للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

الحمد لله، إلى حضرة أخي العلامة السيد رشيد رضا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قد قرأت بمناركم الأغر في العدد الأخير
المحرر آخر شعبان رسالةً مصطنعةً من بتاوى يقول كاتبها في أثنائها: إنها نبغت
في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب، إلى أن قال: وقد غاظ أمرهم هذا أناسًا
عاشوا بترويج الرابطة والتوجه، وآخرين جمدوا على ما قاله بعض مصنفي
المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون الله إلى آخره.
فيا أيها السيد رشيد، إني سأخبرك بالحق. والواقع أن ذلك الكلام لا وجود له
مطلقًا بهذه الديار، والناس في جهل لا يعرفون معنى التقليد ولا الاجتهاد، وإنما
ظهر واحد جاهل مبتدع فجعل يتذرع بذكر الكتاب والسنة كذبًا وما ذلك إلا ليطعن
على المصلحين. إني لا أعرف أحدًا بهذه الديار يعرف الشيخ ابن تيمية، وأولئك
الذين يدعون بفضل ابن تيمية هم أول من يرمون بقوله عرض الحائط فيما إذا لم
يوافق هواهم، وإني شارع في جمع رسالة اعتمدت فيها على ما يقوله ابن تيمية مما
هم مجاهرون بأقوال لا يرضى ابن تيمية بها، وها هنا المحك، فإن أذعنوا
واعترفوا وسلموا لأقوال ابن تيمية وحفظه ونقله عرفنا أن ضالتهم المنشودة الحق،
وإلا فإليك ما يقولونه واستمع به.
تأمل أيها الأخ، أولئك الذين يدعون أنهم يذبون عن ابن تيمية، ونحن نعترف
بجلالة ابن تيمية، والذي أعتقده أنهم جعلوا ذبهم عن ابن تيمية ذريعة للطعن على
من يذب عن معاوية، وكل منهما جدير بأن يذب عنه، ومعاوية بن أبي سفيان
- رضي الله عنه - أولى بالذب إن كانوا عبيدًا للحق، ونحن لا نرضى لهم أن
يلبسوا على صاحب المنار، فإن السائل أسير المسئول (؟) .
ليس هنا شيء مما يزعمونه إلا الطعن على معاوية وجواز لعنه وسبه بل كفره،
ولم يعرضوا بالشيخ ابن حجر إلا لأجل كتابيه: تطهير الجنان والصواعق المحرقة.
هذا هو الحق الذي ندين الله به ونرفعه إلى صاحب المنار؛ لينشره على
صفحات المنار إعلاء للحق، وإن لم يكن ما أقوله فليتفضلوا وليبينوا ما هي
المسائل التي اتخذنا فيها ابن حجر ربًّا - سبحانك هذا بهتان عظيم -
وأنه لا يجوز التلاعب بالدين والتغرير بالمسلمين؛ ليطعنوا على ابن حجر،
ولا ابن تيمية ولا غيرهم والكل ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولو عرف
حقيقة مغزى ذلك الكاتب أخونا السيد محمد رشيد لما أجابه مطلقًا، وأنى له أن
يعرف ذلك، وها أنا أشرح باسمي أسفل ما أكتبه لمعرفتي ببضاعتي.
... ... ... ... ... ... ... ... حسن بن علوي بن شهاب
(المنار)
جاءنا من هذا الكاتب رسالة أخرى في هذا الموضوع أيضًا، أسهب فيها بما
لا يخرج عن معنى رسالته هذه، فاخترنا المختصرة. ومما صرح به في الأخرى
أنه لا غرض لمن كتبوا إلينا ما كتبوا إلا الاحتجاج بقول المنار على عدم الاعتماد
على كلام ابن حجر؛ لأجل كتابيه اللذين ذكرهما لا لأجل الانتصار للكتاب والسنة،
قال: (وقد أطال صاحب المنار في الرد ظنًّا بأن الحرب قائمة على قدم وساق في
المباحث العلمية العملية النافعة المفيدة، وأضاعوا عليه وقته، وإن كان كلامه لا
يخلو من فائدة) ثم قال: (إن تطويله وتعريفه في محله، ولكن أولئك يتخذونه
حجة على لعن معاوية وسبه فقط، فلا علم ولا بحث، ولا خالد ولا بكر إلا معاوية
فقط) وطلب أن يبينوا مسألة غلط فيها ابن حجر فخالف الكتاب أو السنة وقلدوه
فيها.
فظهر أنه من الذين يعرضون فيهم، وطلب منا فصل النزاع في ذلك، وذكر
أن الذي قوى الخوض في هذه المسألة: كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية،
الذي ألفه ونشره صديقه وصديقنا السيد محمد بن عقيل.
أما ما كتبناه في منار شعبان، فلا وجه فيه للاحتجاج على لعن معاوية، وهو
يعلم أنهم كانوا استفتونا في لعن معاوية، فلم نفت بالجواز، ولم ترض تلك الفتوى
السيد محمد بن عقيل، وربما كانت من أسباب تأليفه لذلك الكتاب الذي لم نفرغ
لقراءته لكثرة الأعمال والأسفار، ونحن من أولياء علي - عليه السلام والرضوان -
لا من أولياء معاوية وفئته الباغية عليهم من الله ما يستحقون.
ولكننا لسنا بسبابين ولا لعانين كما ورد في وصف المؤمن، وقد ذكرت في
ترجمة الوالد - رحمه الله تعالى - من المجلد الثامن أنه كان يقول: (لا نحب
معاوية ولا نسبه) وكيف نحب من بغى على جدنا وخرج عليه، وكان سببًا في
تلك الفتن التي كانت نكتة سوداء في تاريخ عصر النور، وهو القرن الأول لنور
الإسلام.
وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لها الله - تعالى -
في كتابه بقوله في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) إلى
حكومة شخصية استبدادية، جعلت مصالح الأمة كالمال يرثه الأقرب فالأقرب إلى
المالك، وإن كرهت الأمة كلها. فكان هذا أصل جميع مصائب الأمة الإسلامية
في دينها ودنياها.
وأما الذي أنصح به الآن لإخواني المسلمين في سنغافورة وجاوة
وحضرموت، كما أنصح به لسائر الناس: فهو أن لا يتفرقوا ولا يتعادوا لأجل
الاختلاف في هذه المسألة، ولا في غيرها، وأن يتأدب بعضهم مع بعض في
الخطاب والكتاب، وأن يعلموا أن التفرق والتعادي أشد ضررًا في الدين والدنيا من
الخطأ الذي يتفرقون ويتعادون لأجله، وأنَّ المخلص في بحثه عن الحق وبيانه له،
لا يعادي إخوانه الذين لم يظهر لهم ما ظهر له، بل يعذرهم ويرفق بهم، وإنما
يؤذي ويعادي صاحب الهوى، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكره
التفرق والخلاف أشد من كراهته لسائر المعاصي، حتى إنه كان يريد أن يرشد
أصحابه إلى شيء فيتركه إذا رآهم تماروا واختلفوا، كما فعل يوم خرج ليعين لهم
ليلة القدر، ويوم أراد أن يكتب لهم كتابًا لا يضلون بعده، والحديثان في صحيح البخاري.
وإني لا أخشى أن تزيد الرسالة التي يؤلفها أخونا السيد حسن بن شهاب هذا
الخلاف والشقاق؛ لأن الغرض منها هو الإفحام والإلزام.
وقد ذكر السيد حسن في هامش رسالته السيد عثمان بن عقيل، وأثنى عليه
بالدين والتقوى وحسن النية على كونه من المقلدين.
وهذا ما أشرنا إليه في جزء شعبان، فإننا شممنا رائحة الإخلاص مما رأيناه من
رسائله، فرجحنا حسن الظن فيه على ما كتب إلينا مرارًا منذ سنين؛ من الطعن فيه
بكونه آلة في يد الحكومة أو حسامًا تقابل به المسلمين من طريق الإسلام نفسه؛ ولذلك
لم ننشر شيئًا من تلك المطاعن الكثيرة , ولكن لا يجوز لنا السكوت عنه إذا هو قاوم
دعوة الإصلاح، ونفر المسلمين من المنار ومن كتب ابن تيمية على الإطلاق، ولو
كان يخطئنا أو يخطئ ابن تيمية في مسألة أو مسائل معينة؛ بأن يطلع على المسألة
في كلامنا أو كلامه وعلى دليلها، ثم يقرع الدليل بالدليل، لاحترمنا قوله مطلقًا،
فإن رأيناه صوابًا أذعنا له، وإن رأيناه خطأ بينا ذلك بالدليل مع الأدب والثناء.