للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نوادر البخلاء

ذكَّرتنا مقالة السخاء والبخل بأن نورد بعض نوادر البخلاء على سبيل الفكاهة
والعبرة فنقول:
كان بالبصرة رجل موسر، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض [١] ،
فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل
يتلوَّى، فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب، فقال: لا بأس عليك تقيأ ما أكلت.
فقال: هَاهْ، أتقيأ طباهجة ببيض؟ الموت ولا ذلك.
وأقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس
الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم. فقرأ (والزيتون
وطور سنين) فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك.
ودعا بعضهم أخًا له ولم يُطْعِمَه شيئًا، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه،
وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود، وقال: بحياتي أي صوت تشتهي أن
أسمعك؟ قال: صوت المِقْلَى [٢] .
ويُحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل
نسيب له كان يعرفه عنه وقال له قائل: صف مائدته. فقال: هي فِتْر في فتر،
وصحافه منقورة من حب الخشخاش. قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون.
قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب. فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به
وثوبك مخرق. قال: أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها، ولو ملك محمد بيتًا من
بغداد إلى النوبة مملوءًا إبرًا، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه
السلام يطلبون منه إبرة، ويسألونه إعارتهم إياها ليخيطوا بها قميص يوسف الذي
قُدَّ من دبر ما فعل.
ويقال: كان مروان بن أبي حفصة [٣] لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه [٤] ،
فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا
الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم الرأس أعرف سعره فآمن
خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل
منه إن مس عينًا أو أذنًا أو خدًّا وقفت على ذلك، وآكل منه ألوانًا؛ عينه لونًا، وأذنه
لونًا ولسانه لونًا، وغلصمته [٥] لونًا، ودماغه لونًا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد
اجتمعت لي فيه مرافق.
وخرج يومًا يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن
رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أُعطيت مائة ألف أعطيتك درهمًا، فأُعطي ستين ألفًا،
فأعطاها أربعة دوانق.
واشترى مرة لحمًا بدرهم، فدعاه صديق له فرَدَّ اللحم إلى القصَّاب بنقصان
دانق، وقال: أكره الإسراف.
وكان للأعمش جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت
فأكلت كسرة وملحًا [٦] ، فيأبى عليه الأعمش، فعرض عليه ذات يوم، فوافق جوع
الأعمش، فقال: سر بنا. فدخل منزله، فقرب إليه كسرة وملحًا، فجاء سائل فقال
له رب المنزل: بورك فيك. فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك. فلما سأل
الثالثة قال له: اذهب وإلا والله خرجت إليك بالعصا، قال: فناداه الأعمش، فقال:
اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدًا أصدق مواعيد منه، هو منذ مدة يدعوني على
كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما.