(٤) اختيار المرأة للرجل: إن الشروط التي تعتبر ضرورية في اختيار المرأة زوجًا يجب أن تعتبر ضرورية أيضًا في اختيار الرجل زوجًا وهي: صحة الجسم، وصحة النفس أعني حسن الخلق والاستقامة وصحة العقل وهذه لازمة لما قبلها. ويزاد القدرة على النفقة اللائقة -كما يقول الفقهاء- أو القدرة على الاستقلال بإنشاء عشيرة أو أسرة -كما يقول الحكماء - وهو ما يريده العوامّ بقولهم: (فلان قادر على فتح بيت) والقدرة على النفقة اللائقة بحال المرأة تختلف بحسب طبقتها، فزيد يستطيع كفاية من نشأت في بيت النّعمة والترف، وعمرو يستطيع أن يمون من نبتت في أرض الفاقة والشظف، والناس أصناف وطبقات، والله فضل بعضهم على بعض درجات، وهذا الشرط هو ركن الكفاءة الركين في نظر أكثر النساء وعُرف أكثر الأولياء؛ وإن شئت قلت في عرف جميع الناس؛ لأن رضاء امرأة بزوج غير قادر على كفايتها مما تعودت من طعام وكسوة وخدمة نادر لا يُعتد به. والمراد الغنية أحرص من الفقيرة على التزوج بالغني؛ لأنها وأهلها يحتقرون الفقير وما زال الأغنياء يتعايرون بمصاهرة من ينزل عن درجاتهم في الثروة إلا أن يعلوهم بمجد أثيل، أو جاه عريض، فيمت إليهم بشرف صاعد أو جد مساعد، ومن رفعه المال لا يلبث أن يمد عنقه إلى الجاه، ويحاول أن يصيبه بتنصي أهل السؤدد [*] وتذري ذوي المجد المؤثل، لا سيما من قل من هؤلاء مالهم، وساءت في الثروة حالهم، فالمال والشرف إذا انفردا كان كل منها شفيعًا للآخر، ومن جمع بينهما لا يكاد يرضى بمصاهرة من فاته أحدهما، إلا إذا لم يجد له صهرًا مثله. وإنك لتجد من العوانس في بيوتات المجد والغنى ما لا تجد في بيوت المتوسطين وأكواخ الفقراء والمعوزين، وذلك خِطْء كبير. وعتو عظيم. تعذر المرأة ويعذر وليها وذوو قرابتها إذا لم يرضوا بصهر يعجز عن كفايتها لأن المرأة ضعيفة الاستقلال قليلة الاحتمال، إذا مسها العوز والإقلال، لا تستقر من القلق على حال، ثم إنها ولوع بالحلية فخور بالزينة هلوع عند الحاجة، ضجور من الشدة، فهي أحوج من الرجل إلى الكفاية، وأشد تطلعًا إلى السعة والزيادة، وإن قومها ليألمون لإعوازها ما لا يألمون لعوز الرجل منهم وهو وارث مجدهم، وحافظ نسبهم، ونصيرهم عند الشدة، وغوثهم عند الحاجة - لما انطوت عليه نفوسهم من الثقة باستقلاله، وجدارته بإصابة المخرج من إقلاله، وما أودعته قلوبهم من الشعور برقة حاشيتها دون التحمل وضيق مذاهبها عن التحول، وإن حظ الولدان والأقربين وغيرهم من الرحمة والحنان، والخوف، والإشفاق، والحزن والامتعاض والغضاضة والنعرة، وغير ذلك من ضروب الشعور والوجدان إنما يكون على مقدار الداعية الطبيعية لذلك فيهم. قيل لبعضهم أي ولدك أحب إليك؟ فقال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، وسقيمهم حتى يبرأ. يشبه أن يكون الناس عندنا ماديين فإنهم يعنون بالبحث عن ثروة من يخطب إليهم ظانين أن سعادة بنتهم وهناء عيشها مقرونان بمال من يتزوج بها، وقلما يبحثون عن دينه وأخلاقه وآدابه. ذلك بأنهم يجهلون (أن السعادة في النفس لا في اليد أو الجيب) يغفلون عن حال الجم الغفير من أصحاب الجيوب الملأى والقلوب المرضى الذين شقيت بهم نساؤهم، فهن يتمنين لو كانوا فقراء الجيوب أغنياء القلوب بالعفة والوفاء والحب والإخلاص، إذًا لكنَّ أنعم بالاً وأقر عينًا وأهنأ عيشًا، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إلا من هذب نفسَه الإيمان والتقوى؛ وإن من طغيان الغنى، إذا لم يقترن بالأدب والتقى، أن يغير صاحبه زوجه وسكنه ويتغير عليها يغيرها باتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان، ويتغير عليها إذا زارت أو زارها الأهل والجيران، فيعذبها بالغيرة عذاب الضعف، أو يضارّها ليضيق عليها من غير ذنب، وإنما هو ملل الذوَّاقين، وتنقل المسرفين، ومن وراء ذلك أن إرشاده عسير، والانتصاف منه عزيز، لا سيما في بلاد فسدت حكوماتها، وأكل السحت قضائها، فأين السعادة والهناء في مصاهرة أمثال هؤلاء؟ يسهل على الرجل المسلم أن يتخير من ربات الخدور من ترضيه فيعرف عنها من وراء الحجاب كل ما يحب أن يعرفه ويعسر على الفتيات أن يعرفن ما تجب معرفته لصحة تخير الزوج وإن فارقن الحجال وعاشرن الرجال؛ لأن المرأة سريعة التصور سريعة التأثر، سريعة الحكم، سريعة الانخداع، فهي لهذا قليلة الروية كثيرة الخطأ لا سيما إذا كانت عذراء، خاضعة لسلطان الحياء، تخدعها النظرة، وتتجاذبها الغرة، ولذلك حظرت الشريعة الإسلامية على المرأة أن تزوج نفسها، وجعلت أمرها في ذلك إلى وليها وإليها؛ لا بد من رضاهما معًا؛ على أنها منحتها من حقوق التصرف في أموالها ما لم تمنحه لها شريعة سواها، بل تجد معظم البشر من جميع الشعوب والقبائل المختلفة في الملل والنحل متفقون على استقباح استقلال المرأة بتزويج نفسها، وعلى وجوب تفويض أمرها في ذلك إلى أوليائها وعصبتها، ومنهم من لا يتقيد باستئذانها، واستئمارها - كما أمر الإسلام - بل كثرت هذه العادة في المسلمين على ما ورد عن الشارع من الأوامر باستئذان البنت في أمر زواجها واستئذان أمها أيضًا فليس للولي أن يستبد بذلك؛ فيزوجها بمن تكره ولو كان أبًا أو جدًّا. يحسب أكثر الرجال أن للحسن والجمال سلطانًا على قلوب النساء لا يدع فيه لغيره أمرًا ولا نهيًا، وإن شغف النساء بالحسن يعلو شغف الرجال به؛ فلو أطلقت لهن الحرية في تخير الأزواج لما اخترن إلا ذا الوجه الجميل والطرف الكحيل، وإن كان خسيس الأبوين صفر اليدين عادم الفضيلتين: فضيلة العلم والأدب، هذا هو الوجه في الحجر عليهن أن يتخيرن لأنفسهن، فإنهن يتبعن الهوى دون المصلحة فيصبحن على ما فعلن نادمات بعد أن يقاسين من استبداد سلطان الجمال، ما لا طاقة لهن به ولا احتمال، وهذا الحسبان خطأ سببه قياس أحد الصنفين على الآخر. وهو السبب في تصدي حسان الوجوه من الشبان لتصبي النساء وإغوائهن، وقد يعد نجاحهم في التصبي دليلاً على صحة القياس وما هو بدليل إلا عند من يجهل التعليل. إن الفتنة بالجمال أولع بالرجال منها بالنساء فيقل في النساء من فتنت بجمال الرجال كامرأة عزيز مصر وصواحبها ولا يتناول الإحصاء عدد الرجال الذين فتنوا بجمال النساء كبني عذرة وأمثال بني عذرة من جميع القبائل والشعوب، هذا هو السبب عندي في شكوى الرجال من قلة الوفاء في النساء. إنما يفتن المرأة من الرجال تحببه إليها فهي مجنونة في حب الحب أي حب أن يحبها الرجل كما قالت علية بنت المهدي حكاية عن نحيزة صنفها * تحبب فإن الحب داعية الحب * فهن يفتن بالرجال على قدر تصبِّيهم لهن وتحببهم إليهن إذا هن صدقن، وأمن الخلابة والحيلة، وما أسرع تصديق الفتاة الغر لوحي العيون، وانخداعها بقول الزور للود الممذوق، والحب المصنوع، بل هي فتنة لا تكاد تسلم منها العوان، التي مارست الرجال وعرفت الزمان. قرأت قصة (رواية) في امرأة كانت تدعى (فاتنة باريس) وكانت تهوي إليها أفئدة الرجال، وتمطرها سحائب الأموال، فتفوز لديها آمال وتخيب آمال، حتى إذا ما عرض لها مرض حال له لونها، وحال بين طلاب التمتع وبينها، انفض من حولها الناس إلا رجلاً واحدًا كان الحب قد أخذه عن نفسه، وران على عقله وحسه، ثم اختطفه من طبيعة الرجال، وطار به في فضاء الخيال، ولم تلبث المرأة أن أفاقت من غشية المرض فلم تر من تلك الجموع إلا ذلك الرجل فاعتقدت أنه محب لها مخلص في حبه فاصطنعته لنفسها، وثابت على يديه إلى رشدها، وهجرت الرجال وهاجرت معه من باريس إلى أريافها وهناك تزوجت به ومكنته من جميع ما تملك. هذا الذي ذكرته من افتتان النساء بالتحبب والتصبي هو العلة الأولى فيما هو معروف بين الناس من ميل نساء المدن إلى المتورّنين والمتطرّسين، وزهدهن في أهل العلم والدين، فهن يعتقدن أن هؤلاء في شغل عنهن، وأن أولئك لم يبالغن في التطيب والتزين إلا لأجلهن، ثم صار ذلك عادة موروثة فيهن، وقد فشت هذه العادة السوء في بيوت المترفين من أهل مصر وغيرها حتى إن العذارى ليقترحن أن يغير الخاطب لهن زيه العلمي إن كان عالمًا، وقد يكون هذا التغيير وَبَالاً عليهن بعد الزواج؛ لأنه يسهل على صاحبه الدخول في بيوت الفسق التي تخرب بيتهما وتوقع بينهما. أما أهل البادية ومن في حكمهم فإن نساءهم لا يملن إلا لمن اشتهر بالشجاعة، والشهامة، والرجولية، والكرم، وبهذه الصفات يتقرب الرجال إلى النساء عندهم، ولو وجد في المدن شبان يعرفن بهذه الصفات لما فضل النساء عليهن أحدا؛ فإن من صفات الفطرة أن تحب المرأة من الرجل ما هو من شأن الرجولية والعكس بالعكس، وهذا الذي يحكى عن نساء الأمصار من ولعهن بالمخنثين ومن يقرب منهم هو من فساد الفطرة. وقد كان من حسن تربية النساء في بلاد الإنكليز أنهن قربن من الفطرة السليمة، فقد اقترح عليهن في بعض الجرائد أن يذكرن أحب صفات الرجال إليهن فكان الجواب من أكثر من أجبن ناطقًا بحب صفات الرجولية من الشجاعة والاستقلال والسلطة عليهن. يقول أناس: إن الحب بين الزوجين هو الأساس الذي تقوم عليه جميع أركان سعادة الحياة الزوجية؛ فإذا كان قويًّا راسخًا فلا يضر هذه الحياة ضعف الأركان، وإذا كان غير قوي فإن الأركان لا تلبث أن تسقط، فيجب أن يؤذن للعذارى والأيامى بمعاشرة العزاب على أعين أهليهن، ومراقبتهم ليتخيرن منهم من يبيعهن قلبه، ويصفيهن حبه، وقد سبق القول في بحث تخير الرجل للمرأة بأن هذه المعاشرة ليست سبيلاً موصلة إلى الأمنية التي يتمنون. وإذا كان يعسر على الرجل أن يعرف قلب المرأة بمثل هذه المعاشرة التي يقصد بها الخطبة، أفلا يكون وصول المرأة إلى قلب الرجل أعسر لا سيما إذا كانت فتاة غرًّا؟ ونزيد هنا أن كثرة معاشرة أفراد كل من الصنفين للآخر يحبب إليهم التنقل في هذه الرياض ويزينه في قلوبهم حتى إذا ما ازدوج اثنان منهم عن حب ثم فتر الحب للملل؛ أو لما عساه يبدو لأحدهما أو كليهما مما لم يكن في الحسبان تحن القلوب إلى من كانت عرفت بالمعاشرة وتجنح إلى التنقل ولا يعسر ذلك على من سبق له التمرن عليه والأنس به. الحب هو الركن الأول أو الأساس للسعادة الزوجية، وهو السكون المذكور في الآية الحكيمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: ٢١) أو هو علته وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده، ولكننا نزيد على ما قلنا هناك أن دوام الحب وسكون القلب إنما يرجى بين زوجين لم يتعود الرجل منهما معاشرة النساء ولا المرأة معاشرة الرجال؛ إذا كان اختيار كل منهما للآخر على الوجه الذي بينا؛ فإن علة سكون كل منهما إلى الآخر ثابتة في أصل الفطرة، وإنما يجب التخير للحذر من الصفات العارضة التي تشارك الفطرة في الاستحسان أو الاستهجان ولا شيء أقطع لرابطة الزوجية وأذهب بسعادتها من ميل أحد الزوجين أو كل منهما إلى غير زوجه ميلاً للمعنى الخاص بالزوجية. إن الحب الذي يكون للزوجين برابطة الزوجية نفسها هو الحب الذي يُرجى دوامه إذا رُوعي في عقد الرابطة صحة الجسم والنفس والتقارب في العادات والتأدب بأدب الدين، وأهم هذه الآداب عفة الزوجين ورضى كل منها بالآخر نصيبًا له لا يفضي إلى سواه، ذلك بأن النزعة الطبيعية في كل من الصنفين إلى الآخر مبهمة مضطربة في أصل الفطرة؛ فإذا تعينت في اثنين فأفضى بعضهما إلى بعض وقد وطَّنا أنفسهما على إقامة سنة الفطرة والدين بإحصان كل منهما للآخر وعدم التطلع إلى سواه فهناك السكون التام والحب الخالص وليس وراء الفطرة والدين مطلع لهناء العيش وسعادة الحياة، ولكن هذا الإنسان يخرج عن سنتهما ليتمتع بالهناء وسعادة الحياة فيضل ويشقى. يقول غير المسلم: إن حب الزوجية لا يكاد يتذوق حلاوته الزوجان المسلمان لأن المرأة تكون مهددة دائما بأحد الأمرين الطلاق أو الضرة. ونجيب عن هذا القول من وجهين، أحدهما: دفعه بقول مثله في الزوجين النصرانيين، ومن في حكمهما. وثانيهما: البحث فيه وتعرف حقه من باطله. أما الأول فإن الزوجين اللذين يرى أحدهما أنه ملزم بالآخر، إلزاما إجباريًّا جعله كالوهق في عنقه، والوقر على كاهله، فإنه يمله ويستثقله فلا تسكن نفسه إليه، ولا تقر عينه به، ولا يخلص وده له، وإن كان قد رضي به قبل العقد انخداعًا بما ينخدع به الشباب، أو ذهابًا وراء الطمع في مال أو جاه، فالمرأة تلج في الزهو والصلف، وتتمادى في المخيلة والسرف، والرجل يتجرع مرارة الصبر ولا يكاد يسيغه، وينشد استقلال الرجال فلا يجده، وربما لجأ إلى السلوة باتخاذ الأخدان، أو الاختلاف إلى ذلك المكان.. إن كان، وليس هذا القول من تخيل الشعر بل هو الحقيقة حكاية عن شعور أهلها فقد سمعت أحد فضلاء الإنكليز، وهم أحسن الأوربيين حالاً في الحياة الزوجية، يقول ما مثاله: إن تحريم الطلاق ومنعه يشعر الرجل بأنه ملزم بالمرأة، مجبور على وُدِّها، والتحبب إليها لا فضل له في ذلك، وما أعصى الحب والود على الإلزام؛ كما يقول المثل (حبني غصبًا) وإذا كان يعلم من نفسه القدرة على فراقها؛ فإنه يكون على فطرته وأدبه في معاملتها يشعر بالسرور والارتياح لاختيار المعاملة الحسنة التي هي مناط السعادة الزوجية، فهذا هو شعور المهذبين الممنوعين من الطلاق، فما بالك بغير المهذبين الذين يعجزون عن مكابرة شعورهم، وتكلف المحاسنة لمن يرتبط بهم، وللمرأة مع الفريقين شعوران مختلفان أحدهما الضعف والعجز وبها ترى نفسها أسيرة للرجل، وثانيهما أنه لابد للرجل منها ولا قدرة له على الانفصال عنها، والأثر الطبيعي لهذين الشعورين هو الكيد من جهة والصلف والعناد من جهة أخرى، ولا يقال: إن هذه فلسفة لا يصدقها الواقع فإنه إن كذبها في الزوجين المتشاكلين في الطباع المتناسبين بالتهذيب؛ فإنه يصدقها في الأزواج الذين خانهم الحظ؛ فلم يمنحهم المشاكلة والتناسب لا سيما؛ إذا كانت المرأة عاقرًا، أو ظهرت آيات الخيانة من أحد الزوجين أو كل منهما للآخر. ناهيك بالمرأة العاقر عند ملك أو أمير قد جعل الحكم إرثاً في ذريته أو غني عظيم يعز عليه أن لا يكون له وارث يتمتع بماله. وأما الوجه الثاني: وهو البحث في فَرَق المرأة وحذرها من الطلاق أو الضرة، فقد يقال فيه أنه يكون من أسباب تحببها إلى الرجل، وعنايتها بمرضاته وأن هذا السبب للتآلف يقابله في الرجل حذره من خسارة المال إذا أراد استبدال زوج بزوج؛ لأن الشرع يوجب عليه أن يمتع المتروكة بما تنفقه على نفسها مدة العدة التي لا يباح لها الزواج فيها، وهذه خسارة فوق خسارة المهر وما عساه يكون مع المرأة من متاع وأثاث وماعون، أو يكون لها من مال تسعفه به أو تدخره لولده، ثم إنه لابد أن يبذل للزوج الجديدة المهر اللائق بها. وهذان السببان في حرص كل من الزوجين على التعلق بالآخر يدعمان سكون النفس الفطري في كل منها إلى الآخر. على أن الطلاق والمضارة بزواج أخرى هو خلاف الأصل الذي عليها الأكثرون من المسلمين، وإننا لنعلم أن الأكثرين من المتزوجين في بلادنا لا يخطر في بال الرجل منهم، ولا المرأة أمر الطلاق، أو المضارة أعني أن الرجل لا ينويه، والمرأة لا تتوقعه منه، وأن أكثر الذين يقع منهم الطلاق من غوغاء المسلمين؛ فإنما يقع منهم على سبيل المنع من شيء، كأن يقول واحدهم: عليه الطلاق إن فعل كذا أو إن فعلت كذا ونحو ذلك. وما كان من ذلك تعليقًا حقيقيًّا على فعل المرأة وهو الأكثر، يجعل الطلاق في يدها كما هو في يده فيشتركان فيه وقد ذهب الكثير من الأوربيين إلى صحة الطلاق من كل من الزوجين وهذا شيء منه. ومن أئمة السلف من يقول بعدم وقوع الطلاق بأيمان اللجاج وكل لفظ لا يقصد به حل عقدة الزوجية قصدًا صحيحًا، وعليه بعض علماء الحنابلة ولو حرر المسلمون مسائل الطلاق من غير التزام مذهب بأن يأخذوا من مجموع كلام الأئمة ما يوافق النصوص المنطبقة على المصلحة العامة لما كان يقع الطلاق من المسلمين إلا مثل ما يقع ممن قلدهم فيه من الإفرنج. ولعله يكون في بعض البلاد الإسلامية أقل منه في بعض بلاد الإفرنج بل هو الآن أقل في بعض البلاد. نعم، لا ننكر أن المسلمين في بلاد مصر قد أسرفوا في الطلاق وفي التزوج بأكثر من واحدة فساءت حالة الحياة الزوجية فيهم وفي أمثالهم ممن على شاكلتهم وإن قلوا وأنهم في ذلك على غير ما يحب الإسلام، ويرضى كما يعلمون في الطلاق وكما بينا في حكم تعدد الزوجات وشرطه في المجلد الماضي، ولكن سوء هذه الحال خاص بالمسرفين من أهلها وبمن يقربون منهم بما يروعون نساءهم ويوقعون الريب في قلوبهن بكثرة الحديث في التزوج وإظهار الميل إلى بعض العذارى أو الأيامى بالقول أو الفعل. وقد مرضت الفطرة في هؤلاء واعتل مرشدها، وهو الدين حتى كان انحلال الرابطة الزوجية بعض أعراض ذلك المرض الذي فقد علاجه، فهم لا يذوقون للحياة الزوجية طعمًا، ولو لم يروعوا نساءهم بالطلاق والمضارة إلا أن يقيموا وجههم للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها. فإن السعادة الزوجية كغيرها من ضروب السعادة لا تكاد تناول إلا بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب التي جاء بها الدين، ولذلك قال المصلح الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) .. إلخ (رواه الترمذي والليث بن سعد) ومن يطلب السعادة بغير ذلك فهو من الخاسرين. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))