حب القوة.. رابطة الدين قد بينا هنا لكم أن رابطة القومية لا يعدو نفعها قدرًا طفيفًا كأن يعين الرجل رجلاً من عترته على رجل من عترة أخرى. وإن هذا القدر لو لبث عليه الإنسان لما تميز على الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا. وهنا نبين كيف حدثت لهذا النوع رابطة أخرى، وكيف أورثته قوة عظمى، وسارت به في الارتقاء مسافة كبرى. تأسيس إن من المحقق المحسوس أن الأقاليم والأعمال والأعمار تحدث في أهلها ثم في أعقابهم من الصفات الجسدية ما يجعل بينهم وبين الآخرين فروقًا تبتدئ صغيرة ثم تكبر. فهذه من جملة الأسباب التي أوجبت - على التمادي - الفروق التي بين أبدان البشر. وليس من صددنا الآن التصدي لذكر الأسباب الأخر؛ بل نكتفي بهذه لندعم بها مقدمة أردنا إثباتها هنا وهي أنه (كما تتفاوت الأبدان لأسباب تتفاوت الأفكار لأسباب) ، (ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا) . ومن المحقق المحسوس والمعقول أن بين القوى الثلاثة التي في الإنسان ارتباطًا فالقوى الظاهرة مسخرة للنوعين الآخرين من قواه نعني بهما قوة الإدراك - التي نسميها الفكر أو العقل - وقوة الطلب والإرادة - التي نسميها القلب - وإننا نجد أن العقل والقلب يكونان على مبلغ البدن من الصحة والاعتدال والقوة. ثم نجد لصحة البدن أسبابًا منها صحة الإدراك واعتدال الإرادة، هذا الارتباط دقيق جدًّا وفيه شبه الدور الذي يمنعه علماء التصور والتصديق (المنطق) ولدقته خفي على أكثر الناس إنافة كل قوة على أختها في التأثير. فمن الناس من ظن أن صحة البدن هي التي تنتج صحة الفكر والإرادة. وقد نسوا أن أصح البهائم بدنًا لا تفوق بالفهم أضعفها. ونسوا أن الذين ليس لهم نصيب كبير من الحياة النوعية - كرعاء الإبل - أقرب إلى صحة الأبدان منهم إلى صحة الأفكار ونحن بهذا الاحتجاج لم نرد تفنيد ذلك الرأي من كل الوجوه بل من وجه الجمود على هذه الجهة وحدها. وآخرون ظنوا أن الأصل صحة العقل فهي التي تنتج صحة البدن والإرادة. وقد نسو أن أقوى الناس عقلاً لا يفوق بصحة البدن ضعاف الإدراك وبصحة الإرادة ضعاف الأبدان. كل هذه الظنون نشأت من الشعور بذلك الارتباط ولكن لم يرافقها التدقيق فسيمت بالارتباك. والظن السديد الموطود هو أن الارتباط موجود، والدور مفقود، والأمر دائر على فضل طفيف بينها. فهبة القلب للعقل والبدن تنيف إنافة قليلة على اتهابه منهما. وهبة العقل للبدن تنيف قليلاً على اتهابه منه. ثم وراء الكل للعقل والقلب جاذبان ضدان مستتران قد أوجدهما بارئ الكل محكًا للعقول؛ ليخلص الطيب كما يخلص النور من الغثاء الأحوى. ولا يسأل من خلق الأضداد عما خلق. سبحانه هو المنزه وحده عن الأضداد والأنداد. هذا ما ظهر لنا من كيفية الارتباط بين قوى الجسد الظاهرة والباطنة ثم علاقتها بالأمرين الغيبيين، وهو يعرفنا أنه مهما يكن للأمور الحسيّة من تأثير فإن وراءها أمورًا غيبية. وأنه مهما يكن للأمور الغيبية من تأثير فإن للأمور الحسية دخلاً وشركة. وتثمر هذه المعرفة احترام الأسباب الظاهرة أدبًا مع من لم يوجدها عبثًا، وتشوف النفوس إلى ما وراء المعارف الحاضرة، وبمثل هذا كان رقي النوع في المعارف. ويؤخذ من هذا أن أوائل علم البشر كلها إلهامية وحيية وأن إلهام كل فرد يكون بحسب قواه. ومعنى الإلهام أو الوحي في اللغة: الإلقاء في الروع؛ أي: الإخطار على البال. بيد أنه يكون على ثلاثة أنواع يختلف تعريفه اصطلاحًا بحسبها: النوع الأول: عام وهو ما تكون به هداية كل نوع لما يصلح له قوامه كالذي نراه في فطر آكلة العشب من اجتناب الأعشاب التي لا تلائمها من غير معلم ومن غير تجربة سابقة؛ كالخيل والبقر والأنعام. وكالذي نراه من اتخاذ كل نوع من الأنواع المتعادية أسباب الدفاع والهجوم من صياصي وخدائع. اعتبر بذلك من صغار الحشرات إلى كبار السباع. وكالذي نشاهده من استشفاء البعض منها ببعض الأعشاب كالسنانير والكلاب. وكالذي نراه من نظام الحيوانات المنقادة لرئيس منها كالنحل والنمل [*] . والنوع الثاني: خاص وهو ما تكون به هداية هذا النوع الإنساني في حياته النوعية وشؤونه الخصوصية. ومن هذا الباب الرجاء الفجائي وأوائل الاختراعات على اختلافها [**] . والنوع الثالث: أخص وهو ما تكون به هداية بعض الأفراد في معرفة شيء من عالم الغيب الذي من نحوه وردت نواميس عالم الحس فكان بها قوامه ونظامه [****] . ويقابل هذه الهدايات في النوعين الأخيرين الضلالات تأتي من جانب أحد الضدين المجتنَّين المتجاذبين لعقل الإنسان وقلبه. حتى يصعد ذو هدى من النوع الأخير إلى أعلى عالين، وينزل ذو ضلال يضاد إلى أسفل سافلين [****] . ومن ثمة لا يكون هذان النوعان الأخيران لأفراد أهليهما على وتيرة واحدة، وإلا لما كان التفاوت المكتوب؛ وإنما يكون أهلوهما متفاوتين على مقدار قابلياتهم في الاتهاب. فمن الناس من يتعلم من معلم صنعة ثم يوحى إليه أن يجرب تجربة لم يتعلمها ليزيد في تلك الصنعة شيئًا جديدًا، ومنهم من لا يوحى إليه ذلك أو يوحى إليه أن ينقص منها. ومنهم من يوحى إليه أن يبتدئ، ويخترع أمرًا لم يكن من قبل ولم يعلمه إياه معلم. ثم يوحى إليه أن يعلمه للغير أو أن لا يعلمه. ومنهم من يلهم علم أمر سيكون [١] ومنهم من يلقى في روعه أن ينفع غيره، ومنهم من يلقى إليه أن يضر الغير، ومنهم من ينشرح صدره لتصديق الملهم ومن لا ينشرح صدره وهكذا. هذا وربما طالبنا مطالب بتسمية ذينك المتجاذبين المجتنين فأقول: إنه قد سمي من قبل جاذب الخير والسعادة والفضيلة بالروح الطاهر (القدس) ، والأمين، وعون الله، وحبر الله، ونصر الله، وأمر الله، وروح الله، وبالنور، والشفاء، وكل جميل. وسمي جاذب الشر والشقاء والرذيلة بالروح النجس (الرجس) واللعين، ولعن الله، وغضب الله، وخزي الله، وبالظلام، والمرض، وكل قبيح. ولكني أحب الذين يدركون خواص المسمى أولاً ثم يلتفتون إلى الأسماء، فإن وافقت المطلوب كما هنا؛ وإلا التمسوا المطابق، وأكره الذين يلتفتون للأسماء أولاً ثم يتجافون عن الخواص التي ربما لا تظهر لهم من الأسماء. أو يتجافون عن أسماء لم يسمعوها لخواص كانوا قد سمعوا بها. بناء بناءً على هذا الأساس الذي مكناه نخال أو نقول: إن البشر لما تفاوتت أبدانهم وعقولهم وقلوبهم للأسباب الظاهرة والباطنة تفاوتت محبوباتهم ومشتهياتهم، وحرص كل منهم على مشتهاه، واتخذ إلهه هواه، وافق ذلك المشتهى لغيره أو لم يوافق، طابق ذلك التأليه للإنسانية أو لم يطابق، فتكونت بينهم العداوة والبغضاء، وأمسى القرباء بعداء، وزين للأقوياء منهم حطم الضعفاء، وماذا تكون عاقبة الأقوام إذا ألَّهوا الحكام، وتعبدوا بدم الحسام، ألا يستجير الضعاف ويجأرون، ألا يسرون بطلب المناص ويجهرون، فمن ذا الذي يجيب دعوة المضطرين، أفتسمعها الحجار، أفتستجيب لها الأشجار، أفتغيثها الحشرات، أفتلبيها العجماوات، أفترحم لها نفوس الذين من نارهم تضج، ومن غبارهم تعج، لمن يشكون، أتسمعهم الكواكب وتبصرهم. أتجبر كسرهم وتنصرهم، أتقدر ولا تريد، أم كل ذلك عنها بعيد؟ تجل يا عالم الغيب فليس إلا من لدنك يرسل الخالق هذا المدد الذي يحتاجه أكمل عوالم الأرض خاصة، وأشرفها مزية وأعظمها قوة، وأكرمها منزلة. ألم تسبق عناية الفاطر أن تعد لهذا المصنوع البديع ما لا تراه الأبصار، ولا تسمعه الآذان، ولا تبلغه الأذهان، فها هو ذا لم يجد حاجته هذه عند تلك المحسوسات، من الجمادات الأرضية فصاعدًا إلى نيرات السموات، فهل خُبِّئ له هذه الحاجة إلا في خزائنك يا عالم الغيب، تجل لنا بأنوارك، أشرق علينا بأسرارك، متعنا بجمالك، هبنا من كمالك. بل قد سبقت عناية الفاطر وهذا برهانها، وظهرت منحته وهذا سلطانها: إنه كان رجال مطهرون مصلحون يرشدون الأقوياء إلى العدل الذي ينفعهم أنفسهم وغيرهم يرشدون الضعاف إلى أسباب القوة التي يدفعون بها ظلم الظالمين وعلى هذا النحو أسسوا أول ميزان في الأرض لتوزن به ذات كل بالسوى، وتعرف به حدود القوى، فيكون الرجاء والتقوى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النازعات: ٣٧ - ٣٨) وهي القريبة التي لها بعد {* فَإِنَّ الجَحِيمَ} (النازعات: ٣٩) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} (النازعات: ٣٩ - ٤٠) الذي يربي غيره كما يربيه، ويقويه كما يقويه {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ} (النازعات: ٤٠ -٤١) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى} (النازعات: ٤١) . تالله الخدا. لم نُخلق سدى، وإن لَلَّحظة الدنيا غدا، إن هذا لقول من دعوا إلى الهدى، في كل الأمم واللغى، من أول الأزمان حتى المدى. هذا الذي أشرنا إليه هو مبدأ تاريخ الدين القويم ولزيادة التوضيح نقول: لما كان الفساد يكثر كان رجال ممن تغلب فيهم الروح الطاهرة يقومون للإصلاح، ويبرهنون للناس على أنه إذا لم توضع للمطالب والمحبوبات حدود يخضعون لها يفسد النظام، ويفني بعضهم بعضًا، من حيث لا يستفيد آخر من يفني الكل. وكان الناس منهم من يقبل، ومنهم من يُعرِض؛ إذ لو قبل الكل لمن أصلح لما كان اليوم من فساد قط. ولو قبل الكل لمن أفسد لما كان اليوم من نظام قط؛ بل قد كان اتباع المفسدين أكثر؛ لأن الفرق بين المصلح والمفسد كبير، هو فرق ما بين الضدين. وإذا كانت درجة المصلح عالية كان الأقربون منها أقل من الأبعدين. ولولا أن للإصلاحات قوة تؤيدها لتلاشى كل إصلاح قام به مصلح منذ الدور الأول حتى هذا الدور؛ ولكن تلك القوة المؤيدة هي التي تقوم للمصلح ومن يقاربه مقام الكثرة فقد تكون عظيمة ويطيف من الإصلاح بنفوس المفسدين خطرات موقظة مزعجة فتجذب فريقًا منهم وترجعهم عن غيرهم. وقد تكون ضعيفة ويطيف بنفوس المفسدين طائف من الروح الخبيث فيُهلك المفسدون دعاة الإصلاح ومتبعيهم؛ ولكن لا يلبثون بعدهم إلا قليلاً حتى تبيدهم طبيعة الفساد لتقوم الحجة فيما بعد. وهذه خلاصة هذا الأمر: (١) أنه في القديم فسدت العشائر. (٢) فقام في كل قوم مصلح منهم. (٣) فلم يؤمن للإصلاح إلا قليل. (٤) وزاد المفسدون. (٥) فأبادت طبيعة الفساد مَن أبادت منهم من الطاغين. (٦) واعتبر آخرون. (٧) ثم نسوا ما ذُكروا به فأصابهم ما أصاب الأولين. (٨) لتكون آية في الآخرين. (٩) وما برحوا حتى تواتر الهادون. (١٠) وعلا شأن الميزان والوازنون. (١١) وخسر هنالك الطاغون والمطففون {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: ٢-٣) . هذا هو تاريخ هذا الأمر فيما قبل التاريخ. وأما من بعد ذلك فلكل أمة كتب، منكم من يعلمها تقص عليهم أنباء مصلحين عرفوهم ولم تعرفهم أمة أخرى. والجدير بالذكر بعد كل ما تقدم أن الدعاة الهادين الذين قاموا في أقوامهم بألسنتهم قد أثمر عملهم من بعد حين ثمرة كبيرة جدًّا، وهي ربط أقوام كثيرين مختلفي الأنساب واللغات بمبادئ واحدة يدينون جميعًا بها؛ حتى يكون اسم إمامهم فيما بينهم جميعًا مقدسًا؛ بل حتى يكون خلف الشغاف من أفئدتهم، وعمدة الحلف والأقسام في ألسنتهم، فمثل هذه الحال من قوم أو أقوام، تقوى بينهم أواصر القلوب ووشائج الأفكار وهي أهم من أواصر الأبدان ووشائج الأرحام. هذه هي القرابة التي تقرب البعيد، وتحبب بالغريب، وتحمي الضعيف من كيد القوي، هذه رابطة الدين إن سألتم عن اسمها، وإحدى مراقي الإنسانية إن سألتم عن رسمها. وقد عرفتم الآن كيف كان كونها , وكيف صار لونها، وأوصيكم أن لا تجمدوا وتظنوا أن وحي الأنبياء هو من قبيل ما ذكرناه فقط؛ بل هو من أفق آخر أعلى. أتيناكم من أجله بالأشباه والأمثال، وأريناكم في مرائي الكون الإنساني أسفل سافل وأعلى عال. ومن لم يَرَ ينابيع العيون الصغيرة فربما لا يعرف كيف تنفجر الأنهار العظيمة من الأرض وقد يظنها من السماء. وإنما الفرق بينها وبين الصغيرة بحسب المدد فتفكروا وتذكروا. ومعنى الدين الطاعة للتعاليم ويتكون من هذه الطاعة العمومية قوة قد يكون عظمها على مبلغ أهليها من قوة الأبدان والعقول والقلوب وكثرة الأفراد. وكيف ما كانت فإن هذه الرابطة تقضي أن يكون الكل في أنفسهم وأمام غيرهم كرجل واحد. ويظهر أن من مقتضياتها إيجاد نانية كبرى تتضاءل بل تتلاشى فيها الغيرية حتى لا يكون لا متغير. ولكن هذا لا يتم من جهتها حتى يعلم أفراد كل أمة حق العلم ما هو الجوهر الحقيقي للدين القويم. ويعملوا حق العمل بما يطبع في النفس ذلك الجوهر المطلوب. وقد استبعد هذا قوم فحكموا أن الأديان لم تُزد الناس إلا تعاديًا، وزعموا أنها لم تكُ إلا زيًّا من أزياء رابطة القومية مزركشًا قليلاً بما هذبت فيه يد التجارب ونقموا منها تضييق الدائرة على الناس في تصوراتهم وفي عاداتهم وأعمالهم بكثرة ما يأتيهم مؤسسوها من فروع الأمر والنهي والقطع والجزم، في مسائل يحتاج في إدراك أسرارها إلى تبصر عقل سليم، وتروِّي إرادة معتدلة. ويغرق هؤلاء بما تصف ألسنتهم وأقلامهم من الأديان؛ حتى يبعدوا عن الحكمة وهم يظنون القرب منها، ويضلوا الحقيقة وهم يرون أنهم وجدوها؛ ولذلك ناسب أن نأتي في نبذتنا هذه بما يفند من مزاعمهم ونبين لهم ولغيرهم منشأ هذه المزاعم؛ ليتفكر من يتفكر، ويتذكر من يتذكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.) (ثمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))