للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


ترجمة الشيخ عبد الرزاق البيطار
بقلم حفيده الشيخ محمد بهجة البيطار

(عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم بن
حسن بن محمد بن حسن البيطار الدمشقي)
في عاشر ربيع الأول من سنة ١٣٣٥ فجعت دمشق الشام بوفاة أكبر وأشهر
علمائها وأعلامها، علامة الأقطار الأستاذ الجد سيدي الشيخ عبد الرزاق البيطار -
رحمه الله ورضي عنه - ولقد كانت وفاته خسارة عظمى على المسلمين والإسلام،
وإليك نبذة يسيرة من ترجمة حياته.
***
مولده وتحصيله
ولد المرحوم بمحلة الميدان من دمشق الشام سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين
سنة ١٢٥٣، تعلم القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم وجوده على الشيخ الفاضل
أحمد الحلواني شيخ قراء الشام، ثم حفظ المتون في مبادئ العلوم على والده العلامة
الجليل المتفنن الشيخ حسن البيطار وكان يحضر دروسه الخاصة والعامة، ثم في أول
رمضان سنة ١٢٧٢ توفي والده - رحمه الله - فقرأ على شقيقه الأكبر الشيخ محمد
فقه أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه. وأخوه هذا كان أمين فتوى دمشق يوم كان
مفتيها العلامة الشهير محمود أفندي حمزة، وأخذ عن شقيقه الثاني العلامة الشيخ عبد
الغني علم القراءات، ثم لازم دروس العلامة المحقق الشيخ محمد الطنطاوي , فأكمل
عليه العلوم العربية والشرعية، وتوسع في المعقول والمنقول، وأخذ عنه علم الميقات
والفلك والحساب، ثم صحب العارف بالله تعالى الأمير عبد القادر الجزائري فقرأ عليه
جملةً من كتب الحقائق، وأعظمها الفتوحات المكية.
***
صحبته للأمير عبد القادر
لازم فقيدنا المرحوم الأمير الملازمة التامة، وأخذ عنه الفصل بالعدل في
القضايا العامة، ولقد كان يَردِ على الأمير - قدس سره - كثير من الخصومات بين
الخلق، إذ كان هو المرجع للناس في دمشق، فكان يحولها إليه، ويحيل أصحابها
عليه، فيكون قوله الفصل بإجراء الحكم على سنة العدل، ولقد استفاد المرحوم
من أخلاق السيد وآدابه، حتى عد ثاني الأمير في حياته، وعهد إليه بتربية أولاده
وتعليمهم، وكنت أسمع من أصدق أصدقاء المرحوم علامة الشام الثاني فقيد الإسلام
شيخنا الشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله - أن أدب الأستاذ أدب الملوك، قلت:
صدق - رحمه الله - ويعرف ذلك كل من جلس إليه وسمع حسن عبارته، ورأى
لطف إشارته.
***
صدعه بالحق وتأثير أفكاره
كان عصر المرحوم الذي تلقى فيه دروسه الشرعية عصر جمود على القديم،
وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم، فاستمر فقيدنا على
طريقة معاصريه متأثرًا بها إلى ما بعد الخمسين، ولقد سمعته في منزله يقول
لعلامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي لما كان نزيل دمشق سنة ١٣٣٣، وقد
جاء ذكر أحد أئمة الإسلام العظام: كنا أيام التحصيل عند شيوخنا إذا ذكر مثل هذا
الإمام نظنه رجلاً خارجًا عن دائرة الإسلام. ثم ألهمه الله - تعالى - الأخذ من الكتاب
والسنة، وعدم قبول رأي أحد من دون حجة، كما كان على ذلك السلف الأمة،
وكما أوصى جميع الأئمة - رضي الله عنهم - بعدم الأخذ بقولهم إلا بعد معرفة
دليلهم، فصار يأخذ الأحكام والدلائل، ويقبل قول الحق من أي قائل، ويصدع به
ولا يخاف في الله لومة لائم. فإن كان العلم الصحيح أخذ المسائل بأدلتها - كما
يقولون - فهو في بلاد الشام من أول العلماء بلا شبهة ولا مراء، لأنه أول من أخذ
بالدليل وجاهد في هذا السبيل، ورفع فوق رءوس أهل الحق راية السنة والتنزيل.
وكان رحمه الله - تعالى - فصيح اللهجة، قوي الحجة، غزير المادة، وكان
لدى مناظريه البطل المغوار والبحر الزخار، لا يشق له غبار. وما ناظره أحد إلا
واعترف له بالسبق في هذا المضمار، وكان له مع صديقه المرحوم القاسمي
مساجلات علمية ومحاورات أدبية، تشف عن سعة علم وأدب جم.
وكان له في المسائل القريبة أساليب في الإقناع غريبة، فمنها أن بعضهم
زعم مرةً أنه يجب القيام، عند ذكر ولادة الرسول عليه الصلاة والسلام - وجوبًا
بدعيًّا - تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم وألف في ذلك رسالةً، وحملها للفقيد ليكتب
له عليها تقريظًا، فاعتذر إليه، فألح عليه، وأخيرًا قال له الأستاذ المرحوم: أنت
مقصودك من هذه الرسالة أنه إذا قيل ولد الرسول عليه الصلاة والسلام يجب القيام؟
قال: نعم، قال: والذي لا يقوم عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم؟ قال:
يكون آثمًا لأنه ترك واجبًا، قال: أكلما قيل: ولد الرسول صلى الله عليه وسلم
يجب ذلك؟ قال: نعم، فعندئذ قال له الأستاذ: ها أنا ذا قد ذكرت لك ولادته صلى
الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم لم تقم؟ فقال له: لأنه لا يوجد هنا الآن مولد،
فأجابه الأستاذ: أنت إذًا تقوم تعظيمًا لما اشتمل عليه المولد لا لمن ولد! فخجل ولم
يجب، ثم أرشده الأستاذ إلى أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي باتباعه
في أقواله وأفعاله ونشر هدايته التي جاء بها عن ربه مشتملةً على سعادة خلقه.
***
خَلْقُهُ وخُلُقه
كان المرحوم طويل القامة جميل الطلعة والهيئة، جليل الهيئة والوقار، يكاد
سنا برق جماله وجلاله يذهب بالأبصار، كلامه السحر الحلال، وأدبه ألعب
بالعقول من الغيث في الحقول، أما رقة شمائله - رحمه الله تعالى - فلا أعلم له بها
نظيرًا في العلماء الأعلام من بني الإسلام، ولقد كان الأستاذ القاسمي - رحمه الله -
مولعًا بسمو أخلاقه، ومعجبًا بعظيم آدابه، وناهيك بذوق الجمال الذي كان معدن
اللطف والظرف، وقال لي مرةً بعض الأفاضل: ليت الأستاذ يكتب لنا رسالةً في
الأخلاق يستمليها من صفاته وآدابه فتكون أنفع ما كُتب في هذا الفن، ولقد قلت
مرةً لأستاذنا القاسمي - رحمه الله تعالى -: إني قد عرفت كثيرًا من العلماء،
وخالطتهم فلم أجد أكرم منكما أي هو والأستاذ الجد، رحمهما الله تعالى - عشرةً ولا
أرق عاطفةً، ولا أخف روحًا، ولا ألطف حديثًا، مع ما رزقتما من سعة العلم
والفضل، فأنا لا أريد أن أفارق مجلسكما ولو إلى النعيم، ولا أمل حديثكما ولو استمر
سنين، فقال لي: لهذا السر نحن لا نأنس بغيرنا كما نأنس ببعضنا ولا نسر إذا كنا
منفردين.
وقال لي مرةً رب السيف والقلم الأمير محيي الدين باشا الجزائري نجل الأمير
عبد القادر - رحمهما الله تعالى - ما معناه: إن للمرحوم أدبًا ممتازًا وكلامًا جذابًا
أكسبه ثقة الأمراء ومحبة العظماء، ونزل من نفوسهم منزلةً رفيعةً لا يدانيه فيها أحد
من العلماء.
وكان - رحمه الله تعالى - يراعي في مجلسه الطبقات، ويعطي كل إنسان
نصيبه من الالتفات. ومن عجيب أمره - قدس الله روحه - أنه كان يجلس إليه
العالم والكاتب والشاعر والزارع والصانع، والتاجر في مجلس واحد فيتبادل الأفكار
والآراء مع كل واحد منهم بعلمه، ويفيده به الفوائد الجمة حتى يخرج الكل من عنده
فرحين مسرورين.
وكان - رحمه الله تعالى - واسع الصدر جدًّا، كريمًا مضيافًا، يغضب للحق
ولا يغضب لنفسه أبدًا، وكان يتحمل من الناس فوق ما يتحمل، ومن سعة صدره
وشدة تحمله أنه مهما اشتد به الغضب لمسألة ما فلا يبدو شيء على أسارير وجهه.
والحاصل أنه ليس في وسعي أن أحيط بمكارم أخلاقه، وحسبي أن أقول: إنه
كان بها قدوةً، وكان مصداق قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) .
***
صحبة عالم الشام له وثناؤه في درسه عليه
وما كتبه عنه في حادثة سنة ٢٤
كان أشد الناس صحبةً للمرحوم وملازمةً له صديقه الأبر الشيخ جمال الدين
القاسمي، فهو صاحبه ومريده العظيم الذي كان له معه أدب الولد البار مع أبيه،
قرأ عليه رسالةً في الفلك، وكان ينسخها دروسًا بخطه، ويكتب على هامشها تقرير
الأستاذ بنصه، ولقد حضرت على المرحوم القاسمي مع تلاميذه دروسه في بيته
وجامعه ومدرسته نحو ثلاث سنوات، فندر جدًّا أن يمر يوم يذكر لنا فيه الأستاذ
المرحوم إلا ويقرر لنا فيه عظمته، أو يطرفنا بنادرة مما اتفق له معه أو مع غيره،
وإذا ذكره في الدرس فيذكره دائما بلفظ شيخنا، وكان يعده عالم الشام، وأذكر أنَّا
كنا مرةً نقرأ عليه في فن البيان (باب القصر) فقال في مثال قصر الصفة على
الموصوف قصرًا ادعائيًّا: لا عالم إلا الشيخ عبد الرزاق البيطار، قال: مع أنه
يوجد غيره ممن يسمون بالعلماء، ولكن مع حشو وجمود فلا يعتد بعلمهم.
وأخبرني عم والدي المفضال شقيق المترجَم سيدي الشيخ محمد سليم البيطار
بأنهم لما كانوا في مصر سنة ٢١ كان مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام - رحمه
الله تعالى - يجل الأستاذ المرحوم كثيرًا، ولا يتقدمه أبدًا، حتى ظن بعض أفاضل
العلماء في مصر بأن الأستاذ الإمام قد تلقى العلم عن المرحوم أيام كان في بلاد الشام.
وإليك ما كتب عنه الأستاذ القاسمي بخطه في حادثة سنة ٢٤ التي جرت
للمترجم مع بعض العلماء بشأن قبور الأنبياء والأولياء بتزوير بعض السفهاء، قال:
إن الشيخ عبد الرزاق البيطار - ذاك العالم الجليل - ممن اشتهر بالإنكار على أرباب
الخرافات، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات، فإنه ممن لا تأخذه في
إبانة الحق لومة لائم، ولا يصده عتب عاتب، ولا قومة قائم، وله صدع بالحق
عجيب، وعدم محاباة ومداراة، وكل ما يروى من حكايات (المتمفقرين) فإنه يزنه
بميزان العقل، فإن أباه رده جهارًا وقابل قائله بالصد إنكارًا، وطالما صرح
بالسخرية ممن ينادي من يعتقد فيه العامة من الأموات، ويستشفع به في قضاء
الحاجات، ويعرفهم ما قاله السلف في هذا الباب من أنه أمر ما أذن الله به، إذ أمر
بدعائه وحده! فدعاء غيره مما لا يرضاه، كما صرح به في غير آية من كريم
الكتاب، وقصده ترقية العامة عن نداء أحد إلا الله، وتعليق القلب بالخالق تبارك
وتعالى. انتهى.
***
صبره واحتسابه
مر على فقيدنا المرحوم - كما مر على فطاحل الرجال وأساطين العلم
والحكمة قديمًا وحديثًا - كثير من المصائب والفتن، فكان بها مثالاً للصبر والثبات،
وإنما كانت تدار تلك التدابير السيئة بيد بعض المدلسين والمفسدين، ومن لا خلاق لهم
من الجامدين، وإليك بعضها:
اتهم بتأسيس مذهب جديد، وبتسليم سورية لنجد , ومصر للإنكليز، وذلك سنة
٢٤ وكان مما قاله لوالي سورية إذ ذاك (هو شكري باشا , وكان رجلاً عاقلاً جدًّا) :
هل سورية ومصر - يا حضرة الوالي - تُفاحتان في جيبي حتى أسلمهما؟ ثم إن كان
في إمكاني أن أتصرف بهما وأسلمهما لغيري فلم لا أبقيهما لنفسي؟ ووراء ذلك فإن
كان يتيسر لمثلي تسليمهما فرجل أقدر مني يسلم البلاد العثمانية كلها للأجانب، وأين
الحكومة وقوتها؟ فخجل الوالي وقال: أنا أعلم أن هذه وشايات وأراجيف لا أصل
لها، ولكني دعوتك عندي من أجل أن آنس بك، وأفطر هذا المساء معك وكان ذلك
في رمضان سنة ٢٤.
وفتشت كتبه وداره مرات متوقعين أن يعثروا عنده على بعض أوراق سياسية
أومخابرات سرية فيسجنوه أو ينفوه، ولكن طاش سهمهم فإن الأستاذ - رحمه الله -
لم يشتغل بالأمور السياسية , ولم تكن كتب العلم تنزل عن يده إلا لحاجة ضرورية.
***
زهده في الوظائف وبعده عنها وخدمته للعلم
كان المرحوم بعيدًا عن التربع في المناصب، والاغترار بالمظهر الكاذب،
ولقد عرض عليه - إذ كان في الآستانة سنة ١٤ - من قِبل المشيخة الإسلامية
الإفتاء أو القضاء في مدينة من أمهات المدن السورية، فرفض كل وظيفة غير
خدمة العلم الصحيح، ونشره في طبقات الأمة بالتعليم والإرشاد والتصنيف، ولكن
تأثيره - كما قال عالم الشام جمال الدين - أكبر من أثره، كحكيم الإسلام جمال
الدين.
وكان - رحمه الله تعالى - يلقي دروسه العامة في جامع كريم الدين الشهير
بالدقاق في محلة الميدان، ودروسه الخاصة في حجرته من ذلك الجامع، وفي بيته
أيضًا، وقد انتفع به كثير من الطلاب، وحضرت عليه في دروسه العامة والخاصة
طائفةً من كتب التفسير والحديث والفقه، عدا دروسي الخاصة التي كنت أقرأها
عليه على انفراد، وبعد أن وقع الانقلاب سنة ٢٦، وأصبحت الحكومة دستورية
شوروية، ثم بويع السلطان محمد الخامس بعد خلع عبد الحميد، انتخبته دمشق مع
بعض رجالها لمبايعة السلطان محمد، ولتقديم واجبات التهاني والتبريك له، فكتبت
عنه في ذلك جرائد العاصمة التركية، ما رددت صداه الجرائد العربية السورية، ثم
ملأت هذه أعمدتها من آيات الشرف والافتخار، برجوع شيخ الديار الشامية إلى
الديار.
***
تآليفه
أما تآليفه فتبلغ بضعة عشر كتابًا، بعضها ديني، وأكثرها أدبي، وأكبرها
تاريخه في رجال القرن الثالث عشر ذكر فيه المشاهير وغيرهم، وكان أذن لي في
اختصاره، وتآليفه الدينية منها: المنة في العمل بالكتاب والسنة، والمباحث الغرر
في حكم الصور، واللمعة في الاقتداء حال التشهد من صلاة الجمعة، وشرح العقيدة
الإسلامية للعلامة محمود أفندي حمزة مفتي دمشق.
أما رسائله وقصائده ومكاتيبه العلمية والأدبية فتبلغ لو جُمعت مئات الأوراق،
ونسأل المولى أن ييسر سبيل الجمع وتقديم الأهم منها للطبع بمنه وكرمه.
***
نبذة من كلامه رحمه الله
نختم هذه الترجمة بإيراد نبذة يسيرة من كلامه ليقف منها القارئ على مشربه
في الحديث، وتمييزه الصحيح من الضعيف، ونقده لكلام المؤلفين، على عادة
العلماء المحققين قال - رضي الله عنه - في رسالته (المباحث الغرر في حكم
الصور) التي حررها في جواب سؤال ورد من أحد علماء الهند، باختصار: ولا
التفات لما نسب للفاضل أبي الوليد محمد بن عبد الكريم المعروف بالأزرقي -
رحمه الله - المتوفى كما في كشف الظنون سنة ٢٢٧ من أنه قال في تاريخه
الموجود الآن في المكتبة العمومية في دمشق المحمية، الذي ألفه في خصوص
البيت الحرام، فقال في مناسبة بناء قريش الكعبة ما نصه , مع بعض اختصار
وتصرف:
وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الأشجار وصور الملائكة، فكان
منها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخًا يستقسم بالأزلام، وصورة عيسى ابن مريم ,
وأمه، فلما كان يوم الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل
الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بماء من زمزم ثم أمر بثوب فبُل بالماء،
وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى ابن
مريم وأمه وقال: امحوا جميع الصور إلا ما تحت يدي، ورفع يده عن عيسى وأمه،
ونظر إلى صورة إبراهيم - عليه السلام - فقال: قاتلهم الله، جعلوه يستقسم
بالأزلام؟! ما لإبراهيم وللأزلام. انتهى.
ثم ساق الأزرقي هذه القصة بأسانيد عديدة مضطربة المتن، ولذلك قال
الأستاذ رحمه الله: أقول: هذا الحديث الذي ذكره بصور متعددة وألفاظ
متقاربة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو الصور إلا ما كان من صورة
عيسى ومريم - لم يذكره أحد من المحدثين ولا من المفسرين، ولا من أهل السير،
ولا ممن ألفوا المؤلفات في تاريخ بيت الله الحرام أو غيره، لا من كان قبله، ولا
ممن عاصره، ولا ممن كان بعده (إلى أن قال) : فإن عامة أهل الشرع من الفقهاء
والمحدثين على خلاف ذلك، ولو كان ذلك له أصل لوجب عليهم استثناء صورة
مريم وعيسى من عموم التحريم؛ لأن الإطلاق في مقام التقييد خطأ كالعكس (ثم قال)
ويلزم على تسليمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تناقض كلامه واختلفت
في هذه المسألة أحكامه، فتارةً يعمم الأمر في محو الصور، وتارةً يستثني عيسى
وأمه بمقتضى هذا الخبر، وتارةً يقتضي أنه ما دخل حتى محيت الصور كلها،
وتارةً أنه دخل قبل محو شيء منها، مع أن هذا الأمر بعيد جدًّا بل باطل، لا يعول
عليه إلا قاصر أو جاهل، فلم يبق إلا أن ذلك مدسوس عليه، ومنسوب كذبًا
وزورًا وبهتانًا إليه، وقد تجاسر كثير من الناس من قديم وحديث على ذكر جمل
من الكلام، وسموها بالحديث، وأدخلوها في عبارة الكتب وظنوا أنها فضيلةً مع
أنها - وإن كانت في الترغيب والترهيب - رذيلة، وأي رذيلة!! وكذلك دسوا
بعض عبارات على كثير من الأفاضل والسادات، فحينئذ لا يلتفت إلى هذه العبارة
التي دسها في كلامه بعض أهل الغواية، ممن له بها حاجة وغاية، ولم يخش من
الكذب على النبي المختار، ولا أفزعه قوله صلى الله عليه وسلم (من كذب علي
متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وظن أنه يروج المحال وأنه ليس في السويداء رجال،
مع أن الشريعة محفوظة، وبعين العناية ملحوظة، فما أدخل قائل قولاً باطلاً إلا ورُدَّ
عليه، ولا دس بها جاهل منكَرًا إلا وسهام التكذيب قد توجهت إليه. وكل ما أجاب به
بعض الناس عنها مع تسليم نسبتها لهذا الإمام، فإنه يريد النقض لا الإبرام، ومن كان
عنده جواب لائق، ولما ذكره أهل الشرع موافق، فليتكرم بإلحاقه في هذا المكان،
ومولاه يعامله بجزيل الفضل والإحسان. اهـ.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحفيد)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجة البيطار