة صحيح مسلم ليعلم ما
شرطه - وهو دون البخاري - وهذا كله دائر حول حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا عمر ولا غيره.
فلهذا يرى مريد الحق أن هذه الروايات غير صحيحة عن الصحابة - رضي
الله عنهم - وهي أشبه بقول اليهود الذين غرهم في دينهم ما كانوا يفترون وأرادوا
تغرير المسلمين وخدعهم، وقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم ص١٨ من
الجزء الأول: (أما أهل النار الذين هم أهلها) إلخ، فلم ندر حاله، ولم يسنده، ولم
يعزه.
ثم قال: ولا يناقض هذا قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} (البقرة: ١٦٢) ,
وقوله: {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: ٤٨) هكذا قلت، والصحيح] وما
هم بخارجين منها [، ولم أدر ممن الخطأ في الآية؛ لأن] وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ [
قيلت في أهل الجنة من سورة الحجر فليعلم.
يقول رحمه الله: لا تناقض بين إخباره تعالى عن أهل النار بأنهم خالدون
فيها وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم بعد التصحيح، وبين فنائها؛ أي: إن
خلودهم فيها يكون ما دامت، ويالله العجب، ومن أين له عدم دوامها وقد دلت
الآيات والأحاديث على بقائها باللزوم وإن كانت لم تصرح ببقائها؛ لأنها ليست
مقصودة بالذات، ولأنها لم تخلق إلا لأهلها؟ فما داموا فيها فهي دائمة، فهم المحور
الذي يدور عليه الجزاء بقاءً وفناءً، لا النار التي لم تكن لولاهم، ولم توجد إلا لهم،
فكيف عكس الأمر رحمه الله وجعل الأخبار دائرة حول النار ولها؟ فإن قيل: إنهم
خلقوا لها كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: ١٧٩) إلخ، قلنا: هذا يدل على بقائها أيضًا، وكان خلقهم
أدل على بقائها؛ إذ قال الله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: ٣٧) وقد أخبر الله تعالى عن بقاء النار وأهلها بكل لفظ أخبر به عن
بقاء الجنة وأهلها، يعلم هذا من قرأ القرآن وتدبره، فكما قال تعالى في الجنة:
] خالدين فيها أبدًا [، كذلك قال في النار، فلا يستطيع أحد بعد هذا أن يوجد فرقًا
بين الخبرين واللفظ واحد، ولئن قال في الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:
١٠٨) ، فقد قال في النار: {َعذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: ٣٧) ، بل قال في الجنة
بهذا اللفظ: {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} (التوبة: ٢١) ولا ريب أن النعيم المقيم هو وغير
المجذوذ شيء واحد في الدلالة، زد على ذلك أن الله تعالى أخبر أن أهل النار لا
يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمِّ الخياط، وهذا نحو قوله: لا يدخلونها أبدًا،
وليس بعد هذا قاطع لأطماع الطامعين في الجنة الهاربين من النار، فقد عبر لهم
بأعظم محال وهو دخول جسم عظيم في خرق صغير، ومتى يلج الجمل في سم
الخياط ويسوغ في العقل دخوله فيه حتى يسوغ دخول الجنة لمن ليس من أهلها ولم
يخلق لها؟ أيكذب الله نفسه أم تكون عبثًا حكمته؟ يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً
مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: ١٧٩) ، ثم يعيدهم إلى الجنة، هذا محال، وقد
ذكرنا ما قالوه في الاستثناء (بإلا ما شاء الله) ورد أقوالهم كلها، ولم يختر إلا
الوجه الذي يدل على مخالفة (إلا) لما قبلها، وذِكر المشيئة هنا وفي هود دال
على ثبوت هذه الصفة لله تعالى لا غير، وأنه لا مكره له فيما يفعل، وقد أكد هذا
المعنى في سورة هود بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: ١٠٧)
وكثيرًا ما تذكر المشيئة في القرآن لهذا الغرض؛ كقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ
إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: ٣٠) ، ومن أهل العربية من قال في استثناء سورة
سبح: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: ٦-٧) - وهو كالذي هنا
- لم يشأ الله أن تنسى شيئًا، وذكر ابن جرير هذا القول، وقال - وهو كقوله -:
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: ١٠٧) ، ولا
يشاء، قال: وأنت قائل في الكلام لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء
أن أمنعك والنية ألا تمنعه، ولا تشاء شيئًا، وعلى هذا مجاري الإيمان يستثنى فيها
ونية الحالف التمام اهـ.
وترى المحدثين يقولون في السند: صحيح إن شاء الله. ويذكرونها غير
مقصود بها تعليق شيء عليها، بل يذكرونها فيما وقع تبركًا واستذكارًا أن ما شاء الله
كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه لا يشاء إلا ما وافق الحكمة.
فأنت - أيدك الله - ترى أن الأخبار عن الصحابة غير ثابتة، ولو ثبتت لما
كان فيها دليل على الفناء، بل تؤول على الخارجين منها، وترى الآيات القرآنية
مصرحة بخلود وأبدية أهل النار فيها، وأن الجنة محرمة عليهم، ودخولها محال
عليهم كدخول الجمل في سَمِّ الخياط، ولئن لم تدل هذه الآيات على كثرتها وذكر
ألفاظ بقاء أهلها فيها وتنوعها من الخلود للإقامة للأبدية إلى غير ذلك، لئن لم تدل
على بقاء النار وعدم فنائها بالمطابقة، فلعمر الله لقد دلت عليه باللزوم والاضطرار،
كدلالة وجود السقف على الجدار، فما داموا خالدين فيها أبدًا فهي خالدة أبدًا، إلا إن
ادَّعى مدع أن خالدين، وأبدًا، ومقيمًا، وما شاكلها لا تدل دائمًا على البقاء وعدم
التحول فيكون لنا إذن أن نرد هذه الدعوى بالكتاب والسنة أيضًا واللغة التي بها نزل
كتاب الله، وسننقض ما عدده ابن القيم - رحمه الله - من الأوجه في فناء النار، وما
أورده من الشبه إن اتسع المنار لذلك، وما قصدنا إلا إزالة شُبَه الذين يغترون بقوله،
والبقية تأتي إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد أبو السمح
... ... ... ... ... ... ... معلم - برمل الإسكندرية

(المنار)
نشرنا هذه الرسالة بنصها، وفيها تكرار وتطويل بالاستطراد ليس من
الموضوع، كالكلام في شدة عمر في الدين وضربه لأبي هريرة على تبليغ الصحابة
حديثًا صحيحًا حدَّث به بعد ذلك، ونقله أئمة الحديث وغيرهم حتى الكاتب لمن
يخشى عليهم من الغرور والاتكال ما لم يكن يخشى على أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم ورضي عنهم، وكان جمهور الصحابة ينكرون على عمر هذه الشدة،
ولا حاجة إلى هذه الخطابيات مع إنكاره صحة الرواية عن عمر وعدم الاحتجاج
بقوله، فإن دفع هذه الخطابة سهل بأن يقال: إذا كان عمر قد قال ذلك فما قاله
وحاله ما ذكر الكاتب إلا لثبوته عنده واعتقاده أنه لا فتنة في ذكره، وكذا أبو هريرة،
فلعله في بقية الرد يجتنب التكرار والاستطراد وحكاية أقوال ابن القيم على
الطريقة التي جرى عليها في هذه النبذة، فإن القراء لا يراجعونها، ليفهموا المراد،
وخير منها أن يقسم الكلام إلى مسائل يبين ما يراه الحق فيها.