للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأثير الوعظ والتذكير

كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا
الحسين (عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري
فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون
ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: ٥٢) وأشار إليهم، فقرأت أنا: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: ٥٣) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه
المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا
إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل
وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال: (إذا ثبت!) قلت: وما
يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات
يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون
به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له:
على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا
كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح
والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون
أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى
قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا
الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد
أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى
قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال
الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما
يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو
تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو
أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا
وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم.
هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه
الواقعة التي حدثت في هذه الأيام.
قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية
ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس
الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش
فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛
فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع
ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى
أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون
مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة
الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع.
لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس
إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر
الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر:
إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ
فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون
من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي
تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك
نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.