قد بينا في مجلدات المنار ٢١-٢٣ أطوار المسألة المصرية منذ تألف الوفد المصري برياسة سعد للمطالبة باستقلال البلاد , وكيف اجتمعت كلمة الأمة مع رجال الحكومة على تأييده سلبًا وإيجابًا [١] , حتى أثبتوا للحكومة البريطانية وهي خارجة من الحرب العظمى على رأس الدول الفائزة , أنه يتعذر عليها إدارة الأمور في مصر بأيدي المصريين الساخطين عليها كما يتعذر عليها إدارتها بيدها هي بالأولى. وكيف بعد أن أرسلت لورد ملنر على رأس لجنة؛ ليقف على آرائهم، وقاطعوه تلك المقاطعة الإجماعية , التي تجلت بها الوحدة في أكمل مظاهرها لجأت إلى السعي لتفريق كلمتهم؛ إذ لا سبيل إلى الفوز ودوام السيطرة عليهم بدون ذلك [٢] , وكيف وقع الشقاق في الوفد نفسه فكان بعض أعضائه مع عدلي باشا في طرف، والباقون مع سعد باشا في طرف آخر. وكيف دبر في (لندن) نصب وزارة عدلي باشا وتأييد الوفد المصري لها؛ ليسمح لرئيسه وسائر أعضائه بالعودة إلى مصر, فكان نصبها وإظهار الوفد الثقة بها على دَخَلٍ خادع به كل من الفريقين الآخر , حتى ما عاد سعد باشا للاتصال بالأمة وتمكن عدلي باشا من تأليف وزارة رضيت عنها الأمة - عاد الشقاق إلى أشد مظاهره [٣] . ولكنه تولى مفاوضة الحكومة البريطانية باسم الحكومة المصرية؛ للاتفاق معها على حل القضية ففشل - لعلم الحكومة البريطانية بأن الأمة لا تؤيده , وأنها لا تستطيع عملاً بعد أن صارت إلى شر مما كانت عليه قبل الاتحاد؛ إذ لم يكن زعماؤها متعادين ولا متحدين على عمل من الأعمال , فأفضى ذلك إلى استقالة عدلي باشا وتعذر تأليف وزارة أخرى من حزب العدليين؛ لسخطهم الشديد من الحل الفظيع الذي عرضه اللورد كرزون على عدلي باشا [٤] فصاروا كالسعديين في الإحجام عن تأليف وزارة، تتولى العمل في ظل الحماية البريطانية. ثم كيف اضطرت الحكومة البريطانية بهذا إلى نفي سعد باشا مع بعض أعضاء الوفد إلى جزيرة سيشل الصغيرة المنقطعة عن العالم في البحر المحيط الهندي وإلغائها للحماية , واعترافها بكون مصر دولة ذات سيادة مع الاحتفاظ بالمسائل الأربع المعلومة , وكان ذلك إثر مذاكرة بين دار المندوب البريطاني السامي وعبد الخالق ثروت باشا رضي بها هذا أن يتقلد الوزارة , ويتولى وضع دستور للبلاد يتألف بموجبه برلمان يفوض إليه تقرير أمر الاتفاق مع الدولة البريطانية في الأمور المحتفظ بها , ولكن جمهور الأمة قابل ذلك بفتور ونفور , ولم يحفل بهذا الاستقلال المقيد بالأربعة القيود الذي مهد له السبيل بنفي زعيم الشعب مع بعض رجاله , وهو حامل لوائه وزمر استقلاله , واشتد ضغط الاحتلال بعد نواله [٥] . ظن الإنكليز أنهم يرضون السواد الأعظم من المصريين , وينالون مرادهم من مصر والسودان بالاتفاق مع حكومة مصرية نيابية زمامها بأيدي أصدقائهم الذين يصفونهم بالمعتدلين , من حيث يقضون على الحياة القومية المصرية بإبعاد الزعيم الأكبر وبعض رجاله , والتنكيل بمن يتصدى للمعارضة من الباقين منهم بمساعدة الحكومة الوطنية , ولكن بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون. اشتد استياء الشعب وتهيجه وتألفت للوفد لجنة أخرى , وصرحت بالمعارضة ودعت البلاد إلى مقاطعة الإنكليز في كل معاملة تجارية أو شخصية , فحكموا عليها أحكامًا شديدة , حكموا بعد الاعتقال بالإعدام , ثم استبدلوا به حكم السجن وتغريم الأموال , وهو أن يدفع كل فرد من أفرادها خمسة آلاف جنيه للسلطة العسكرية. ثم تألفت لجنة ثالثة فحكموا على بعض أفرادها بالنفي إلى بعض الواحات المصرية , وساموهم فيها سوء العذاب، فتألفت لجنة رابعة. وظهر في أثناء ذلك الاعتداء على أشخاص الإنكليز من الموظفين والجند وغيرهم , فكان يغتال الواحد منهم بعد الآخر في الشوارع العامة في وقت الظهيرة أو طرفي النهار أو ناشئة الليل , وقد أرهق أهل القاهرة بتفتيش الحكومة المصرية لبيوتهم؛ للبحث عن آثار يستدل بها على الجناية , فكان رجال الشرطة يدمرون على أهل البيوت في الليل أو النهار , وإن لم يكن فيها أحد من الرجال فيفتحون الخزائن والصناديق , ويقلبون الأثاث والرياش , ويأخذون كل ما يجدون من القراطيس المكتوبة , وقد يقلعون بلاط الحجرات؛ رجاء أن يجدوا تحته سلاحًا، وكانوا مع بعض الجند الإنكليزي , يستوقفون الناس في الطرقات رجالاً أو ركبانًا في أنواع المركبات , ويفتشون ثيابهم وجيوبهم , ولم يكن هذا ولا ذلك قاصرًا على من كان موضع الظنة ومثار الشبهة , بل كان كل أحد عرضة لهذه الإهانة , وليس من موضوعنا ذكر ما كان يلابس ذلك من الفساد , ولم يكن هذا الإرهاق كله ولا اعتقال من اعتقل بالتهم بمانع من تكرار الاغتيال , وإنما كانت تقع فترات عند العناية ببث العيون والرقباء وكثرة الحرس السيار , وقد حوكم كثير من المتهمين بالشبهات في المحكمة العسكرية فلم يثبت شيء من تلك الجنايات على أحد , ولا كون شيء منها بإغراء الوفد المصري أو جمعية سياسية أخرى , كما زعم بعض الرعاع الذين تصدوا لشهادة الزور؛ رجاء نيل المكافآت التي كانت تعد بها الحكومة , وتنشر وعودها في الجرائد وعلى الجدران وهي ألوف من الجنيهات. سارت وزارة عبد الخالق ثروت باشا لطيتها في هذه المآزق القاتمة بجرأة نادرة , كان فيها مهددًا بالاغتيال , وقد اعتدي عليه بالفعل فنجا فتألفت لجنة من ثلاثين رجلاً من أنصارها , فوضعوا مشروع دستور للمملكة المصرية , وطفقت تمهد السبيل لانتخاب غير السعديين بكل حزم وعزم. وفي تلك الأثناء ألف حزب الأحرار المعتدلين , وانتخب عدلي باشا رئيسًا له فاكتتب كثير من أغنياء البلاد؛ للاشتراك بالحزب وجريدته (السياسة) , فاجتمع له بنفوذ الحكومة عشرات الألوف من الجنيهات , وصدرت الجريدة بشكل راق كل عدد منها (٨ ص) خص بعضها بالآداب , وبعضها بالأمور النسائية , وبعضها بالزراعة أو التجارة. ولكن جمهور الشعب عاداها حتى كان يعد شراؤها وقراءتها من الذنوب المنافية للوطنية , وكان الغرض من تأليف هذا الحزب السعي لجعل أكثر أعضاء النواب والشيوخ من رجاله , وقد اغتيل رجلان من خيرة رجاله. وكان الشعب لا يزال نافرًا من القصر السلطاني فالملكي منذ أعلنت الحماية وسمي أمير البلاد سلطانًا , ثم سمي بالتصريح البريطاني الذي ألغيت فيه الحماية ملكًا , وأشيع أن سعد باشا غير مخلص للملك , وما زال العدليون يرجفون بهذا إلى عهد قريب , ولكن هذه الغمة تقشعت بسعي محمد نسيم باشا ومن واتاه من رجال الوفد المصري , وتلا ذلك نفور الملك من وزارة عبد الخالق ثروت باشا , فوقعت عدة أزمات وزارية انتهت باستقالة هذه الوزارة , وخلفتها وزارة محمد نسيم باشا فأثار ذلك سخط السياسة الإنكليزية فكادت لها دار المندوب السامي , حتى اضطرتها إلى الاستقالة باقتراح حذف اسم السودان من الدستور المصري , وكان قد نص فيه أن ملك مصر هو ملك السودان , وأن حكومة مصر هي التي تتولى إدارته , وأيدت الاقتراح بتهديد عظيم ملجئ، قوي به اعتقاد الجمهور أن الاستقلال الذي اعترف به الإنكليز على غير مسمى صحيح , وأن الاستقلال الصحيح لا يمكن تحققه إلا على يد رئيس الأمة العبقري الأحوذي الشِّمِّري [٦] سعد زغلول باشا , فكيف يعقل جعل إبعاده عن البلاد تمهيدًا له؟ ! وخلفت وزارة محمد نسيم باشا وزارة يحيى باشا إبراهيم فكان استسلامها للإنكليز , وصدعها بالأوامر السرية التي تصدر عن دار المندوب السامي شرًّا من كل استسلام سبق من الحكومات المصرية , للسيطرة الإنكليزية في عهد الحماية، وأشد ما كان قبلها من وطأة الاحتلال , حتى كادت تقضي على المالية المصرية , وتجعل النهوض بأعباء الاستقلال متى تم متعذرًا , وكان شر أعمالها قانون التضمينات , الذي أجاز للسلطة الإنكليزية كل ما فعلته في زمن الحرب من تقتيل وتغريم , وتغريب وتخريب , وتصرف فيما تملك الحكومة والأمة والأجانب في بلاد مصر بحيث لا تجوز مطالبتها , ولا مقاضاتها في شيء منها وكان هذا موقوفًا على المفاوضات المؤجلة , وكذا قانون المكافآت التي تعطى لمن يترك خدمة الحكومة المصرية من الإنكليز , فكانت تعطي الألوف الكثيرة من الجنيهات لمن يستقيلون من وظائفهم , حتى التي تنوطها الوزارة بآخرين منهم , أو تنوط بهم غيرها فمال الحكومة يذهب سدى , ثم قيدت الوزارة هذه العطايا بقانون؛ ليكون حقًّا ثابتًا لا ينقض , وقد وفت الجرائد الوطنية ذلك حقه من النقد. *** نتيجة الأطوار السابقة علمت الحكومة البريطانية في عهد وزارة ثروت باشا أن ما عدته منتهى الجود على مصر من إلغاء الحماية والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة , وما رأته من منتهى الشدة والحزم في إدارة أمر البلاد من قبل وزارة موالية لها , ومن شدة قسوة السلطة العسكرية البريطانية في التنقيب عن المعتدين على رجالها - لم يرض الرأي العام المصري بل لم يزده إلا تماديًا في عداوتها , وجرأة على اغتيال رجالها، وأن نفوذ الوفد المصري الممثل في شخص رئيسه الزعيم الأوحد لا يعلوه نفوذ فعادت إلى وضع سياسة الحكمة في موضع تحكم السلطة العسكرية , والغشمرة الاستعمارية, فطفقت تفرج عن المعتقلين من أعضاء الوفد , وأمرت بنقل الزعيم من معقل جبل طارق حيث شاء من أوربة، وكانت قد جاءت به من جزيرة سيشل إليه؛ مراعاة لصحته؛ إذ خشيت أن يموت فيعتقد المصريون أنها قتلته أو عرضته للموت عمدًا. وكان قد سعى له بذلك بعض رجال الإنكليز وفي مقدمتهم صديقه رئيس حزب العمال البريطاني , الذي هو رئيس الوزارة الإنكليزية اليوم. نقل من جبل طارق إلى فرنسة فزاره فيها هذا الرئيس مرتين , ثم لما دنا موعد انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري سمح له بالعودة إلى مصر حتى لا يقال: إن الانتخاب لم يكن حرًّا , وأن المجلس النيابي الذي يقرر الاتفاق مع الدولة البريطانية لا يمثل الأمة المصرية. عاد الزعيم إلى وطنه والكثير من الناس يظنون أن حزب الأحرار المعتدلين قد انتظم أمره واشتد أزره , وأن الحزب الوطني قد نشط من الخمول الذي كان قد عرض له , وشرع بعد إلغاء الأحكام العرفية يجدد نفوذه , وأن الوفد المصري قد صار حزبًا مثلهما , ولم يبق رئيسه زعيمًا للأمة بأسرها , وأن زعامته الحقيقية لا تعدو طلاب المدارس وجمهور المحامين , وأما كبار الأغنياء والمتحلين بالرتب الفخمة والألقاب الضخمة وأكثر رجال الحكومة، فهم عليه لا له ولا معه , وأن أكثر الفلاحين معلقة إرادتهم بإرادة العمد , الذين هم آلة في أيدي مأموري المراكز الذين يسيرهم المديرون كما تشاء وزارة الداخلية , وأن لعدلي باشا وقد صار مديرا للبنك العقاري نفوذًا كنفوذ الحكومة في نفس فريق كبير من الأغنياء , وهم الذين رهنوا أطيانهم لهذا البنك فهم يرجون رضاه ويهابون شذاه. وكان جمهور رجال الإنكليز في مصر يرون هذا الرأي , ويعتقدون هذا الاعتقاد , فما سمح الإنكليز لسعد بالعودة إلى مصر إلا وهم يحسبون أن عودته تزيد التفرق والشقاق احتدامًا , ولا يكون هو الجواد السابق الذي يربح السبقة. وكان جمهور المصريين المستقلين في الرأي غير المتحيزين إلى فئة ولا شخص يخشون من عاقبة الشقاق في هذا العهد , فوق ما كان من سوء عاقبته من قبل، يرون أن الخطة المثلى أن يبدأ الزعيم الأكبر بدعوة خصومه إلى الاتفاق والاتحاد؛ ليكون (البرلمان المصري قوة متحدة أمام الدولة البريطانية القوية في كل شيء , وهو لا يملك غير قوة الوحدة , فلما لم يفعل نقموا منه، وانطلقت ألسنة بعضهم تعذله وتخطئه , وتشاءموا من سوء المصير، ولكن الشؤم والسعد ضدان لا يجتمعان) . وأما رأي سعد باشا ورجال الوفد فهو أن جمهور الأمة الأعظم معهم , فإذا هم أعلنوا له أنهم متفقون مع زعماء هذه الأحزاب بعد أن كانوا هم الذين أحدثوا الشقاق في الوفد , وصدعوا بناء وحدة الأمة , وأن انتخابهم أعضاء لمجلس النواب كانتخاب رجال الوفد ومن يرشحه سواء , فإنهم ينالون بنفوذ الوفد ورئيس الأمة كثيرًا من الأعضاء , ويحسبون أو يدعون بعد ذلك أنهم إنما نالوا ذلك بنفوذهم والثقة بأحزابهم , ويوقعون الشقاق في مجلس الأمة كما أوقعوه في وفدها من قبل وتكون هي القاضية على الأمة؛ لأن هذا المجلس هو الممثل الرسمي لها الذي لا يمكن أن يكابر فيه الإنكليز كما كابروا في تمثيل الوفد؛ إذ ادعوا أنه حزب لا قوة له إلا تلاميذ المدارس الأغرر. وقد أجمع الناس على أن الشقاق الذي حصل في الوفد وفرق الكلمة كان أضر ما منيت به الأمة , ولكن وجد شيء من الخلاف فيمن تلقى عليهم التبعة , فينبغي أن يجمعوا أيضًا على أن تلافي ذلك الشقاق وما ترتب عليه من إرهاق البلاد بالتنكيل والتغريب , والتعذيب وسفك الدماء , ومصادرة الأموال لا علاج له إلا تأليف مجلس النواب من المتفقين في المشرب السياسي، وعلى الزعيم السياسي، وهو لا يرجى ممن وصل بينهم الخلاف والشقاق إلى الحد المعروف بين الوفديين , وبين المعتدلين ومن شايعهم من جماعة الحزب الوطني. وإذا كان الأمر كذلك فالمعقول أن يجتهد كل فريق أن ينال في الانتخاب الأكثرية العظمى , التي تمكنه من حل القضية المصرية بما يرى أنه هو الذي تطلبه الأمة التي تمنحه ثقتها. وقد جرى الانتخاب على هذه القاعدة , فتبارى كل فريق في السعي لانتخاب رجاله الذين ورشحهم في الطعن في خصمه بالنشر في الجرائد وبإلقاء الخطب في المحافل , وكانت حرية كل منهم تامة لم تعارضها الحكومة ولا الأمة , ولكن جميع أهل الفضل ولاسيما المستقلين في الرأي كانوا متألمين من القذع بهجر القول والتمادي في المطاعن الشخصية , وقد قال سعد باشا كلمة في خطبة له أراد أن تكون فصل الخطاب وهي: (لهم السباب ولنا مقاعد النواب) تم الانتخاب في القطر كله وأعلنت الحكومة نتيجته فكانت الأكثرية الساحقة في جانب الوفد المصري , وظهر أن مجلس النواب سعدي وأي سعدي , فإن بعض الأعضاء الذين لم يرشحهم الوفد - وقليل ما هم- كانوا يذهبون إلى سعد باشا مهنئين له بفوزه معترفين برياسته وزعامته , ثم اتفق جمهورهم على إقامة حفلة له جمعوا نفقتها بالاكتتاب من أنفسهم فحضرها ٢٠٠ وتخلف عنها ١٠ اعتذر بعضهم , وقد ألقى عليهم خطبة تاريخية أودعها مجمل برنامجه السياسي لمجلسهم , فصفقوا لها وأجمعوا عليها وعدوها كبرنامج سياسي شبه رسمي لمجلس الأمة , وقد صرح فيها بأن لم يبق لوزارة يحيى باشا إبراهيم مندوحة عن الاستقالة , فلم تلبث هي أن استقالت , وتلاها طلب الملك لسعد باشا ومذاكرته مشافهة في تأليف الوزارة بعد بحث طويل سبق للوفد في المسألة , وتقريره قبول الرئيس للوزارة، فقبل. وهذا نص الوثائق الرسمية للوزارة السعدية: *** وزارة سعد باشا زغلول أمر ملكي رقم ١٤ لسنة ١٩٢٤ عزيزي سعد زغلول باشا لما كانت آمالنا ورغائبنا متجهة دائمًا نحو سعادة شعبنا العزيز ورفاهته , وبما أن بلادنا تستقبل الآن عهدًا جديدًا , من أسمى أمانينا أن تبلغ فيه ما ترجوه لها من رفعة الشأن وسمو المكانة , ولما أنتم عليه من الصدق والولاء , وما تحققناه فيكم من عظيم الخبرة والحكمة وسداد الرأي في تصريف الأمور , وبما لنا فيكم من الثقة التامة , قد اقتضت إرادتنا توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرياسة الجليلة لعهدتكم. أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف الوزارة , وعرض مشروع هذا التأليف علينا لصدور مرسومنا العالي به. ونسأل الله جلت قدرته أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا بالخير والسعادة، إنه سميع مجيب. صدر بسراي عابدين في ٢٢ جمادى الثانية سنة ١٣٤٢ - في ٢٨ يناير سنة ١٩٢٤. *** بيان الوزارة وأسماء الوزراء هذا هو البيان الذي قدَّمه سعد باشا زغلول لجلالة الملك مولاي صاحب الجلالة: إن الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب علي والبلاد داخلة في نظام نيابي , يقضي باحترام إرادتها وارتكاز حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسؤولية الحكم , التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى , وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير أن يعتبر قولي لتحمل أعبائها اعترافًا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري , الذي لا أزال متشرفًا برياسته. إن الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة على تمسكها بمبادئ الوفد , التي ترمي إلى ضرورة تمتع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال الحقيقي لمصر والسودان مع احترام المصالح الأجنبية , التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال , كما ظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًّا، ونفورها من كثير من التعدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية ونقصت من حقوق البلاد , وحدت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية , ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم , وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران , فكان حقًّا على الوزارة التي هي وليدة تلك الانتخابات وعهدًا مسئولاً منها أن توجه عنايتها إلى هذه المسائل الأهم فالمهم منها , وتحصر أكبر همها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها , وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها , وتعيين المسؤولين فيها , وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان , ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم؛ لانعقاده في القريب العاجل , وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات؛ لتمكينه بمهمته خطيرة الشأن. ولقد لبثت الأمة زمانًا طويلاً تنظر إلى الحكومة نظرة الطير للصائد , لا الجيش للقائد , وترى فيها خصمًا قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلاً أمينًا يسعى لخيرها، وتولد عن هذا الشعور سوء تفاهم أثر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد , وأعاق كثيرًا من تقدمها , فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة [٧] ، وبإقناع الكافة بأنها ليست إلا قسمًا من الأمة، تخصص لقيادتها والدفاع عنها , وتدبير شؤونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام , ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها؛ لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم , كما يلزمها أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح , وتعود الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه , وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة , وعدم السماح لأيِّ كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه. هذا هو بروجرام وزارتي وضعته طبقًا لما أراه وتريده الأمة , شاعرًا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات , خصوصًا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي , ودخول البلاد تحت نظام حرمت منه زمنًا طويلاً , ولكني أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم , وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهل البلاد ونزلائها , فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي: سعد زغلول باشا ... ... ... ... للرئاسة ووزارة الداخلية محمد سعيد باشا ... ... ... لوزارة المعارف محمد توفيق نسيم باشا ... ... ... لوزارة المالية أحمد مظلوم باشا ... ... ... ... لوزارة الأوقاف حسن حسيب باشا ... ... ... ... لوزارة الحربية والبحرية فتح الله بركات باشا ... ... ... لوزارة الزراعة مرقص بك حنا ... ... ... ... لوزارة الأشغال مصطفى النحاس باشا ... ... ... لوزارة المواصلات واصف بطرس غالي أفندي ... ... لوزارة الخارجية محمد نجيب الغرابلي أفندي ... ... لوزارة الحقانية وأدعو الله أن يطيل في أيامكم , ويمد في ظلالكم حتى تنال البلاد في عهدكم كل ما تتمناه من التقدم والارتقاء. وإني على الدوام شاكر نعمتكم , وخادم سيادتكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد زغلول وقد صدر أمر المرسوم الملكي باعتماد هذا البيان , والتشكيل الذي فيه للوزارة بتاريخه , وأصبح سعد زغلول باشا رئيس هذه الأمة ورئيس حكومتها، وكان فضل الله بهذا عظيمًا وما يجب عليه من الشكر عظيمًا , وإنما الشكر على هذا الفضل بتحري إقامة ميزان الحق والعدل , ومراعاة المصلحة العامة بدون محاباة أحد من جماعة أو فرد , وإن كان من أفراد الوفد، إلا أن يكون المرجح له على مساويه زيادة الثقة بإخلاصه ومباديه , وأرى أنه قد آن لسعد باشا أن يري العالم بأعماله أنه الأب الحكيم الرحيم لهذا الشعب , وأن من عقه من أبنائه لم يقطعه من شجرة نسبه , بل يكون أحرص على عودته إلى البر من حمله على التمادي في العقوق , وأن يترفع عن الانتقام لنفسه , ويتأسى ما استطاع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , حين ظفر بزعماء قومه ودخل عليهم عاصمتهم أم القرى فاتحًا بعد أن كانوا يسيرون الجيوش لقتاله في دار هجرته بإغراء أبي سفيان عدوه وعدو عشيرته , وقد قال يومئذ: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمِن) (رواه مسلم) . ويجب على كل مخلص لبلاده من خصوم سعد والوفد أن يؤيد ما استطاع هذه الحكومة ورئيسها , ولا يدع سبيلاً لإساءة ظنها فيه , ولا يشترط في ذلك عصمتها من الخطأ , ولا قدرتها على كل عمل , ولا يجعل ما يقترح عليها من إصلاح وسيلة للمعاجزة والإرهاق , وجملة ما أريده من الساخطين والمعارضين الذين يعتقدون أنهم مخلصون في معارضتهم , أن يجتهدوا في محاسبة أنفسهم وتمحيص نيتهم في كل معارضة وكل انتقاد , فإن السخط يري النفس الأشياء بغير لونها ويحليها لها في غير صورتها , وأما سيء النية ومتبع الهوى فالنصح له بهذا سدى وإنني أرى - وأنا مستقل الرأي بعيد عن الهوى والتحيز إلى أي حزب - أن الفرصة التي سنحت لمصر بهذه الوزارة ومكانتها من الأمة الممثلة في (برلمانها) ومن ملكها , وبصيرورة الوزارة البريطانية إلى حزب العمال , وما بين رئيس وزارتنا ورئيس وزارتها من التعارف والثقة- أرى أن هذه الفرصة أمثل الفرص وأقرب الوسائل الممكنة؛ لحل عقدة التنازع بين مصر وبريطانية، أو اليأس من وصول هذه البلاد إلى حقها بالأساليب السياسية , ولا بد حينئذ من إفضاء الفشل إلى ثورة عامة طامة , لا يعلم مبدأها ومنتهاها وعاقبتها إلا الله تعالى , فيا أيها الظافرون اتقوا الغرور بظفركم , وأيها المعارضون الساخطون صححوا نياتكم وحاسبوا أنفسكم , وافسحوا لهذه الحكومة في مجال العمل , يفسح الله لكم تأملوا قوله تعالى: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} (القيامة: ١٤-١٥) .