للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار
وترك الأستاذ الإمام للأزهر

كتب إلينا الكتاب الآتي أحد أعلام الأمة الإسلامية وأركان نهضتها العصرية.
ناظم مدرسة العلوم (الكلية) ومدير جريدتها (على كده انستيوت) الشهيرة
وصاحب المصنفات الكثيرة محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان. فنشرناه
ووصلناه برأينا فيه. قال حفظه الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
غب إهداء سلام ألذ من تغاريد الحمام، وأصفى من قطر الغمام، وأحلى من
صفو المدام، وأشهى من أنفاس الرياض؛ إذ هطل عليها الغمام، وأعبق من روايح
المسك الختام، وأبرق من البدر التمام، وأشرق من الشمس إذ ينقشع عنها الظلام،
أخص به حضرة المولى العلامة النحرير، والعلامة القرم الكبير، مولانا الشيخ
رشيد رضا لم تزل الأقدار تعضده في كل حال. وتصعده للظفر بالأماني والآمال،
ما لمع آل وتكررت الغدو والآصال.
(وبعد) فقد عرفت يا سيدي ما قد أصاب المسلمين من الشرور والفتن،
والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بوداع، وأن النفاق قد أقبل وأشرف
باطلاع، وأن الدين قد استتر وتنكر بوجهه، وتولى بركنه، ونأى بجانبه،
وتطرقت البدع المحدثة، وتسربت الأحداث المستحدثة، ورفعت الأمانة من
المسلمين، وكنست الديانة عن المؤمنين، وبدت الخيانة في حزب سيد المرسلين.
قد أعتم بنا عاتم الفتن وجللتنا حنادس المحن، وغشيتنا غياهب الإحن
وتسربلنا بسرابيل العدم والإملاق، وتقمصنا بقمص الجهل والنفاق، وطحنتنا
الجهالة بكلكلة البلى، وعركنا الجهل فسوانا بتخوم الثرى، لا ننكر من الشر نكرًا،
ولا نعرف من الخير أمرًا، سُلب منا الإخاء، وبدت فينا العداوة والبغضاء،
وسرت فينا الجهالة العمياء، فضربت بذلك علينا المتربة، وحاقت بنا المسغبة،
وجللتنا المعطبة، لا نكترث بما صارت إليه حالنا، ولا نحفل بما تحولت إليه
أحوالنا. ولا نبالي بما خابت منه آمالنا، قوضت عنا خيام المجد والاعتلاء،
وأسرجت لنا رواحل الذل والبلاء؛ وتحولنا عباديد بعد الألفة، وتباديد بعد
اجتماع الكلمة، وتركزت فينا أصول الفرقة، وتشتت اللم وتفرق، وتمزقنا كل
ممزق، يزري بنا العيون، ويزدرينا ريب المنون؛ رحل الإسلام عن عقر
داره، وتربع النفاق في محله وقراره، ومن ثم ترى الاجتماع قد تهدمت
مبانيه، وتبصر الائتلاف قد خوت مرابعه ومغانيه، وتدكدكت من الاتفاق
القنان، وانهدمت منه المصدان [١] وتصرمت أيامه ولياليه، واستبدلت بالانخفاض
معالمه وعواليه، وبالذل والصغار قصوره ومعاليه، خمدت منه كل نار، وانفل
منه كل غرار وعفت منه كل دار، وطمست منه الآثار، وعطل كل فلكه عن المدار،
وكورت شمس علائه، وخسف منه بدر سمائه، وأرجفت منها أرضه العريضة،
واغبرت صفحتها فأضحت مريضة ولم يبق من الإسلام إلا رسم خلق في المقام،
ضمنه كما ضمن الوحي السلام [٢] .
يسومنا الأقوام خسفًا من كل جانب، ويستصغرنا الرجال عسفًا على ظهر كل
لاحب، لم يستبق الدهر لنا قوة ولا دولة، ولم يرض لنا إمرة ولا صولة.
وقد كان يعجبني منكم بين تلك الأحوال المزعجة، ويروقني من جنابكم في تلك
الحالات الموجعة المفجعة، ما حباكم الله سبحانه بفضله، واصطفاكم ببره، لاستفراغ
الوسع في إصلاح المسلمين، والاجتهاد البالغ التام في حضهم على النهضة لأمور
الدنيا والدين، وذلك بما كنتم تنشرون من إمضاءات بليغة، وتنشئون من رسالات
بديعة أنيقة، ومكاتبات بهية شهية رشيقة تحضون بها المسلمين على النهضة،
وتحثونهم على الأوبة، إلى ما كانوا عليه من سالف المجد والاعتلاء، وماضي الكرم
والعلياء، وسابق السبق في مضمار العز والعلا، والاقتحام في مفاوز الكرب والبلاء، والاهتمام في استجلاب المجد من كبد السماء، فيا لها ما قد تضمنت
جريدتكم الباهرة الغراء، من عبارات مهذبة، واستعارات مستعذبة، وأساليب
موشحة، وأساجيع مستملحة، فقد وشيتم إذا أنشأتم، وحبرتم حينما عبرتم، وأعجزتم
حينما أوجزتم، وأذهبتم متى أسهبتم، وخرعتم متى اخترعتم، وأنتم بعون الله
قارع هذه الصفاة، وقريع تلك الصفات، وقرن ذاك المجال، وقرين هذا النضال،
وما برحنا ننقل تلك الإمضاءات الأنيقة من مجلتكم الرشيقة، إلى اللغة الهندوستانية،
من العربية العقيانية، وننشرها في مجلتنا الشهيرة (بعلى كده انستيوت) يستفيد
منها إخواننا الجاهلون، ويستضيء بها المستضيئون ويستعين بها من أضر به ريب
المنون، لدفع كل ملمة ملكية، وكشف كل مهمة سياسية.
وقد كان قبل ذلك بمدة تنيف على ثلاثين سنين، قد نشأ في تلك الآفاق
والأرضيين، رجل من أفاخم الأعيان، اسمه السيد أحمد خان، كان رجلاً همته في
إصلاح المسلمين، والغور التام في دفع الصغار والنكبة عن إخوانه في الدين،
وكان رجلاً متنطعًا مِنْطِيقًا ذا لسان، ومنطق وبيان، يعد في مصاقع الخطباء،
وينخرط في سلك بهاليل الأدباء، يبهر الناس بأساليب خطابه، ويستجلب الخلق
ببديع هضابه، ونادر سحه وتسكابه، فبادره العلماء الأعلام، بالسب والشتام،
ورشقوه بنبال العذل والملام ولعنوه على المنابر في جوامع الإسلام على مر الدهور
وكر الأعوام، وأعلنوا بكفره، وأذنوا بالخروج عن ملته، وأفتوا بإباحة دمه، وهو
بعدُ كان لا يكترث بما كان يقع عليه، وما يبالي بما كانوا ينضون له من سيوف
العداوة معه، وكان لا يفتر عن جده واجتهاده والضرب بعصا التسيار في ميادين
بلاده، ولما صبر على كل ذاك الأذى، وتجلد كالبطل الكميّ في ميادين الوغى، لم
يبرح من وطنه، أن تمثل له الظفر وخذا بين يديه وسار من مكامن عطنه.
ولكن قد قل منكم نشر تلك الإمضاءات البديعة في إصلاح المسلمين
واجتهادكم في تحسين أمورهم من الدنيا والدين، منذ حين، وأراكم قد اقتصرتم على
اقتباس جزء يسير من تفسير العَلَم العيلم الرزين، حكيم الإسلام والمسلمين، وفخار
الملة والدين، وسناد العلماء السادة الأساطين، حضرة مولانا الفاضل العلامة الشيخ
محمد بن عبده مفتي الديار المصرية متعنا الله ببقائه ولعمري هو اليوم فارس رجالنا،
ورأس أمانينا وآمالنا، نأمل به الفوز في السعادة القصوى، ونرجو منه الظفر بما
هو غاية إربنا في الحياة الدنيا، من حصول النهضة الأخرى غب النهضة الأولى،
ولا نجد لذلك مثله في جديد تلك الخلقاء الهابطة السفلى [٣] .
* * *
وقد أدهشنا خبر هائل وصل إلينا من الجامع الأزهر وأوحشنا وأقلق جل
أصحابنا والأمة وأراق الدماء من الجفون والمقل، وكادت القلوب لها أن تتهبل [٤]
وقد انصدعت له الصدور، وتصدعت لها المهج في شلو كل مصدور، وذلك ما
شاع عن هذا الفيلسوف السرسور [٥] ، والحلاحل الوقور، والنبراس في ظلمات
الديجور، من رفض ما كان إليه من نظارة الجامع المذكور، أسفًا على ما تجرب
من جفاء أهل عصره، لا سيما علماء مصره، ومساعدة الحضرة الخديوية للعلماء،
وقضائها بخلاف ما كان يرجى من تلك الحضرة الغراء، لما كان أيده الله تعالى يريد
من إشاعة العلوم الحديثة، وإذاعة المعارف والحكم الجديدة، زيادة على ما كان
يجري فيه من دروس العلوم الشرعية، والمسائل الفرعية، ولما لم يصغ أحد إلى
رأيه ومقالته، ولم يكترث رجل إلى ما كان فيه من محض نصاحته، تمثل لنا عند
ذاك اليأس، وتجسد لنا شبح القنوط والإبلاس [٦] ، لخمود هذا النبراس، فقد كنا
نظن قبل ذلك أن سوف يحفل به عنا ليل المحن، ويقلع عنا دامس الفتن، وتقوض
عنا خيام البلاء، وتعطف عنا سهام الضراء، ويتنفس علينا صبح الإقبال، ويطلع
على وجهنا فجر الآمال، من أجل ذاك البارع الحكيم المفضال، وكنا نظن أنه قد
توقد في الإسلام مصباح يستوقد منه آلاف ألوف من المصابيح، ومفتاح ينفتح به
مغالق أبواب الفرج والتراويح، ولكن قد تبين الآن أنَّا لم نبرح عرضة للبلاء،
ودرية لرماح الضراء، وجزرًا لسيوف البأساء، مازالت هذه الخضراء تدور على
الغبراء، وما أشبه حال هذا الحكيم الرزين في المصريين، بحال السيد أحمد الذي
أعثرناك على حاله في الهنديين، فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، فإنا لله وإ نا
إليه راجعون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبون} (الشعراء: ٢٢٧) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي كده
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهند) (محسن الملك)
***
جواب المنار
يريد السيد المحسن حفظه الله بالإمضاءات التي كانت تنشر في المنار، ثم
تركت - تلك المقالات الخطابية التي تمثل للمسلمين ضعفهم الحاضر وتذكرهم
بمجدهم الغابر، وتحثهم على إصلاح شأنهم في الدنيا والدين، والاعتبار بترقي
المعاصرين، وهذا ما كنا نكثر منه في أول نشأة المنار؛ ليكون تمهيدًا يعد النفوس
لقبول ما نعرضه من الرأي في الإصلاح الديني والاجتماعي ولإعمال الفكرة وتوجيه
الهمة إلى السعي والعمل لخدمة الأمة، ولكننا رأينا الناس قد استحسنوه، وكثيرًا
من أصحاب الصحف قد احتذوه وتقلدوه، حتى صار كأنه مقصود لذاته، لا لأجل
عمل من ورائه، ولذلك صرت ترى في الصحف المصرية التي تسمى إسلامية
كلامًا كثيرًا في حال المسلمين حتى من الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا ما يعرف
أجهل السوقة والعوام، وإن ما عنينا به في المدة الأخيرة يشبه أن يكون مقصدًا أو
غرضًا لتلك المقدمات أو الممهدات. ولا يحسبن الأخ الكريم أننا تركناها يأسًا من
صلاح حال المسلمين. أو فرقًا من مناصبة المشاغبين، التي لا بد أن يكون عرفها
من تصدي جريدة المؤيد للوقوع بنا، بعد ما كانت تشيد وتنوِّه بعملنا، كلا إن هذا لا
يزيدنا إلا قوة في الأمل، وهمة في العمل؛ لأن اللوم بطبعه إغراء، والمقاومة من
بواعث الاعتناء، كما رأيتم في فاتحة المنار لهذه السنة. على أن ما ننشره من
الحكم والمواعظ في التفسير، وما نودعه في مطاوي سائر المباحث من التنبيه
والتذكير، هو في معنى تلك المقالات التي تنشدون ولا تخلو من الخطابيات التي
تخطبون، وقد طالبنا غير واحد صريحًا، بمثل ما أمر السيد به تلويحًا، ولذلك
وعدنا في خاتمة السنة السابعة بالعود إلى تلك المقالات في سنتنا الحاضرة، وقد
نشرنا في الجزء الثاني منها مقالة (حياة الأمم وموتها) مقدمة للكتابة في أنواع
الحياة وحالنا فيها، وسيتلو الكتابة في الحياة الزوجية مقالات في الحياة الملية
والوطنية والسياسية. ونرجو من فضل الله وكرمه أن لا نزداد إلا ثباتًا واعتناء
ما دمنا آمنين في سربنا معافين في بدننا قادرين على النفقة على نفسنا وصحيفتنا.
وأما ترك الأستاذ الإمام للأزهر فهو لم يكن من يأس ألمَّ بنفسه الكبيرة، ولا
عن ضعف في همته العلية، ولا لمقاومة علماء الأزهر لما يريده من إصلاح التعليم
أو إضافة علوم جديدة على ما يقرأ في الأزهر من العلوم، وإنما هو ما تنسمتموه
من الجرائد المصرية، ونزيدكم فيه بيانًا بمكاتبة شخصية، وقد ظلم العقلاء عندنا
وعندكم علماء الأزهر فأنزلوهم من درجتهم في العلم والفهم، كما أعطوهم أكثر من
سهمهم من الشعور والأخلاق.
أما ظلمهم إياهم فهو اعتقادهم وقولهم فيهم أنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية
تقوض بناء الدين، وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم
خروج عن صراط السلف المستقيم، وكل هذه الظنون فيهم باطلة؛ فإن من أصحاب
الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية
وغيرها فكيف لا يخافون الكفر والضلال على أفلاذ أكبادهم مع عدم تمكنهم من
العلوم الدينية ويخافون ذلك على طلاب الأزهر المتوغلين في علوم الدين؟ إن هذا
شيء لا يعقل. ثم كيف يطعنون بأكابر علماء الإسلام الأعلام الذين تمكنوا من علوم
الدنيا وصاروا يعدون من الفلاسفة كالإمام الغزالي والإمام الرازي وفلان وفلان؟ ثم
كيف لا يطعنون بدين أكابر أمرائهم وحكامهم في هذا العصر وهم قد تعلموا هذه
العلوم في مدارس مصر وأوربا، وقلما يوجد فيهم من تلقى عقيدة الإسلام ببراهينها أو
عرف مهمات أحكامها ولو غفلاً من دلائلها وحكمها وإن منهم من يصف بعض
هؤلاء الأمراء بالتقوى والصلاح. فظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال فيهم إنهم
يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه وإنهم يجهلون أن الإسلام
جمع بين مصالح الدارين، وأنه دين عام وأن لا دين بعده أوفق لمصلحة جميع
البشر منه مع استلزام هذا لكون الإسلام يتفق مع علوم البشر ومدنيتهم في كل زمان
وإلا كان متضمناً لتكليفهم ما لا يطيقون. نعم إنه يوجد فيهم بعض الأغبياء الذين
يعبث بهم هذا الوهم ولكن الحكم على جميعهم أو أكثرهم بذلك ظلم وجور. وإنني
أقول: إن الأستاذ الإمام لم يقرر في إصلاح الأزهر شيئًا إلا برأي جماعة من كبرائهم
واستحسانهم، وقد نفذ بعض ما طلبه وحاوله برضاهم وموافقتهم وأوقف بعض
الإصلاح للأسباب التي لا أصرح بشرحها بعد رضاهم به واعترافهم بفائدته.
وأما وصفهم بأكثر مما يستحقون من الشعور بالمصلحة وإرادة الخير فهو تابع
لذلك الظلم وهو اعتقاد كثير من العقلاء في مصر وفي أقطار أخرى أن هؤلاء
الناس أعداء الإصلاح الذي عرف سراة الأمة وعقلاؤها شدة الحاجة إليه لما في
قلوبهم من الشعور بضرره، ولما عندهم من الإرادة القوية والعزيمة الصادقة والغيرة
الملتهبة على الإسلام والمسلمين، وأنهم لا يخافون في ذلك لومة لائم، ولا سطوة
حاكم، ولا حرمانًا من منفعة مالية، أو كسوة تشريف قصيبة، والحق أن هذا
الصنف الشريف الذي كان له من قوة العزيمة بالاتحاد والاتفاق ما يقيم به محمدًا
عليًّا حاكمًا على البلاد المصرية قد استُضعف فضَعُف حتى صار لا يجهر برأيه إلا
إذا أيقن أن قويًّا يمده أو حاكمًا يسنده، وكثيرًا ما يستحسن أمرًا ثم يستهجنه، أو
يستقبح شيئًا ثم يستحسنه، ولقد كان أكابر علماء الأزهر موافقين للشيخ محمد عبده
في كل شيء يقترحه لإصلاح الأزهر أيام كان مؤيدًا بنفوذ الأمير، وإنما كانوا
يرغبون إليه في أن يكون ذلك بالتدريج البطيء؛ لأنهم لم يتعودوه ويثقل على المرء
لا سيما الكبير المضي فيما لم يتعود. ولما بدا للأمير في تأييده ومساعدته وقف كل
اقتراح، وعورض كل إصلاح، حتى لم يبق للحكومة الخديوية ثقة بتخريج القضاة
في ذلك المكان فهي ستبني مدرسة جديدة لتخريجهم فيها ولم يبق لها من العناية
بالأزهر إلا حفظ الأمن فيه كما هو حق كل صنف وكل شيء على الحكومة.
لأجل هذا ترك الأزهر، ولكن آثاره الصالحة لن تتركه فهو قد وضع أساس
النظام الذي قد يضعف تارة ويقوى تارة، وقد يزاد فيه وينقص منه ولكنه لا يزول
وهو قد نفخ في نفوس كثير من الأذكياء فيه روح الشعور بالحاجة إلى إصلاح
التعليم وإصلاح الأخلاق وخدمة الإسلام والمسلمين والسعي في إزالة ما غشيهم من
البدع والفتن فأضعفهم وأذلهم فلن يموت هذا الشعور. ثم إنه لم يزدد إلا رجاء بالله
وهمة في خدمة ملته بالعمل والتدريس والتأليف لا يثنيه عن ذلك ثانٍ إلا ما يلم به
من المرض أحيانًا، شفاه الله ونفع به آمين.
هذا وإن العبرة الكبرى فيما كتب هذا السري الكبير هو إحساس المسلمين
المخلصين الذين يعرفون الإسلام ويغارون عليه بأن الإصلاح إذا ظهر في أي قطر
ففائدته لابد أن تكون عامة لكل البلاد الإسلامية، وأن النور إذا ظهر في هذه الأمة
من أي مطلع؛ فإنه ينبسط على جميع البقاع؛ لأن هذه الأمة أمة واحدة ربها واحد
وكتابها واحد ونبيها واحد، والهداة في دينه على ملة واحدة، وهي ما جاء به نبيه عنه
ومصلحتها لذلك واحدة، فما يضرها يضر جميع المتبعين لها وما ينفعها ينفعهم
أجمعين. لأجل هذا أحس الأحياء من مسلمي الهند بأن ما دهي به الإصلاح في
الأزهر هو مصيبة على الإسلام والمسلمين في جميع الأرض؛ لأنه كان يرجى أن
يكون خيره متى ثبت ونحج عامًّا لجميع مسلمي الأرض ولو بعد حين. فماذا يقول
أولئك الذين يريدون أن يقطعوا أوصال المسلمين بنزغات (الوطنية) الفاسدة في
هذا الإحساس الشريف من إخواننا في الهند وكذا في غيرها كما نشير إليه في النبذة
الآتية.
تأثير ترك الأستاذ الإمام للأزهر في المسلمين
لقد اضطربت قلوب عقلاء المسلمين ووجمت نفوسهم لهذا النبأ في كل قطر،
فقد جاءتنا الكتب والرسائل في ذلك من السودان وسوريا ومن بلاد المغرب والمشرق
ما بين شاكية وباكية منها ما يعرف مرسلوها عذر الإمام، ويرون أن لا عَتْب عليه
ولا ملام لوقوفهم على حقيقة أحوال هذه البلاد فرأيهم في ذلك كرأي أكثر العقلاء
في مصر الذين استشار الإمام بعضهم فأشاروا بوجوب تركه، ومنها ما يتضمن اللوم
لاعتقاد أصحابها أن الأستاذ الإمام قد يئس من إصلاح المسلمين؛ فترك خدمة الملة
مللاً من مقاومة الجامدين أو علمًا بأنهم غير مستعدين، وقد آلمهم ذلك لأنهم يعتقدون
أنه أكبر زعيم للإسلام في هذا العصر وأقوى نصير له في علمائه، ويشعرون بأنهم
يستمدون منه الهمة والغيرة والرأي الصحيح على بُعد الديار وتنائي الأقطار ولا أنكر
أنني أعرف من أذكياء المسلمين الأقربين دارًا، بل ومن المصريين أنفسهم من
سرى إليه شيء من هذا الوهم. وقد آلمني وسيؤلم كل ذي غيرة وشعور قول
(محسن الملك) إن اليأس والقنوط قد تمثل لأهل النهضة الإسلامية في الهند وشعروا
بأن قد طفئ نور الصلاح المنبعث من هذا الإمام فوقعوا في حنادس الظلام يحزننا
ويمضُّنا هذا القول من قوم نعتقد أن نهضتهم أعلى من نهضتنا، وهمتهم أعلى من
همتنا، والأمل فيهم أقوى من الأمل فينا، ولا نفضلهم إلا بهذا الرجل وبإتقان اللغة
العربية؛ لأننا نراهم يرجوننا أكثر مما يرجون أنفسهم كما أنه يسرنا شعورهم
بارتباطهم بنا ولا يأس منا ولا منهم إن شاء الله.
إن من أغرب ما كتب إلينا في هذه الحادثة نبذة لأحد الفضلاء في فاس
وهي: (قد ساءنا وايم الله ما بلغنا من استقالة حضرة جناب الأستاذ الإمام، وعالم
علماء الإسلام، فريد هذا العصر وغرة جبين الدهر، ذروة جهابذة الآفاق،
ونخبة كبراء المصلحين بالاتفاق، مولانا وسيدنا الشيخ محمد عبده أدام الله بقاءه
مرشدًا للعالمين من عضوية إدارة مجلس الأزهر الشريف الذي كان متَّعنا الله
بوجوده مجتهدًا في إصلاحه، كما سائتنا تلك الخطبة..... ولكن {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا} (العنكبوت: ٦٩) وقد كدَّر ورود هذا الخبر جميع محبيكم ومحبي الأستاذ
الإمام، لعلمنا بأنكم من المجدين في إصلاح الأمة الإسلامية) ... إلخ.
وإنما كان هذا غريبًا؛ لأن تلك البلاد أبعد بلاد المسلمين عن التفكير في
الإصلاح أو الشعور بالحاجة إليه، ولكن هذه الأفكار قد سرت في كثير من أهلها من
بعض المهاجرين إليهم من المسلمين ومن قراءة بعض الصحف كالمنار. وقد ختم
هذا الكاتب كلامه بقوله (وأدام الله بقاءكم رغمًا عن أنف الجاهلين والمستبدين
والمفسدين والمقلدين) اهـ. ويوشك أن ننشر آراء أخرى في جزء آخر.