رأيه في التوحيد والتوكل ويدخل فيه بيان وحدة الوجود والجبر والكسب بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل اعلم أن التوكل من أبواب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، وعمل هو الثمرة، وحال هو المراد باسم التوكل، فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل، وهو المسمى إيمانًا في أصل اللسان؛ إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي سمي يقينًا، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل، وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك: له الملك، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك: وله الحمد. فمن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفًا لازمًا لقلبه غالبًا عليه. فأما التوحيد فهو الأصل، والقول فيه يطول، وهو من علم المكاشفة، ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال، ولا يتم علم المعاملة إلا بها، فإذًا لا نتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له، فنقول: للتوحيد أربع مراتب: وهو ينقسم إلى لب وإلى لب اللب، وإلى قشر وإلى قشر القشر، ولنمثل ذلك تقريبًا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا، فإن له قشرتين، وله لب وللب دهن، هو لب اللب. فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله، وقلبه غافل عنه أو منكر له؛ كتوحيد المنافقين. والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف، بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدًا وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا واحدًا، فلا يرى نفسه أيضًا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقًا بالتوحيد، كان فانيًا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق. فالأول موحد بمجرد اللسان، ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان، والثاني موحد بمعنى أنه (معتقد بقلبه مفهوم لفظه، وقلبه خال عن التكذيب، بما انعقد عليه قلبه، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة؛ إن توفي عليه، ولم تضعف بالمعاصي عقيدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة، وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف، ويقصد بها أيضًا أحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلامًا، والعارف بها يسمى متكلمًا، وهو في مقابلة المبتدع، ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته، والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحدًا؛ إذ انكشف له الحق كما هي عليه، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحدًا، وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، إلا أنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين؛ إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به يدفع حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة، والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد. فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب، وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها، بل إن أُكِل فهو مر المذاق، وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ حطبًا أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان، فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه، فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى، كثير الضرر، مذموم الظاهر والباطن , لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القلب والبدن، وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة، فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة، وإنما يتجرد عنه بالموت، فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عن الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطبًا لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع، بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر، بالإضافة الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه، وإشراق نور الحق فيه، إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام: ١٢٥) , وبقوله عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: ٢٢) . وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وأكله المقصود، ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد العقل مقصد عال للسالكين. لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة، بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق، فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدًا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحدًا؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبيه كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم.. ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيرًا بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحدًا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد؛ إذ نقول: إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنسانًا، ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه، وتفصيل روحه وجسده وأعضائه، والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقة. فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثير، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحدا، وتستفيد بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه وتؤمن به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإن لم يكن ما آمنت به صفتك، كما أنك إذا آمنت بالنُّبوة، وإن لم تكن نبيًّا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف هو الأكثر والدوام نادر عزيز، وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال: فيما ذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفارلأصحح حالتي في التوكل، وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكان الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع. فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال، فإن قلت: فلابد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه، فأقول: أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضًا مبنيًّا عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث، وأما الأول وهو النفاق فواضح، وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام، ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في علم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) القدر المهم منه، وأما الثالث فهو الذي يبنى عليه التوكل؛ إذ مجرد التوحيد بالاعتقاد لا يورث حال التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب، وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر إلى غير ذلك؛ مما ينطلق عليه اسم، فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا، لم تنظر إلى غيره، بل كان منه خوفك، وإليه رجاؤك، وبه ثقتك، وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون، لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السماوات والأرض. وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة، اتضح لك هذا اتضاحًا أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك؛ لسببين: أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات، والثاني الالتفات إلى الجمادات , أما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها، وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: ٦٥) قيل معناه أنهم يقولون: لولا استواء الريح لما نجونا، ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه، علم أن الريح هو الهواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك، وكذلك محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له، ولا هو متحرك في نفسه عز وجل، فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعًا بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع، يقول: أولاً القلم لما تخلصت فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهو غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلا الكاتب، بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة، والشمس والقمر والنجوم، والمطر والغيم والأرض، وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة؛ كتسخير القلم في يد الكاتب، بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك الموقع هو كاتب التوقيع، والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب، لقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) . فإذا انكشف لك أن جميع ما في السماوات والأرض مسخرات على هذا الوجه، انصرف عنك الشيطان خائبًا، وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك، فأتاك في المهلكة الثانية، وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية، ويقول: كيف ترى الكل من الله، وهذا الإنسان يعطيك رزقك باختياره، فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك، وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه، وهو قادر عليك إن شاء حز رقبتك وإن شاء عفا عنك، فكيف لا تخافه؟ وكيف لا ترجوه، وأمرك بيده، وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه؟ ويقول له أيضًا: نعم.. إن كنت لا ترى القلم؛ لأنه مسخر، فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له؟ وعند هذا زل أقدام الأكثرين إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين، فشاهدوا بنور البصائر كون الكاتب مسخرًا مضطرًّا، كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرًا، وعرفوا أن غلط الضعفاء في ذلك؛ كغلط النملة مثلاً لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود الكاغد، ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد، فغلطت وظنت أن القلم هو المسود للبياض، وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم، لضيق حدقتها فكذلك من لم ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام، قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السماوات والأرض، ومشاهدة كونه قاهرًا وراء الكل، فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض. بل أرباب القلوب والمشاهدات، قد أنطق الله في حقهم كل ذرة في السماوات والأرض بقدرته التي بها نطق كل شيء، حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى، وشهادتها على نفسها بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزولون، ولست أعني به السمع الظاهر الذي لا يجاوز الأصوات، فإن الحمار شريك فيه، ولا قدر لما يشارك فيه البهائم، وإنما أريد به سمعًا يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت، ولا هو عربي ولا عجمي، فإن قلت: فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل، فَصِفْ لي كيفية نطقها، وإنها كيف نطقت، وبماذا نطقت، وكيف سبحت وقدست، وكيف شهدت على نفسها بالعجز، فاعلم أن لكل ذرة في السماوات والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر، وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهي، فإنها كلمات تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له {قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ} (الكهف: ١٠٩) الآية، ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت، وإفشاء السر لؤم، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، وهل رأيت قط أمينًا على أسرار الملك، قد نوجي بخفاياه فنادى بسره على ملأ من الخلق؟ ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال النبى صلى الله عليه وسلم: لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون، ولما نهى عن إفشاء سر القدر، ولما قال: إذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار. فإذًا عن حكايات مناجاة ذرات الملك والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان: أحدهما استحالة إفشاء السر، والثاني خروج كلماتها عن الحصر والنهاية، ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم، نحكي من مناجاتها قدرًا يسيرًا يفهم به على الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه، وتردد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن هي حروفًا وأصواتًا، ولكن هذه ضرورة التفهيم، فنقول: قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله تعالى للكاغد، وقد رآه اسود وجهه بالحبر: ما بال وجهك كان أبيض مشرقًا، والآن قد ظهر عليه السواد! فلم سودت وجهك، وما السبب فيه؟ فقال الكاغد: ما أنصفتني في هذه المقالة، فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر، فإنه كان مجموعًا في المحبرة التي هي مستقره ووطنه، فسافر عن الوطن، ونزل بساحة وجهي ظلمًا وعدوانًا، فقال: صدقت، فسأل الحبر عن ذلك، فقال: ما أنصفتني فإنى كنت في المحبرة وادعًا ساكنًا عازمًا على أن لا أبرح منها، فاعتدى على القلم بطمعه الفاسد، واختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي، وفرق جمعي، وبدد لي كما ترى على ساحة بيضاء، فالسؤال عليه لا علي، فقال صدقت. ثم سأل القلم عن السبب في ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه، فقال: سل اليد والأصابع، فإني كنت قصبًا نابتًا على شط الأنهار، متنزهًا بين خضرة الأشجار، فجاءتني اليد بسكين، فنحت عني قشري، ومزقت عني ثيابي، واقتلعني من أصلي، وفصلت بين أنابيبي، ثم برتني وشقت رأسي، ثم غمستني في سواد الحبر ومرارته، وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي ولقد نثرت الملح على جرحي بسؤالك وعتابك، فنح عني، وسل من قهرني، فقال:صدقت. ... ... ... ... ... ثم سأل اليد عن ظلمها وعدوانها على القلم واستخدامها له، فقالت اليد: ما أنا إلا لحم وعظم ودم، وهل رأيت لحمًا يظلم أو جسمًا يتحرك بنفسه، وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والقوة، فهي التي ترددني وتجول بي في نواحي الأرض، أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيء منها مكانه، ولا يتحرك بنفسه، إذا لم يركبه مثل هذا الفارس القوي القاهر، أما ترى أيدي الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم، فأنا أيضًا من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم، فسل القدرة عن شأني، فإني مركب أزعجني من ركبني، فقال: صدقت. ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد، وكثرة استخدامها وترديدها، فقالت: دع عنك لومي ومعاتبتي، فكم من لائم مليم، وكم من ملوم لا ذنب له، وكيف خفي عليك أمري، وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها، وقد كنت لها راكبة قبل التحريك، وما كنت أحركها ولا أسخرها، بل كنت نائمة ساكنة نَوْمًا ظَنَّ الظانون بي أني ميته أو معدومة؛ لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك، حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني، فكانت لي قوة على مساعدته، ولم تكن لي قوة على مخالفته، وهذا الموكل يسمى الإرادة ولا أعرفه إلا باسمه، وهجومه وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم، وأرهقني إلى ما كان لي مندوحة عنه لو خلاني ورأيي، فقال: صدقت. ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة الساكنة المطمئنة، حتى صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقًا لم تجد عنه مخلصًا ولا مناصًا، فقالت الإرادة لا تعجل عليّ فلعل لنا عذرًا وأنت تلوم، فإني ما انتهضت بنفسي، ولكني أُنْهضت وما انبعثت، ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر حازم، وقد كنت ساكنة قبل مجيئه، ولكن ورد علي من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالأشخاص للقدرة، فأشخصتها باضطرار، فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل، ولا أدري بأي جرم وقفت عليه وسخرت له، وألزمت طاعته، لكني أدري أني في دعة وسكون، ما لم يرد عليّ هذا الوارد القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم، وقد وقفت عليه وقفًا، وألزمت طاعته إلزامًا بل لا يبقى له معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة، لعمري مادام هو في التردد مع نفسه والتحير في حكمه فأنا ساكنة , لكن مع استشعار وانتظار لحكمه، فإذا انجزم حكمه أزعجت بطبع، وقهر تحت طاعته، وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه، فسل العلم عن شأني، ودع عني عتابك، فإني كما قال القائل: متى ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم فقال: صدقت، وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالبًا لهم ومعاتبًا إياهم على استنهاض الإرادة، وتسخيرها لأشخاص القدرة، فقال العقل: أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسي ولكني أشعلت، وقال القلب: أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسي ولكن بسطت، وقال العلم: أما أنا فنقش نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل، وما انحططت بنفسي، فكم كان هذا اللوح قبل خاليًا عني، فسل القلم عني لأن الخط لا يكون إلا بالقلم، فعند ذلك تتعتع السائل، ولم يقنعه جواب، وقال: قد طال تعبي في هذا الطريق، وكثرت منازلي، ولا يزال يحيلني من طمعت به في معرفة هذا الأمر منه على غيره، ولكني كنت أطيب نفسه بكثرة الترداد؛ لما كنت أسمع كلامًا مقبولاً في الفؤاد، وعذرًا ظاهرًا في دفع السؤال، فأما قولك: إني خط ونقش، وإنما خطني قلم فلست أفهمه، فإني لا أعلم قلمًا إلا من القصب، ولا لوحًا إلا من الحديد أو الخشب، ولا خطًا إلا بالحبر، ولا سراجًا إلا من النار، وإني لأسمع في هذا المنزل حديث اللوح والسراج والخط والقلم، ولا أشاهد من ذلك شيئًا، أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا! فقال له العلم: إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة، وزادك قليل، ومركبك ضعيف. واعلم أن المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة، فالصواب لك أنْ تنصرف، وتدع ما أنت فيه، فما هذا بعشك فادرج عنه، فكل ميسر لما خلق له، وإنْ كنت راغبًا في استتمام الطريق إلى المقصد، فألق سمعك وأنت شهيد، واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة: عالم الملك والشهادة أولها، ولقد كان الكاغد والحبر والقلم واليد من هذا العالم، وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة. والثاني: عالم الملكوت وهو ورائي، فإذا جاوزتني انتهيت إلى منازله، وفيه المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار المغرقة، ولا أدري كيف تسلم فيها. والثالث هو عالم الجبروت، وهو بين عالم الملك وعالم الملكوت، ولقد قطعت منها ثلاث منازل: في أوائلها منزل القدرة والإرادة والعلم، وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت؛ لأن عالم الملك أسهل منه طريقًا، وعالم الملكوت أوعر منه منهجًا، وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء، فلا هي في حد اضطراب الماء، ولا هي في حد سكون الأرض وثباتها، وكل من يمشي على الأرض يمشي في عالم الملك والشهادة فإنْ جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة، كان كمن يمشي في عالم الجبروت، فإن انتهى إلى أن يمشي على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير تتعتع، فإن كنت لا تقدر على المشي على الماء فانصرف، فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة، ولم يبقَ بين يديك إلا الماء الصافي، وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشى به على الماء. أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام: لو ازداد يقينًا لمشى على الهواء لما قيل له: إنه كان يمشي على الماء. فقال السالك السائل: قد تحيرت في أمري، واستشعر قلبي خوفًا مما وصفته من خطر الطريق، ولست أدري أطيق قطع هذه المهام التي وصفتها أم لا، فهل لذلك من علامة ? قال: نعم.. افتح بصرك، واجمع ضوء عينيك وحدقه نحوي، فإن ظهر لك القلم الذي به انكتبت في لوح القلب، فيشبه أن تكون أهلاً لهذا الطريق، فإن كل ما جاوز عالم الجبروت، وقرع بابًا من أبواب الملكوت كوشف بالقلم، أما ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره كوشف بالقلم؛ إذ أنزل عليه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٣-٥) ، فقال السالك: لقد فتحت بصري وحدقته، فوالله ما أرى قصبًا ولا خشبًا، ولا أعلم قلمًا إلا كذلك، فقال العلم: لقد أبعدت النجعة، أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت، أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات، فكذلك لا تشبه يده الأيدي، ولا قلمه الأقلام، ولا كلامه سائر الكلام، ولا خطه سائر الخطوط، وهذه أمور إلهية من عالم الملكوت، فليس الله تعالى في ذاته بجسم، ولا هو في مكان بخلاف غيره، ولا يده لحم وعظم ودم بخلاف الأيدي، ولا قلمه من قصب، ولا لوحه من خشب، ولا كلامه بصوت وحرف، ولا خطه رقم ورسم، ولا حبره زاج وعفص، فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا، فما أراك إلا مخنثًا بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، مذبذبًا بين هذا وذا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فكيف نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها، ونزهت كلامه عن معاني الحروف والأصوات، وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه، فإن كنت قد فهمت من قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته) الصورة الظاهرة المدركة بالبصر، فكن مشبهًا مطلقا كما يقال: كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة، وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي تدرك بالبصائر لا بالأبصار، فكن منزهًا صرفًا ومقدسًا فحلاً، واطوِ الطريق فأنت بالوادي المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى؛ {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (طه: ١٢) فلما سمع السالك من العلم ذلك، استشعر قصور نفسه، وأنَّه مخنث بين التشبيه والتنزيه، فاشتعل قلبه نارًا من حدة غضبه على نفسه لما رآها بعين النقص، ولقد كان زيته الذي في مشكاة قلبه يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار، فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته، فأصبح نورًا على نور، فقال له العلم: اغتنم الآن هذه الفرصة، وافتح بصرك؛ لعلك تجد على النار هدى، ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي، فإذا هو كما وصفه العلم في التنزيه ما هو من خشب ولا قصب، ولا له رأس ولا ذنب، وهو يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم، وكأن له في كل قلب رأسًا لا رأس له، فقضى منه العجب، وقال: نعم الرفيق العلم، فجزاه الله تعالى عني خيرًا؛ إذ الآن ظهر لي صدق أنبائه عن أوصاف القلم، فَإِنِّي أراه قلمًا لا كالأقلام. فعند هذا ودع العلم وشكره، وقال: قد طال مقامي عندك، ومرادَّتي لك، وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم وأساله عن شأنه، فسافر إليه، وقال له: ما بالك أيها القلم تحط على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدر وصرفه إلى المقدورات، فقال: أو قد نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة، وسمعت من جواب القلم إذ سألته، فأحالك على اليد، قال: لم أنس ذلك، قال: فجوابي مثل جوابه، قال: كيف وأنت لا تشبهه، قال القلم: أما سمعت أن الله تعالى خلق آدم على صورته، قال: نعم.. قال: فسل عن شأني الملقب بيمين الملك، فإني في قبضته، وهو الذي يرددني وأنا مقهور مسخر، فلا فرق بين القلم الإلهي والقلم الآدمي في معنى التسخير، وإنما الفرق في ظاهر الصورة، فقال: فمن يمين الملك؟ فقال القلم: أما سمعت قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: ٦٧) قال: نعم.. والأقلام أيضًا في قبضة يمينه هو الذي يرددها، فسافر السالك من عنده إلى الأمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم، ولا يجوز وصف شيء من ذلك ولا شرحه، بل لا تحوي مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه، الجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان، ويد لا كالأيدي، وأصبع لا كالأصابع، فرأى القلم محركاً في قبضته، فظهر له عذر القلم، فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم، فقال: جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها في عالم الشهادة، وهي الحوالة على القدرة؛ إذ اليد لا حكم لها في نفسها، وإنما محركها القدرة لا محالة، فسافر السالك إلى عالم القدرة، ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله، وسألها عن تحريك اليمين، فقالت: إنما أنا صفة، فاسأل القادر؛ إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات، وعند هذا كاد أن يزيغ، ويطلق بالجراءة لسان السؤال، فثبت بالقول الثابت، ونودي من وراء حجاب سرادقات الحضرة {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: ٢٣) فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقًا يضطرب في غشيته، فلما أفاق قال: سبحانك ما أعظم شأنك، تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك الجبار الواحد القهار، فلا أخاف غيرك، ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك وبرضاك من سخطك، ومالي إلا أن أسألك وأتضرع إليك، وأبتهل بين يديك، فأقول: اشرح لي صدري لأعرفك، واحلل عقدة من لساني لأثني عليك، فنودي من وراء الحجاب؛ إياك أن تطمع في الثناء، وتزيد على سيد الأنبياء، بل ارجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه، وما قاله فقله، فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال: سبحانك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك، فقال: إلهي، إن لم يكن للسان جراءة على الثناء عليك، فهل للقلب مطمع في معرفتك؟ فنودي: إياك أن تتخطى رقاب الصديقين، فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به، فإن أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، أما سمعته يقول: العجز عن درك الإدراك إدراك ٠ فيكفيك نصيبًا من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا، عاجز عن ملاحظة جمالنا وجلالنا ٠ فعند هذا رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته، وقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها: اقبلوا عذري، فإني كنت غريبًا حديث العهد بالدخول في هذه البلاد، ولكل داخل دهشة، فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل، الآن قد صح عندي عذركم، وانكشف لى أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو الواحد القهار، فما أنتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته، مرددون في قبضته وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة استبعد منه ذلك، وقيل له: كيف يكون هو الأول والآخر وهما وصفان متناقضان، وكيف يكون هو الظاهر والباطن، فالأول ليس بالآخر والظاهر ليس بباطن؟ فقال: هو الأول بالإضافة إلى الموجودات؛ إذ صدر منه الكل على الترتيب واحد بعد واحد، وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه، فإنهم لا يزالون مترقين من منزل إلى منزل، إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة، فيكون ذلك آخر السفر، فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود، وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس، ظاهر بالإضافة إلى مَنْ يطلبه في السراج الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت، فهكذا كان توحيد السالكين لطريق التوحيد في الفعل؛ أعني من انكشف له أن الفاعل واحد. فإن قلت: فقد انتهى هذا التوحيد إلى أنه ينبني على الإيمان بعالم الملكوت، فمن لم يفهم ذلك أو يجحده، فما طريقه ? فأقول: أمَّا الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له: إنكارك لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت، وهم الذين حصروا العلوم في الحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم؛ لأنها لا تدرك بالحواس الخمس، فلازموا حضيض عالم الشهادة بالحواس الخمس، فإن قال: وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة بالحواس الخمس، ولا أعلم شيئًا سواه، فيقال: إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس، فإنهم قالوا: ما نراه لا نثق به؛ فلعلنا نراه في المنام، فإن قال: وأنا من جملتهم فإني شاك أيضًا في المحسوسات، فيقال: هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه، فيترك أيامًا قلائل، وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء. هذا حكم الجاحد وأما الذي لا يجحد، ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت، فإن وجدوها صحيحة في الأصل، وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة والتنقية، اشتغلوا بتنقية اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة، فإذا استوى بصره أرشد إلى الطريق ليسلكها، كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بخواص أصحابه، فإن كان غير قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد، ولم يمكنه أن يسمع كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد، كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى حضيض فهمه، فإن في عالم الشهادة أيضًا توحيدًا؛ إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين، والبلد يفسد بأميرين، فيقال له على حد عقله: إله العالم واحد، والمدبر واحد؛ إذ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: ٢٢) فيكون ذلك على ذوق ما رآه في عالم الشهادة، فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق بقدر عقله، وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم، ولذلك نزل القرآن بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة، فإن قلت: فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عماداً للتوكل وأصلاً فيه ? فأقول: نعم.. فإن الاعتقاد إذا قَوِيَ عَمِلَ عَمَلَ الكَشْفِ في إثارة الأحوال، إلا أنه في الغالب يضعف ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالبًا؛ ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه أو إلى أن يتعلم هو الكلام؛ ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من أبويه أو من أهل بلده. وأما الذي شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك، بل لو كشف الغطاء لما ازداد يقينًا، وإنْ كان يزداد وضوحًا كما أن الذي يرى إنسانًا في وقت الأسفار لا يزداد يقينًا عند طلوع الشمس بأنه إنسان. ولكن يزداد وضوحًا في تفصيل خلقته، وما مثال المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري، فإن سحرة فرعون لما كانوا مطلعين على منتهى تأثير السحرة؛ لطول مشاهدتهم وتجربتهم، رأوا من موسى عليه السلام ما جاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر، فلم يكترثوا بقول فرعون: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ} (الأعراف: ١٢٤) ، بل {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه : ٧٢) فإن البيان والكشف يمنع التغيير، وأما أصحاب السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان، فلما نظروا إلى عجل السامري وسمعوا خواره، تغيروا وسمعوا قوله: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} (طه: ٨٨) ، ونسوا أنه {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً} (طه: ٨٩) فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة، إذا نظر إلى عجل؛ لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف التضاد في عالم الشهادة كثير، وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى؛ فلذلك لا نجد فيه اختلافًا وتضادًا أصلاً، فإنْ قلت: ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات، وكل ذلك ظاهر إلا في حركات الإنسان، فإنه يتحرك إن شاء الله ويسكن إن شاء، فكيف يكون مسخرًا ? فاعلم أنه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء، ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء، لكان هذا مذلة القدم وموقع الغلط، ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء أن يشاء أم لم يشأ، فليست المشيئة إليه، إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى، وتسلسل إلى غير نهاية، وإذا لم تكن إليه المشيئة، فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدرورها انصرفت القدرة لا محالة، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة. فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة، والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب، فهذه ضرورات ترتب بعضها على بعض، وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها، ولا وجود الحركة بعد بعث المشيئة للقدرة فهو مضطر في الجميع، فان قلت: فهذا جبر محض، والجبر يناقض الاختيار، وأنت لا تنكر الاختيار، فكيف يكون مجبورًا مختارًا ? فأقول: لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور، فهو إذًا مجبور على الاختيار، فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار ? فلنشرح الاختيار بلسان المتكلمين شرحًا وجيزًا يليق بما ذكر متطفلاً وتابعًا، فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا علم المعاملة، ولكني أقول: لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه، إذ يقال الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس وبالرئة والحنجرة، ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه، فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة، وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار والجبر واحد، ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور، فأعرب لك عنها بثلاث عبارات: فنسمي خرقه للماء عند وقوعه على وجهه فِعْلاً طبيعيًّا، ونسمي تنفسه فعلاً إراديًّا، ونسمي كتابته فِعْلاً اختياريًّا، والجبر ظاهر في الفعل الطبيعى؛ لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى من السطح للهواء انْخَرَقَ الهواء لا محالة، فيكون الخرق بعد التخطي ضروريًّا، والتنفس في معناه، فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن، فمهما كان الثقل موجودًا وجد الانخراق بعده وليس الثقل إليه، وكذلك الإرادة ليست إليه، ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطرارًا، ولو أراد أن يتركها مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطرارًا فعل إرادي. ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة في مشاهدته بالإدراك، حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها، ولو أراد أن يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة، فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي في كونه ضروريًّا. وأما الثالث وهو الاختياري فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق، وهو الذي يقال فيه: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وتارة يشاء وتارة لا يشاء، فيظن من هذا أن الأمر إليه، وهذا للجهل بمعنى الاختيار، فلنكشف عنه، وبيانه أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق لك، والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة، بأنه يوافقك من غير تحير وتردد وإلى ما قد يتردد العقل فيه، فالذي تقطع به من غير تردد أن يقصد عينك مثلاً بإبرة أو بدنك بسيف، فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق، فلا جرم تنبعث الإرادة بالعلم والقدرة بالإرادة، وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد بدفع السيف، ولكن من غير روية وفكرة، ويكون ذلك بالإرادة، ومن الأشياء ما يتوقف التميز والعقل فيه، فلا يدري أنه موافق أم لا، فيحتاج إلى روية وفكر، حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك، فإذا حصل بالفكر والروية العلم؛ بأن أحدهما خير التحق ذلك بالذي يقطع به من غير روية وفكر، فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان، فإذا انبعثت لفعل ما ظهر للعقل أنه خير، سميت هذه الإرادة اختيارًا مشتقًّا من الخير؛ أي: هو انبعاث إلى ما ظهر للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة، ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك الإرادة، وهو ظهور خيرية الفعل في حقه، إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير روية بل على البديهة، وهذا افتقر إلى الروية. فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة، وهي التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف، وعن هذا قيل: إن العقل يحتاج إليه للتميز بين خير الخيرين وشر الشرين، ولا أتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس والتخيل أو بحكم جزم من العقل، ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلاً، لم يمكنه لا لعدم القدرة في اليد، ولا لعدم السكين، ولكن لفقد الإرادة الراعية المشخصة للقدرة، وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحس؛ بكون الفعل موافقًا، وقتله نفسه ليس موافقًا له، فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في عقوبة مؤلمة لا تطاق، فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد، لأنه تردد بين شر الشرين، فإنْ ترجح له بعد الروية أن ترك القتل أقل شرًّا لم يمكنه قتل نفسه، وأن حكم بأن القتل أقل شرًا، وكان حكمه جزمًا لا ميل فيه لا صارف منه، انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه؛ كالذي يتبع بالسيف للقتل، فإنه يرمي بنفسه من السطح مثلاً، وإن كان مهلكًا ولا يبالي ولا يمكنه أن لا يرمي نفسه، فإن كان يتبع بضرب خفيف انتهى إلى طرف السطح، حكم العقل بأن الضرب أهون من الرمي فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمي نفسه ولا تنبعث له داعية ألبتة؛ لأن داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس، والقدرة مسخرة للداعية، والحركة مسخرة للقدرة، والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري، فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور، فإما أن يكون منه فكلا ولا. فإذًا معنى كونه مجبورًا أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه، ومعنى كونه مختارًا أنه محل لإرادة حدثت فيه جبرًا بعد حكم العقل بكون الفعل خيرًا محضًا موافقًا، وحدث الحكم أيضًا جبرًا، فإذًا هو مجبور على الاختيار، ففعل النار في الإحراق مثلاً جبر محض، وفعل الله تعالى اختيار محض، وفعل الإنسان على منزلة بين المنزلتين، فإنه جبر على الاختيار، فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثلاثة؛ لأنه لما كان فنًّا ثالثًا وائتموا فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسبًا، وليس مناقضًا للجبر ولا للاختيار، بل هو جامع بينهما عند من فهمه وفعل الله تعالى يسمى اختيارًا، بشرط أن لا يفهم من الاختيار إرادة بعد تحير وتردد، فإن ذلك في حقه محال، وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجاوز، وذكر ذلك لا يليق بهذا العلم، ويطول القول فيه. فإن قلت: فهل تقول إن العلم ولد الإرادة، والإرداة ولدت القدرة، والقدرة ولدت الحركة، وإن كل متأخر حدث من المتقدم، فإن قلت ذلك، فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله تعالى، وإن أبيت ذلك، فما معنى ترتيب البعض من هذا على البعض ? فاعلم أن القول بأن بعض ذلك حدث عن بعض جهل محض، سواء عبر عنه بالتوالد أو بغيره، بل حوالة جميع ذلك على المعنى الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية، وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه، والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع تشبيه بقدرتنا، وهو بعيد عن الحق، وبيان ذلك يطول، ولكن بعض المقدرات مترتب على البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط، فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد علم، ولا علم إلا بعد حياة، ولا حياة إلا بعد محل الحياة، وكما لا يجوز أن يقال: الحياة تحصل من الجسم الذي هو من شرط الحياة، فكذلك في سائر درجات الترتيب، ولكن بعض الشروط ربما ظهرت للعامة، وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق، وإلا فلا يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم، وكذلك جميع أفعال الله تعالى، ولولا ذلك لكان التقديم والتأخير عبثًا يضاهي فعل المجانين - تعالى الله عن قول الجاهلين علوًّا كبيرًا - وإلى هذا أشار قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦) ، وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الدخان: ٣٨-٣٩) . فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم، لا يتصور أن يكون إلا كما حدث، وعلى هذا الترتيب الذي وجد، فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه، والمشروط قبل الشرط محال، والمحال لا يوصف بكونه مقدورًا، فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة، ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم، وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب الحق، ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق، بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهم ذلك عسير، ولكنا نضرب لتوقف المقدور مع موجود القدرة على وجود الشرط مثالاً يقرب مبادي الحق من الأفهام الضعيفة، وذلك بأن تقدر إنسان محدثًا قد انغمس في الماء إلى رقبته، فالحدث لا يرتفع عن أعضائه، وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له، فقدر القدرة الأزلية حاضرة وملاقية للمقدورات، متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء، ولكن لا يحصل بها المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارًا للشرط، وهو غسل الوجه، فإذا وضع الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الجدث، فربما يظن الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه؛ لأنه حدث عقبه، إذ يقول كان الماء ملاقيًا ولم يكن رافعًا، والماء لم يتغير عما كان، فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل، بل حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه. فإذًا غسل الوجه هو الرافع للحدث عن اليدين، وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة، والقدرة بالإرادة، والإرادة بالعلم، وكل ذلك خطأ، بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء الملاقي لها لا بغسل الوجه، والماء لا يتغير واليد لم تتغير، ولم يحدث فيهما شيء، ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة، فكهذا ينبغي أن تفهم صدور المقدورات عن القدرة الأزلية، مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة، وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم المكاشفات، فلنترك جميع ذلك، فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل، فإن الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو، وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر على أن نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد، واستيفاء ذلك في عمر نوح محال؛ كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه، وكل ذلك ينطوي تحت قول لا إله إلا الله، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته، ولبه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع، ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً، فكيف يكون الله تعالى فاعلاً، وإن كان الله تعالى فاعلاً، فكيف يكون العبد فاعلاً، ومفعول بين فاعلين غير مفهوم ? فأقول: نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد، وإن كان له معنيان، ويكون الاسم مجملاً مرددًا يبنهما لم يتناقض، كما يقال: قتل الأمير فلانًا، ويقال: قتله الجلاد، ولكن الأمير قاتل والجلاد قاتل بمعنى آخر، فكذلك العبد فاعل بمعنى، والله عز وجل فاعل بمعنى آخر، فمعنى كون الله تعالى فاعلاً أنه المخترع الموجد، ومعنى كون العبد فاعلاً أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة، بعد أن خلق فيه العلم، فارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبط بقدرة الله ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترَع بالمخترِع، وكل ما له ارتباط بقدرة، فإن محل القدرة يسمى فاعلاً له كيفما كان الارتباط، كما يسمى الجلاد قاتلاً والأمير قاتلاً؛ لأن القتل ارتبط بقدرتهما، ولكن على وجهين مختلفين، فلذلك سمي فعلاً لهما فكذلك ارتباط المقدورات بالقدرتين، ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة، ومرة إلى العباد، ونسبها بعنيها مرة أخرى إلى نفسه، فقال تعالى في الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: ١١) ، ثم قال عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: ٤٢) وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: ٦٣) أضاف إلينا، ثم قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَباًّ * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقاًّ * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباًّ * وَعِنَباً} (عبس: ٢٥-٢٨) وقال عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ} (مريم: ١٧) ثم قال تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} (الأنبياء: ٩١) وكان النافخ جبريل عليه السلام، وكما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: ١٨) قيل في التفسير: معناه إذا قرأه عليك جبريل وقال تعالى: {قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التوبة: ١٤) فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه، والتعذيب هو عين القتل بل صرح، وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوَهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} (الأنفال: ١٧) وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: ١٧) وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرًا، ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به راميًا، إذ رميت المعنى الذي يكون العبد به راميًا، إذ هما معنيان مختلفان، وقال الله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: ٤-٥) ، ثم قال: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: ١-٢) ، وقال: {عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: ٤) ، وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٩) ، وقال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ} (الواقعة: ٥٨-٥٩) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف ملك الأرحام: (إنه يدخل الرحم، فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسدًا، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى، أسوي أم معوج ? فيقول الله تعالى ما شاء، ويخلق الملك - وفي لفظ آخر - ويصور الملك، ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة) . وقد قال بعض السلف: إن الملك الذي يقال له الروح، هو الذي يولج الأرواح في الأجساد، وإنه يتنفس بوصفه، فيكون كل نفس من أنفاسه روحًا يلج في جسم، ولذلك سمي روحًا، وما ذكره في مثل هذا الملك وصفته، فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم، فأما كون الروح عبارة عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون تخمين مجرد، وكذلك ذكر الله تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسماوات، ثم قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: ٥٣) وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: ١٨) فبين أنه الدليل على نفسه، وذلك ليس متناقضًا بل طرق الاستدلال مختلفة، فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات، وكم من طالب عرف كل الموجودات بالله، كما قال بعضهم: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي، وهو معنى قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت : ٥٣) وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي والمميت، ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين، ففي الخبر أن ملكي الموت والحياة تناظرا، فقال ملك الموت: أنا أميت الإحياء، وقال ملك الحياة: أنا أحيي الموتى، فأوحى الله تعالى إليهما كونا على عملكما، وما سخرتكما له من الصنع، وأنا المميت والمحيي، لا يميت ولا يحيي سواي، فإذًا الفعل يستعمل على وجوه مختلفة، فلا تتناقض هذه المعاني إذا فهمت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للذي ناوله التمرة: (خذها لو لم تأتها لأتتك) أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة، ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي يأتي الإنسان إليها، وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله فكل من أضاف الكل إلى الله تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة، ومن أضافه إلى غيره فهو المتجاوز والمستعير في كلامه وللتجوز وجه، كما أن للحقيقة وجهًا. واسم الفاعل وضعه واضع اللغة للمخترع، ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلاً بحركته، وظن أنه تحقيق، وتوهم أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز؛ مثل نسبة القتل إلى الأمير، فإنه مجاز بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد، فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس، وقالوا: إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوي للمخترع، فلا فاعل إلا الله، فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز؛ أي: تجوز به عما وضعه اللغوي له، لما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصدًا أو اتفاقًا، صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... أي كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره، فهو باعتبار نفسه باطل، وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه، فإذًا لا حق بالحقيقة إلا الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء، فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته، فهو الحق وما سواه باطل، ولذلك قال سهل: يا مسكين، كان ولم تكن، ويكون ولا تكون، فلما كنت اليوم صرت تقول أنا وأنا، كن الآن كما لم تكن، فإنه اليوم كما كان. فإن قلت: فقد ظهر الآن أن الكل جبر، فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا، وكيف غضبه على فعل نفسه ? فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر، فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر، والذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل، ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة، فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب، والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب، ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل، وهذا الإيمان أيضًا باب عظيم من أبواب الإيمان، وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقادًا قاطعًا لا يستريب فيه، وهو أن يصدق تصديقًا يقينيًّا لا ضعف فيه، ولا ريب أن الله عز وجل لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم، وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها، ثم زاد مثل عدد جميعهم علمًا وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور، وأطلعهم على أسرار الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات، حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم، لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والظهور عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة، ولا أن يرفع منها ذرة، ولا أن يخفض منها ذرة، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم به عليه، بل كل ما خلق الله تعالى من السماوات والأرض إنْ رجعوا فيها البصر وطولوا فيها النظر، ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور. وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من: رزق وأجل، وسرور وحزن، وعجز وقدرة، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية، فكله عدل محض لا جور فيه، وحق صرف لا ظلم فيه، بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي، وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي، وليس في الإمكان أصلاً أحسن منه، ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع القدرة ولم يتفضل بفعله، لكان بخلاً يناقض الجود، وظلمًا يناقض العدل، ولو لم يكن قادرًا لكان عجزًا يناقص الألوهية، بل كان فقرًا وضرًّا في الدنيا، فهو نقصان في الدنيا وزيادة في الآخرة، وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره؛ إذ لولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار لما عرف أهل الجنة قدر النعمة، وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائهم، وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل، فكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران، وفداء أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل، وما لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس، فإن الكمال والنقص يظهر بالإضافة، فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعًا، وكما أن قطع اليد إذا تأكلت إبقاء على الروح عدل؛ لأنه فداء كامل بناقص، فكذلك الأمر في التفاوت الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة، فكل ذلك عدل لا جور فيه، وحق لا لعب فيه، وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق، واسع الأطراف، مضطرب الأمواج، قريب في السعة من بحر التوحيد، فيه غرق طوائف من القاصرين، ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا العالمون، ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون، ومنع من إفشاء سره المكاشفون. والحاصل أن الشر والخير مقضي به، وقد كان ما قضي به واجب الحصول بعد سبق المشيئة، فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره، بل كل صغير وكبير مستطر، وحصوله بقدر معلوم منتظر، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولنقتصر على هذه المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل، ولنرجع إلى علم المعاملة إن شاء الله تعالى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.