انتقادها مجلة المنار وصحف إسلامية أخرى من جهة ومشروع جماعة الدعوة والإرشاد من جهة أخرى
أرسل إلينا أحد أصدقائنا في باريس قطعة من مجلة العالم الإسلامي الفرنسية حملت فيها على الجرائد المذكورة في بداية النقد، وخصت المنار بقسط كبير، وتناولت مشروع الدعوة والإرشاد. مع أن المنار لم يبد رأيه في هذه المقالات بعد، وهذه ترجمتها: (هل تتكرم رصيفاتنا الغراء: المؤيد والمنار والاتحاد العثماني وصحف إسلامية أخرى أن توضح لنا جنسية وأصل المحرر الأوروبي الذي أتى بالأقوال التي عزتها هذه الصحف إلى مجلة العالم الإسلامي؟ كتبت جريدة المؤيد في ٨ إبريل سنة ١٩١٢ تقول: (وإن في فرنسة (لجنة Comite) اسمها (الإرسالية العلمية المراكشية) مؤلفة من المستشرقين الذين درسوا الكتب الإسلامية والعادات الشرقية واللغة العربية أو غيرها من لغات المسلمين خدمة لجامعات فرنسة السياسية والدينية والاقتصادية) اهـ. ولكن من الخطأ الواضح أن يقال عن الإرسالية العلمية المراكشية إنها (لجنة Comite) وإذا كان العلامة مدير المؤيد يتتبع الكتب فلا يصعب عليه أن يقف على أصل ما جاء به (من معنى لفظ اللجنة) خصوصًا وإن هذه الإرسالية العلمية لا تشبه اللجنة بوجه من الوجوه. وليس من الصواب أن يقال: إن لها مقاصدَ سياسيةً أو دينيةً أو اقتصاديةً. وكل ما في الأمر أن عملها نتيجة مساعي بعض الخاصة، وترجع هذه المساعي إلى سنة ١٨٨٩-١٨٩٠، وقد أعطيت الإرسالية منذ ذلك الحين مبلغًا صغيرًا من المال لإدارة شئونها. أما الآراء التي تنشرها هذه الإرسالية فهي خاصة بها ولا شأن للحكومة فيها. وعلى هذا فإن ما قالته جريدة المؤيد بهذا الشأن مخالف للواقع. وتقول جريدة المؤيد: (إن هذه (اللجنة) أخذت قبل خمس سنوات تنشر في باريس مجلة كبرى مصورة تصدر في كل شهر اسمها (مجلة العالم الإسلامي) ولقد كانت هذه المجلة قبل الآن ظاهرة بمظهر علمي تكون الغايات السياسية فيها بالدرجة الثانية إلى أن تم لفرنسة احتلال مراكش أولاً، ثم دخلت فارس في طورها الأخير، وحل بعد ذلك ما حل بطرابلس. فظهرت هذه المجلة كغيرها بمظهرها الحقيقي الذي تكون فيه الدروس العلمية واسطة لغايات سياسية ودينية) اهـ. وقد حذت مجلة المنار الدينية التي تصدر في مصر حذو جريدة المؤيد، فقالت في الصفحة ٢٥٩ من المجلد الخامس عشر ما يأتي: (وبعد احتلال مراكش ودخول بلاد فارس تحت النفوذ الروسي الإنجليزي واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب ظهرت - أي مجلة العالم الإسلامي - بمظهر جديد تجلت فيه خطتها من التوسل بالعلم إلى المقاصد السياسية والدينية) اهـ. (والقول أن لمجلة العالم الإسلامي غاية دينية من شأنه أن يبعث السرور والفرح في قلوب قرائها الأوربيين الذين لا يدركون وجود هذه الغاية إلا بتفسير وتأويل) اهتمت جريدة المؤيد ومجلة المنار وغيرهما اهتمامًا زائدًا بعدد مجلتنا الذي صدر في نوفمبر الماضي خاصًّا بموضوع الغارة على العالم الإسلامي، وقامت بترجمة فصوله مستمرة على ذلك، خصوصًا المؤيد الذي يصدر بها أعداده بعناية تستوجب إعجابنا واحترامنا فليتكرم بقبول شكر المجلة له على ذلك. ولكن المؤيد لم يشأ أن يختم توطئته المنشورة في عدد ٨ إبريل بدون تبرم؛ إذ قال في آخرها: (إن المقاصد تتبين مع انكشاف الحوادث) . إن نشر ترجمة هذه المقالات قد بعث لأول مرة الدهشة في قلوب الجميع، كما يتضح مما قالته جريدة الاتحاد العثماني وهي جريدة هامة تنشر في بيروت تحت رعاية جمعية الاتحاد والترقي [١] ، وذلك أن بعض (كتبة) الصحف العربية انتقد بلهجة شديدة على ترجمة مقالات الغارة على العالم الإسلامي حيث قال: إن من الغبن نشر كلمة (الغارة) على صفحات جريدة إسلامية، فردت عليه جريدة الاتحاد العثماني قائلة: (إننا رأينا السكوت عن نشر هذه المقالة غشًّا لا يجيزه لنا الدين ولا الوطنية بوجه من الوجوه، فإشفاقًا على عواطف القراء الذين ما اعتادوا حتى اليوم سماع أمثال هذه النغمات المدهشة رأينا أن يكون نشرها مدعاة لتفكر عقلاء المسلمين وتدبرهم في ملاقاة هذا الخطر المحدق بهم، وأن لا يكون حظ هذا الفصل الإغفال والاستهانة، بل القيام بما يأمر به الدين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وضع أبناء المسلمين في المدارس الأجنبية إلا بعد أن يتمكنوا من دينهم ولغتهم ووطنيتهم) . ومجلة المنار نشرت مقالات الغارة على العالم الإسلامي بالعنوان الذي وضعه المؤيد. وفي ٢٦ إبريل عاد المؤيد إلى التعليق على هذه المقالات متأثرًا باستياء القراء من نشرها. وهذا ملخص الانتقادات والإيضاحات الواردة في مقالة المؤيد يوم ٢٦ إبريل: ١- إن بعض المسلمين يعد نشر هذه المقالات من قبيل الموافقة على ما جاء فيها. ٢- والجواب على هذا القول: إنه من قبيل وضع الشيء في غير محله؛ لأن المؤيد لما بدأ بنشر هذه المقالات مهد لها بتوطئة أبان فيها عن قصده من نشرها، وذكر لقرائه شيئًا عن المجلة التي كتبت تلك المقالات والجمعية التي تنشر المجلة نفسها وحالتيهما قبل حوادث مراكش وفارس وطرابلس الغرب وبعدها. ٣- ليست هذه المقالات من المباحث العلمية أو الجدلية التي تقتضي ردًّا ومناقشة بل هي تأريخ وأنباء، وكما نظن أنها ستدفع أهل الغيرة لزيارة مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي فيها المصري والمراكشي والجاوي والقفقايسي) اهـ. وهنا نكرر القول بأن إسناد غاية سياسية أو اقتصادية أو دينية إلى مجلة العالم الإسلامي هو أمر وهمي تمامًا وبعيد عن الصواب بعد الإرسالية العلمية المراكشية عن شكل لجنة Comit. أما استنتاج المؤيد والمنار والاتحاد العثماني مما هو متعلق بإقالة عثرة الإسلام فهو مهم في بابه، وكنا نحب أن نقول: (إن هذه الاستنتاجات جاءت في أوانها) لولا أن (سبق السيف العذل) إذ إن العالم الإسلامي ليس مهددًا بالغارة والفتح تهديدًا بل قد أغير عليه، وافتتح بالفعل، وأصبح مغلوبًا على أمره، وتلك عاقبة غلطات وهفوات الذين تولوا مهمة إنقاذه، فتدهوروا به في هاوية الهلاك وأعينهم في سِنَةٍ ونَوْمٍ. كانت مكانة الخلافة الإسلامية مشرفة على السقوط في كل الجهات، ثم حدث الانقلاب العثماني؛ فخيل إلى الناس أن الخلافة قد عاد إليها سابق عزها بعد استظهار الحرية على الحكومة الحميدية. وكان في استطاعة المسلمين يومئذ أن يبذلوا جهدهم لإحياء حضارة إسلامية مستقلة، وقد كانت أوربة الحرة في ذلك الحين تشد أزرهم. ولكن الذين أنقذوا الدولة العثمانية من ربقة الاستبداد وهتفوا بمبدأ المساواة هم الذين أرهقوا الولايات بعد ذلك عسرًا باستبدادهم الذي فاقوا فيه الاستبداد الحميدي. فنصبت المشانق في دمشق وسفكت الدماء في آسية الصغرى واندلع لهيب الثورات في ألبانية. وبموجب سُنَّة الكون التي تربط الأسباب بمسبباتها سلخت النمسة ولايتي البوسنة والهرسك من السلطنة في مقابل ٥٣ مليونًا من الفرنكات، ولم يبق سوى أن نعرف مَن الذي تناول هذه المبالغ. وفي سنة ١٩١١ أنجزت أركان حرب النمسة خريطة بلاد الأرناؤط. ثم حدث بعد ذلك إغارة إيطالية على طرابلس الغرب فلم تلق فيها مقاومة، ولم تسفر هذه الحادثة إلا عن طلب الإعانة في الصحف، وتبعها حادث استيلاء الإيطاليين أيضًا على جزر الأرخبيل وتقسيم الأملاك العثمانية في أوربة. والظاهر أن الجيش العثماني المنظم والقوي أصبح ولا وظيفة له إلا المباهاة بشكله بدون أن يعمل عملاً، وهو من هذه الوجهة مثل سفن الأسطول العثماني التي اشتريت بأثمان باهظة لكي تكون ساكنةً غير متحركة. وتركت أوربة هذه الحوادث تجري على مرأى من العرب والترك والأرناؤط والروم والأكراد والسوريين، وكل هؤلاء يميلون إلى الحكم الأجنبي أكثر مما يميلون إلى الاتفاق والائتلاف. وليس بين المشتغلين بالسياسة اليوم من العرب والأتراك مَن يجهل الاستعدادات العامة التي تجري لأجل التقسيم النهائي. وليس بين الدول الأوروبية العظمى غير الدولة الفرنسية مَن ابتعد عن هذا التقسيم، لأن فرنسة لا ترغب أن يكون لها حظّ في ذلك، وهي قد لا تحصل على شيء في المستقبل من هذا التراث. أما الدول الأخرى فدائبة في المساومة والتدقيق في الحساب، وهذا الأمر غير مجهول ألبتة. وأما الأمل ببقاء الدولة العثمانية فمتوقف على اتفاق عناصرها. ولا نرى بين أصدقاء الإسلام مَن يقوم فيرفع صوته محذرًا من الخطر إلا وتقوم الجريدة العربية الكبرى في القاهرة والجريدة السورية ومجلة العلماء الدينية، فيقلن: (يا للفظاعة!) فأين هي الفظاعة؟ هل هي في التحذير والتنبيه، أم في العناد والإصرار على ترك التفكير؟ ثم الآن مَن هم المدافعون الحقيقيون عن الحضارة الإسلامية؟ هل هم هؤلاء الفقراء كالمراكشيين والطرابلسيين الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة؛ لأجل بعض باشوات وقواد فاسدين ومرتشين، ومشايخ ملئت بطونهم؟ أم هم نخبة المتعلمين في الجزائر وتونس والقطر المصري وسورية وتركية وفارس المنكودة الحظ والبلاد الهندية وجزائر السِّنْد - الذين هم في مصافِّ الأوروبيين محترمو الأفكار والنزعات؟ في يوم ٢٨ إبريل الماضي قام كاظم بك والي سلانيك يومئذ، فتكهن في أمر الحركة السياسية التي تتمخض بها الآن الجيوش العثمانية في الولايات المقدونية، وألقى خطابًا رنانًا بين جدران مسجد القاسمية بعد صلاة الجمعة، فأتى ببيان القوات الإسلامية في الصين والهند وأفغانساتان وتركستان وطرابلس الغرب ومراكش، وبحث في أسباب الفشل الذي لحق بها. ثم ختم خطابه بشرح برنامج إسلامي سياسي أوسع من برنامج جمعية الاتحاد الترقي ويختلف عنه - حض فيه على توسيع التعليم والتربية في العنصر العربي المسلم. فهل كانت غاية كاظم بك دينيةً أو اقتصاديةً؟ أنكرت جريدة المؤيد ومجلة المنار وجريدة الاتحاد العثماني على مجلة العالم الإسلامي أنها بينت للمسلمين كيف تتهافت القوات الأوروبية المختلفة لاستدراج الشعوب الإسلامية، وإدخالها في طرق أخلاقية واجتماعية وسياسية جديدة. ولو كانت هذه الصحف مدركة سير الأمور التي لا مبدل لها لشكرت لمجلتنا صنيعها هذا، ولما قالت. (لنرجع إلى التعليم العربي القديم مكتفين بتغييره تغييرًا سطحيًّا) بل كانت تقول: (لنفتح مدرسة الغد التي هي الكفيلة بخلاصنا المؤسسة على حضارة إسلامية عصرية) . والآن قد وصلنا إلى النقطة التي تتميز بها آراؤنا عن آراء رصفائنا العرب: أولئك مقاصدهم مقتصرة على توطيد استقلال الإسلام والهتاف له، مع التأكد من عدم الحصول على هذا الاستقلال بل مع التأكد من فقده. ونحن نود أن نراهم وطدوا أركان هذا الاستقلال بانتهاج طرق الترقي والفلاح المفتوحة أمام مستقبل الإسلام ولكنهم يضعون الجامعة الشبيهة بالقديمة التي أسسها السيد رشيد رضا في مستوى الجامعة العصرية التي يدير شئونها البرنس فؤاد باشا. إنهم لو أعملوا الفكرة والروية لمعرفة الصعاب الحقيقية التي تعترض رسوخ قدم الإنكليز في مصر لاتضح لهم - وهم في القاهرة - أنها ليست منوطةً بالوطنية الدينية أو الوطنية السياسية، بل بالنهضة الاجتماعية الكاملة , ولا يمكن للمصري المسلم أن يخرج من تحت السلطة البريطانية بتوطيد أركان دينه بل بإنهاض الفرد المسلم المستنير إلى مستوى الفرد المسيحي المنور. وبعد، فإذا كان يدور في خلد المؤيد والمنار والاتحاد العثماني أن يتلافوا الغارة التي شُنَّتْ على العالم الإسلامي فالطريقة سهلة السلوك، وهي أن يقولوا لقرائهم: (لنخرج من عزلتنا. ولنقابل الحقيقة الواقعية وجهًا لوجه) . (المنار) موعدنا الجزء الآتي للرد على ما جاء في مقال مجلة العالم الإسلامي.