للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ّالمسألة العربية
مقالة للتاريخ

الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية
والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب
في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك.
استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال
في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال
أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل
الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة.
إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم
منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر
حكمها إليها.
إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي
العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام،
وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله
تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: ١٣٠) ،
اقرأ الآيات إلى قوله: { ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣٣) ، فإسلامي
مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو
أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم.
وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم
في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير
معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب
المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد
العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا
أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ
العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو
أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت
وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم،
ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة
للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن
حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم
كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من
الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول
أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه
كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه
عشرًا من كل شيء (راجع: تك ١٤: ١٨) .
قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من
العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير
المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة
الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم
المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى
أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة
الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: ٨٥) ، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا ... إلخ.
وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ
تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: ١٧٦-١٧٨) ولم يقل أخوهم شعيب،
كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: ١٢٤) وفي ثمود {أَخُوهُمْ
صَالِحٌ} (الشعراء: ١٤٢) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم.
وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا
موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت
ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني
سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا
وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما
وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا،
وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين.
* * *
(مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية)
إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا
يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات
مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم
والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة،
وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك
لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة.
إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا
الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن،
وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين
في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا،
ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن
يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة
غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها،
فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية
الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في
بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [١]
إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز،
ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب
مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة
الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي.
وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن
يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا
يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن
الجغرافي [٢] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب
أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن
الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا
من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية
للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على
مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه
المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب
والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع
الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين
الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في
أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم
وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في
بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم
واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه
منذ نصف قرن.
لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء
اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر
عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس
منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن
المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك
الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا
عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا
قصيدتا اليازجي البائية والسينية.
لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي
تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم
يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء.
* * *
(اتهام الترك للعرب)
كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا
يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب
والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف
لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب
المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد
السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما
تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة
العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض
الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء
جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا
لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون
خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية
بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة
العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة
الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل
ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا)
من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي
جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس
يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين
وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب
(عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال
كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق.
إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا ما كان
يسعى لهذا الأمر ولا يرجوه، على أنه كان يعلم أنه لا سبيل له إليه لو تصدى له،
ويعلمون أن من سياسة إنكلترة التقليدية بقاء ما للترك من السلطان والسيادة على
بلاد العرب، وترجيح ذلك على تأسيس دولة عربية جديدة، وهي لم تجنح إلى
سياسة العطف على العرب وإظهار الميل لمساعدتهم على الاستقلال إلا بعد وقوع
الحرب بينها وبين الترك بمدة طويلة.
أما أمراء جزيرة العرب فقد كان كل منهم راضيًا بحاله ولم يكن يخطر ببال
أحد منهم أن يعتدي على الدولة فيما وراء حدود إمارته ولا أن يسعى لذلك بالاتحاد
مع غيره، كما أنه لم يكن يسهل على أحد منهم أن تعتدي الدولة على استقلاله أو
تُحْدث في بلاده حدثًا ما لِما استقر في أنفسهم من غريزة الاستقلال الموروثة في
الأمة العربية، مع عدم ثقة أحد منهم بأن الدولة تقيم شرع الله في بلادهم، على أن
للزيدية دولة أقدم من الدولة العثمانية مازالت تُنَصِّب الأئمة من قريش عليها
ويعتقدون أن الترك من البغاة الخوارج على الإمام الحق، وأهون اعتقاد سائر
عرب الجزيرة في حكام الترك - أنهم ظلمة فسقة مبغضون للعرب، ولكنهم مع ذلك
يحبون بقاء الدولة ويتمنون لها القوة والعظمة لأجل صد الإفرنج عن البلاد
الإسلامية. وقد كان رجال الدولة في العهد الأخير يعتقدون أن الشيخ مبارك الصباح
من أشد العرب عداوة للدولة، ولكنني لما لقيته سنة ١٣٣٠ منصرفي من الهند
أخبرني بما لقيه من عدوان الدولة عليه، وتصديقها لنفيه من الكويت، وأن إنكلترة
منعتها من ذلك بدون طلب منه، وأنه مع ذلك محافظ على نسبته إليها ورافع لعلمها
باختياره، ولو شاء لاستبدل به غيره، ومن كلامه في الترك والعرب: (نحبهم ولا
يحبوننا) .
وأما كبراء العرب في ولايات سورية والعراق من العلماء والوجهاء فقد
كانوا أشد تعصبًا للترك من الترك أنفسهم، حتى كانوا يفضلونهم على العرب
ويسترون ما يعرفون من سيئاتهم، ويكبّرون الصغير من حسناتهم، بل يذكرون لهم
فضائل ومناقب لا يُعرف لها أصل، منها أنهم يعدون بعض ملوكهم من الأولياء،
ومؤرخو الترك يعدونهم من الفساق! . ومما كانوا يذيعونه بين العامة أن الشيخ
محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي قد علما بالكشف أن ملكهم
يبقى إلى قيام الساعة!
تلك حال كبراء البلاد وخاصتها والعامة تبع لهم، لم يُسمع لأحد منهم نبأة
ظاهرة ولا دعوة خفية إلى عداوة الترك أو القيام عليهم أو الاستعداد لتأسيس حكومة
عربية تستقل في البلاد، اللهم إلا ما كان قد قيل من أن شيعة الماسون كانت تسعى
لجعل الأمير عبد القادر خديويًا لسورية، وما قيل في عهد ولاية مدحت باشا على
سورية من أنه كان هو الذي يسعى لجمع كلمة المسلمين وغيرهم للاتفاق على
تأسيس إمارة عربية في سورية كالإمارة المصرية يكون هو الخديو عليها، ومن أن
رستم باشا متصرف لبنان الأجنبي الأصل كان هو الذي كشف للدولة دسيسة شيخ
أحرار الترك وزعيمهم الأكبر، وترتب على ذلك إخراج السلطان عبد الحميد
لمدحت باشا من سورية، وقيل إن تلك الحركة كانت مدبرة بدسائس الآستانة
ليتوسل السلطان بها إلى نفي مدحت باشا، ثم الفتك به. وفي تلك الأثناء نُشرت
قصيدتا الشيخ إبراهيم اليازجي السينية والبائية (راجع ص٨٣١، م١٢) .
ولما كنت أنشر في الآستانة مقالات (العرب والترك) وأشرت فيها إلى هذه
المسألة جرى بيني وبين الصدر الأعظم حسين حلمي باشا حديث في هذا الموضوع،
قال لي في أثنائه: إنه أقام في سورية عدة سنين أيقن في أثنائها بأنه لا يوجد فيها
أحد من وجهاء المسلمين يكره الدولة إلا بعض الأفراد من بيت المؤيد ومن بيت
الصلح، وسائر الوجهاء مخلصون للدولة كغيرهم. ولا أدري مَن عنى بقوله ذاك.
ولم أعلم عن أحد من المعاصرين لنا من أهل هذين البيتين شيئًا يبين المراد لنا من
قوله، إلا أن أحد أفراد البيت الأول كان قد جاء مصر في أوائل عهد مجيئي إليها،
وأسس جمعية دينية يشترط في أعضائها ترك المحرمات والمحافظة على أداء
الفرائض وقد ساعدته على ذلك ولم أكن أسمع منه كلمة تُشعر بأن له غرضًا سياسيًّا
منها وقد أفادت الجمعية فائدة دينية ظاهرة، ثم انشق عنها عضو مصري تركي
الأصل زاعمًا أن للمؤسس غرضًا سياسيًّا منها، وتبعه على هذا جماعة من
أعضائها في القاهرة صاروا يلغطون بذلك. ثم إن المؤسس سافر إلى الآستانة ثم
عاد إلى سورية وأقام فيها. ولو صدّق السلطانُ عبد الحميد أنه كان يسعى إلى ذلك
الغرض السياسي لما أفلت من قبضة انتقامه. وإنما اتهمه بعض الناس بأنه تعمد
إلقاء كلام لأولئك اللاغطين ليشتهر ويوصله الجواسيس إلى السلطان.
هذا كل ما نعلم عن سورية في هذا الأمر. وأما العراق فقد قيل: إن السيد
سلمان القادري نقيب بغداد كان يسعى إلى تأسيس حكومة عربية، وإن طلب السلطان
عبد الحميد في الآستانة قتلاً بالسم كعادة الملوك لم يطعم في القصر السلطاني ولا عند
أحد في الآستانة شربة ماء ولا فنجان قوة ولا غير ذلك، وكان يعتذر بأنه مريض لا
يذوق شيئًا إلا بأمر طبيبه الخاص، ولكن اشتهر أن السلطان أكرم مثواه وقلده نوطًا
ذهبيًا كتب عليه (شيخنا سلمان) وأعاده إلى بغداد عزيزًا كريمًا، ومما
كان يقال في ذلك الوقت أن للسيد سلمان أعداء، سعوا به إلى السلطان؛ وسمعت
والدي رحمه الله تعالى يقول: كان السيد سلمان ذا نفوذ عظيم في قبائل العراق وكان
يوجد مئة ألف مسلح بالمرتين منهم طوع أمره، وأنه بلغه أن سبب نجاته من
فتك السلطان عبد الحميد أن بعض العقلاء من كبراء الآستانة قالوا أن من مصلحة
المسلمين أن يدخر مثل هذا الزعيم لأنه قد يحتاج إليه إذا طرأ على الدولة ما تخشى
عاقبته على بلاد العراق أو ما هو أعظم من ذلك، فلهذه الفكرة أقنعوا السلطان
بوجوب تكريمه (أو تلطيفه كما يقولون) وإعادته إلى بلاده. ولا أدري من أين
وصل إلى والدي هذا الخبر وكنت إذ سمعته منه صغيرًا لا أحفل بالبحث عن أمثال
هذه المسائل.
* * *
(تعاون جمعيات الترك والعرب)
هذا ما يصح أن يذكر من تاريخ هذه المسألة ولا نعلم وراءه شيئًا إلا ما كان
يكتبه في بعض الجرائد والمنشورات، من يقصدون استغلال وسوسة السلطان عبد
الحميد كما تقدم. ولكن أهل الرأي وحملة الأقلام من العرب لم يقصروا في التعاون
مع أمثالهم من الترك على السعي لإصلاح حال الدولة والقضاء على الاستبداد
الحميدي، فلما أسس شبان الترك جمعية الاتحاد والترقي ونشروها في الولايات
دخل فيها كثيرون من شبان العرب وكانت شعبها في سورية أعظم منها في غيرها،
وأسس بعض العرب جمعية أخرى كجمعية الاتحاد بعد ضعف شأن هذه في مصر
وسورية وهي جمعية الشورى العثمانية وأدخلوا في لجنتها المركزية أشهر رجال
الاتحاديين الذين كانوا في مصر وغيرهم من العثمانيين. فكان هَمّ طلاب الإصلاح
من العرب في عهد عبد الحميد هو همّ طلاب الإصلاح من الترك وكانوا يشتغلون
متعاونين والمواصلات بين جمعياتهم لا تنقطع ولا سيما جمعية الاتحاد والترقي في
أوربة وجميعة الشورى العثمانية بمصر، ظلوا على ذلك إلى أن ظفروا بإعادة
الدستور فظن العرب كما ظن غيرهم من الأجناس الذين تتألف منهم المملكة
العثمانية أنهم فازوا بما جاهدوا في سبيله إلى أن قلب لهم المتغلبون على جمعية
الاتحاد - وعلى الدولة - ظَهْر المِجَن، وأوقعوهم في هوة اليأس من
الدولة.
* * *
(السبب الصحيح)
تبين مما شرحناه من الحقائق أن عدم تصدي العرب لإنشاء دولة جديدة لم
يكن سببه الخوف من قوة الدولة كما كان يتوهم الترك؛ فإن العرب أقوى من
اليونان والبلغار وغيرهما من الشعوب التي انفصلت من السلطنة العثمانية،
وصارت دولاً مستقلة، ولم يكن سببه تفرق العرب وتعذر اتفاق أمرائهم وزعمائهم
كما يتوهم الكثيرون منهم ومن غيرهم، فلو وجد هذا القصد لكان هو الجامع لهم،
ولا الجهل الضارب بجرانه في البلاد العربية؛ فإن محمد علي الكبير لما غزا
الدولة وكاد يفتحها كلها لم يكن من علماء السياسة والاجتماع، ولم يكن الشعب
المصري على درجة عالية من العلوم والفنون التي تدفع الشعوب إلى الفتح
والاستعمار.
وإنما كان السبب الصحيح لسكون العرب وسكوتهم عن طلب استقلالهم
وتجديد دولة لهم هو الإسلام وأوربة.
دين الإسلام وسياسة دول أوروبة سببان مستقلان أو سبب واحد مركب،
لكل من جزئيه تأثير خاص في صرف العرب العثمانيين عن السعي للاستقلال،
ولعله لو انفرد أي منهما لما صرفهم كلهم عن كل سعي واستعداد لذلك.
أما الإسلام فقد أزال من أنفس العرب عصبية الجنسية إلا مَن غلبت عليهم
البداوة فإنهم بما توارثوه من الغرائز والأخلاق - لا يخضعون إلا لسلطة رؤسائهم
الذين من أبناء جنسهم، بل من رؤساء عشائرهم. وأما من غلبت عليهم الحضارة
فما زالوا يألفون سلطة الأعاجم من الملوك والسلاطين الذين يتولون أمرهم من قِبَل
الخلفاء العباسيين، ويحكمون بشريعتهم، ويؤيدون لغتهم، ويتركون لغاتهم إليها،
إلى أن هان عليهم الخضوع لسلطة الأعاجم المصرّين على أعجميتهم، الذين لا
يستمدون سلطتهم من خليفة قرشي عربي وهم الترك، بل هان عليهم ادعاء هؤلاء
الأعاجم للخلافة النبوية ورضوا بذلك واطمأنوا له؛ لأنه مع إشرافه على مجموعهم
المتفرق من شاهق القوة العسكرية - قد أطل على قلوبهم من سماء الفتاوى الشرعية،
وتسرب إلى أفكارهم من باب المصلحة الإسلامية؛ ذلك بأن أكثرهم من المنتمين
إلى مذاهب علماء السنة، الذين يوجبون طاعة المتغلب بالقوة، وإن لم يكن حائزًا
لغير الإسلام من شروط الخلافة الشرعية، ومنها النسب القرشي بإجماعهم،
ومستندهم في ذلك رعاية المصلحة الراجحة، وخوف الفتنة. على أنهم مختلفون
في عدّ رعاية المصلحة حجة، أو داخلة فيما ذكروه للقياس من مسالك العلة،
ومختلفون في سد الذرائع أيضًا. ولما كانت الزيدية لا تقول بطاعة المتغلبين، ولا
بمصلحة تبيح ترك اشتراط النسب القرشي العلوي وشرط العلم الديني في أئمة
المسلمين (أي الخلفاء) لم يخضعوا لسلطان الترك، ولا دانوا لحكمهم، بل ظلوا
ينصّبون الأئمة الحائزين للشروط الشرعية في مذهبهم، ويقاتلون الترك الذين
يتصدون لفتح بلادهم، ولم تستطع الترك أن تغلب أئمة اليمن على أمرهم، بل
صالحوا إمامهم الإمام يحيى منذ سنين قليلة، وأقروه على إمامته في قومه ووطنه
بعد أن حاربوه، وحاربوا سلفه أربع مائة سنة، على أن الإمامة لا تتجزأ ولا تتعدد
والحق أن الباعث الأخير لاعتراف أكثر المسلمين بخلافة سلاطين الترك - هو
كوْنهم أمسوا حصنًا لبقية البلاد الإسلامية في وجه أوربة.
وليس من غرضنا هنا أن نبحث في الخلافة وشروطها، وإنما بحْثنا هذا
تاريخي إذا ذكرت فيه مسألة شرعية، فإنما تُذكر على سبيل الاستطراد مختصرة
بقدر الضرورة، ولم تكن مسألة الخلافة من مواضع بحث طلاب الإصلاح من
العرب في السنين الأخيرة خلافًا لأوهام الواهمين التي أثارها في مخيلاتهم لغط
بعض الكُتاب بها في عهد السلطان عبد الحميد لأجل استغلال وساوسه كما تقدم،
حتى صارت حكومته تمنع نشر كل كتاب من كتب الكلام والعقائد والحديث
والتفسير تذكر فيه هذه المسألة. ومن أثر ذلك أنه لما طبع كتاب المسايرة لكمال بن
الهمام، وهو من أهم كتب العقائد عند الحنفية وكثير الرواج في الآستانة، اضطر
طابعه بمصر أن يطبع منه نسخًا، حذف منها بحث الإمامة (الخلافة) لأجل بيعها
في الآستانة وسائر البلاد العثمانية. وصار بعض الجاهلين في مصر يظن أن ذكر
الشروط الشرعية للخلافة - ولا سيما شرط النسب القرشي - لا يصدر إلا من عدو
للدولة وللإسلام أيضًا. على أن هذا الشرط مذكور في الكتب العربية والتركية التي
طُبعت في الآستانة قبل تشديد الحكومة الحميدية في مراقبة المطبوعات وقد ذكر في
بعض الكتب العصرية التي طبعت بعد الدستور، ومنها كتاب لإسماعيل حقي بك
بابان الاتحادي الذي كان مدرسًا في مكتب الحقوق، وصار ناظرًا للمعارف.
* * *
(تكوين الترك للعصبية العربية)
فهذا وجه صدّ الإسلام للعرب عن محاولة الاستقلال دون الترك، وقد قلت
مرارًا: إنه لا يقدر أحد على إعادة هذه العصبية إلى العرب أو إعادتهم إليها بعد أن
أبعدهم الإسلام عنها - إلا الآستانة، أو تحامل الترك عليهم بباعث العصبية
التركية [٣] . وقد صدق الزمان هذا القول وأسس الاتحاديون - بعصبيتهم التركية
واضطهادهم للعرب - بناء العصبية العربية أو أحيوها بعد موتها. فإن هؤلاء
الاتحاديين قد تمرسوا برجالات العرب وشبانهم في الآستانة وغيرها، فعلموا من
أقوالهم وأفعالهم في دُور الحكومة الرسمية ومدارسها وأندية الجمعية في البلاد
العربية أن عزمهم على تتريك العرب كغيرهم بالقوة عزم ثابت لا يرجعون عنه،
وأنهم جازمون بسهولة تتريك بلاد سورية والعراق في سنين معدودة، وما يعسر
تتريكه الآن من جزيرة العرب يعد من المستعمرات، يوضع له قانون خاص
لإدارته، ولا يكون لأهله ما لسائر العثمانيين من الحقوق المنصوصة في القانون
الأساسي. وقد أرسلوا طائفة من طلبة الترك إلى أوربة لأجل درس قوانين
الاستعمار.
بهذا علم نبهاء العرب أن أمتهم ولغتهم عرضة للزوال من المملكة العثمانية -
ولا يجهل أحد أن الدين الإسلامي يقوى بقوة لغته العربية ويضعف بضعفها ولا
نقول أكثر من ذلك - فتوجهت قلوب كثير منهم لتدارك الخطب وألفوا بعض
الجمعيات لذلك ورأى الذين يتحرون هدي الإسلام في أعمالهم أن ما كان مانعًا من
إحياء الجنسية العربية قد زال وخلفه المقتضي لإحيائها، فقد كان المانع من ذلك
اتقاء الشقاق بين العرب والترك وإفضاء ذلك إلى زوال الدولة واستيلاء الأجانب
على بلادها، وقد وقع ذلك من قِبَل الاتحاديين أي من قبل الدولة نفسها؛ لأنها في
قبضتهم فلا معنى لاتقائه وقد حصل، وخلفه المقتضي لإحياء هذه الجنسية، وهو
وجوب المحافظة على اللغة العربية والأمة العربية شرعًا. ولكن هذا قد يحصل بما
دون استقلال العرب بأنفسهم دون الترك، وإن كان حصولاً ضعيفًا، فلم يكن باعثًا
على السعي إلى تأليف دولة عربية بل إلى طلب إصلاح اضطرب في تحديده
أفرادُهم وجماعاتهم وكان حزب اللامركزية أقصدها وأشدها اعتدالاً.
وما كان يخفى على أحد من هؤلاء أن مطالبهم معلقة بين الرجاء واليأس،
وأن الحياة إنما هي حياة الاستقلال، لا تحيا اللغة ولا ترتقي الأمم بدونها، ولكن
دونها خَرْط القتاد؛ إذ لا تحصل إلا بثورة يصطدم بها الترك والعرب اصطدامًا
يُخشى أن يُضعف الفريقين، وينتهي بزوال الدولة واقتسام أوربة لبلادهما. ومن ذا
الذي يُقدم على حمل هذه التبعة الثقيلة التي تئطُّ من حملها الجبال الرواسي؟
أيجهل أحد من طلاب الإصلاح العرب أن هدم آخر سلطنة إسلامية - مهما يكن
سببه الحامل عليه - لا يعقب الساعي إليه والقائم به إلا لعْن مئات الملايين من
المسلمين إلى يوم الدين؟
لهذا أجمع طلاب الإصلاح من العرب الذين يعتد برأيهم، ويرجى تأثير
عملهم - على أن لا يكونوا سببًا لسقوط الدولة وزوالها. ولا يسعوا إلى ضررها
ولا إلى إضعافها، وعلى أن يجعلوا همّهم في إصلاح أنفسهم وعمارة بلادهم، مع
النصح للدولة والإخلاص لها، وطلب حقوقهم التي أثبتها لهم القانون الأساسي فيها،
ليرتقوا ويعتزوا بأنفسهم، فلا يسقطوا مع الدولة إن سقطت وتعتز الدولة وترتقي
بارتقائهم إن بقيت، وأن يكون جلّ سعيهم إلى ذلك في مجلس الأمة بواسطة
مبعوثهم.
ثم طرأ على بعضهم اليأس من بقاء الدولة وقوي ذلك وكثر التفكر في عواقبه
عندما غلب البلقانيون الدولة في الحرب، وكادت دولة البلغار التي تم لها استقلالها
في عهد الدستور تستولي على الآستانة، وتحدثت جرائد أوربة بحقوق بعض الدول
الكبرى في بلاد الدولة وخص بالذكر بعض الولايات العربية، وطفق المفكرون
يناجي بعضهم بعضًا: ما حيلتنا إذا أقدمت دولة قوية على الاستيلاء على بلادنا،
كما استولت إيطالية على طرابلس وبرقة وليس فيها شيء من أسباب الدفاع ولا
يمكن الدولة ولا مصر أن تساعدها على مقاومة كما ساعدتهما.
صدعهم هذا اليأس بعد أن قوي رجاؤهم في الدولة بانتصار حزب الحرية
والائتلاف على حزب الاتحاد والترقي وانتزاعه السلطةَ التنفيذيةَ من يده، ثم قوي
ذلك اليأس واشتد بثورة الاتحاديين على وزارة كامل باشا وقتلهم لناظر الحربية في
الباب العالي وتأليف وزارة جديدة منهم بقوة الثورة، ولولا أن زعماء العرب كانوا
مجمعين على المحافظة على الدولة مهما تكن حالها - لبادروا عند ذلك اليأس الشديد
إلى إضرام تار الثورة على الدولة والجهر بالاستقلال دونها، لعلمهم بأنه لم يبق
عندها في ذلك الوقت سلاح ولا ذخيرة تدافع بهما عن عاصمتها، فكيف تقدر على
تجريد عسكر يخمد نيران الثورة في البلاد البعيدة عنها؟ ! ، ولكنهم لم يفعلوا، ولم
يكن الإسلام هو المانع لهم من التصدي لتأسيس دولة عربية وهم يائسون من بقاء
الدولة التركية ومن إقامتها للإسلام إن بقيت والاتحاديون غالبون على أمرها، فإن
إفتاء مذاهبهم بوجوب طاعة المتغلب خوف الفتنة التي ترجح مفسدتها على
المصلحة لم يعد ينطبق على حالتهم مع الدولة، ولكن المانع الحقيقي هو الخوف من
أوربة أن تغتنم الفرصة وتستولي على البلاد.
فتبين بهذا أن ما كان يصد زعماء العرب من المسلمين عن التصدي لتأسيس
دولة عربية أمران: الإسلام والخوف من أوربة، وكان الرجحان في بعض
الأحوال للأول وفي بعضها للثاني، ولكنهما كانا في عامة الأحوال والأوقات مانعًا
واحدًا أو سببًا واحدًا مركبًا من أمرين كل منهما يقوي الآخر.
وبعد حرب البلقان أقدمت الحكومة الاتحادية على عقد الاتفاق بينها وبين
الدول الكبرى على الاعتراف لهن بالنفوذ الاقتصادي في أعظم الولايات العربية
ليقرضنها عشرات الملايين من الجنيهات، وصرح بعض كبار السياسيين في جرائد
أوربة بأن مناطق النفوذ الاقتصادي تتحول إلى مناطق نفوذ سياسي عند سنوح أول
فرصة لذلك، فثبت عند زعماء العرب أن الاتحاديين شرعوا في تنفيذ ما هددوهم
به من بيع بلادهم وترقية الترك بثمنها، كما فعلوا ببيع طرابلس الغرب وبرقة،
فاشتدت عزيمتهم على طلب الإصلاح وعقدوا المؤتمر العربي في باريس لذلك؛
فذعرت الحكومة الاتحادية، ولجأت إلى الحيلة والخداع لضعفها في ذلك الوقت،
وكان من أمر نتيجة المؤتمر ما هو معلوم من اعتراف جمعية الاتحاد ثم حكومتها
ببعض حقوق العرب في الدولة ووعدها بإعطائهم تلك الحقوق بالتدريج وخداعها
للسيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر وتصديقه إياها بما وعدت به.
* * *
(الحرب الأوربية واستقلال الحجاز)
ثم ظهرت بوادر الحرب الأوروبية وعزم الدولة على الدخول فيها
فبادرت إلى كتابة مقالة نصحت فيها لإخواني العرب بالكف عن طلب
الإصلاح في حال الحرب، وتأييد دولتهم بالإجماع، فكان لها تأثير عظيم.
ولكن الاتحاديين لما دخلوا في الحرب، وجعلوا الأحكام في المملكة
عسكرية عرفية - جعلوا ذلك وسيلة للتنكيل بالعرب والأرمن حسب خطتهم
المقررة منذ سنين، فصلبوا في سورية جميع مَن عرفوا من المطالبين
بالإصلاح من نابغي العرب، ونفوا من البلاد أرباب البيوتات والثروة الكبيرة،
وصادروا أموال الناس، وغلات أرضهم، وفعلوا مثل ذلك في العراق، ثم
تحرشوا بالحجاز، فبادر الشريف أمير مكة المكرمة إلى إعلان استقلال
الحجاز بعد النصح لجمال باشا الحاكم العسكري الاتحادي المطلق في سورية
ولحكومة الآستانة - بالكف عن الفظائع في سورية والعراق، فلم يقبل نصحه،
وانتهى أمر الشريف باعتراف دول الحلفاء باستقلاله التام، وبما بايعه به
أهل البلاد من جعْله ملكًا عليهم.
وقد نشر الشريف قبل المبايعة منشورًا بيَّن فيه سبب قيامه مع
الحجازيين بما قاموا به، ففهمنا منه أنه كان موافقًا لما أجمع عليه مَن دونه
من زعماء العرب من الرغبة في المحافظة على بقاء الدولة، واتقاء أن يكون
زوالها أو ضعفها من قِبَل العرب، فإن استقلال الحجاز - الذي أنتجته
الضرورات - لا يمكن أن يكون سببًا لزوال الدولة، وهي داخلة في أحد
الحلفين اللذين انقسمت إليهما دولة أوربة الكبرى؛ فإن النصر لأحد الحلفين على
الآخر إنما يكون بانتصاره عليه في أوربة، واستقلال الحجاز لا يقدم في ذلك،
ولا يؤخر، ولكنه أفاد العرب فوائد عظيمة، فصدق عليه قولنا: إما أن ينفع
نفعًا كبيرًا أو صغيرًا، وإما أن لا يضر.
وقد ثبت عندنا أن استقلال الحجاز كان سببًا لكف الاتحاديين عن
محاولة إبادة العرب من سورية والعراق الآن، وتخفيف ما كانوا شرعوا فيه
من المذابح والفظائع، وكان هذا من أجلّ منافعه التي تربي على ما ترتب عليه من
سفك الدم الذي اجتهدت الحكومة العربية الحجازية في اجتنابه بقدر الطاقة.
* * *
(عاقبة العرب استقلال الشعوب)
ثم طرأ بعد استقلال الحجاز أن أعلن دول الأحلاف أنهن قد اتفقن على
حرية الشعوب واستقلالها في أمر حكومتها، وذكروا العرب والأرمن منها،
وهذه قاعدة عادلة عظيمة الشأن إذا نُفذت على وجهها الصحيح، وكانت الدول
كلها متضامنة في حفظها بما يتعاهدن عليه في مؤتمر الصلح، وأوَّلها بعضهم
بمعنى أن لا يحكم شعب إلا بالطريقة التي يختارها لنفسه، ولكن الوقوف على
آراء الشعوب المغلوبة على حريتها متعذر في هذه الأوقات التي تخضع فيها
للأحكام العسكرية، وقد علمنا ممن فر من سورية والعراق إلى مصر والحجاز
ومن أسرهم بمصر أن العداء بين العرب والترك قد عمَّ وتمكن، فلا مطمع في
زواله. ولم يبق في العرب مَن لا يرغب في الاستقلال دون الترك، ومن
البديهي أنه لا يوجد شعب في الدنيا يختار على الحرية والاستقلال شيئًا إذا
تيسر له، ولكن يوجد في كل أمة أفراد من عبيد المال، ومن الجاهلين الذين
يُخدعون بزُخرُف الأقوال، فيمكن أن يُستخدم من هؤلاء وأولئك بالترغيب
والترهيب طائفة تقول ما تؤمر أن تقوله، ولا يمكن أن يكون اختيار هؤلاء
للعبودية بتسميتها بغير اسمها حجة على الشعب، ولكن القوة تحتج على
الضعف بما تشاء، وإنما يُعرف رأي الشعوب في بلاد الحضارة من قِبَل
أحزابها السياسية، وليس للشعب العربي العثماني حزب سياسي عام إلا
(حزب اللامركزية) ، ويمكنه أن يبين رأي الشعب إن استطاع زعماؤه
أن يعربوا عن آرائهم، وله جمعيات موضعية خاصة كجمعية الاتحاد
اللبناني بمصر وأمريكة والنهضة اللبنانية في أمريكة، فهي تمثل آراء
جمهور اللبنانيين. والدول إذا أخلصت في تنفيذ هذه القاعدة تقررها،
وعندما يجتمع زعماء كل أمة تنال استقلالاً جديدًا لتأسيس حكومتها العليا
يعرف رأيهم في شكلها، ولا يعرف معرفة صحيحة بغير ذلك. فإذا انتهت
الحرب بذلك كانت عاقبتها على البشر خير العواقب. والله الموفق.
((يتبع بمقال تالٍ))