رأي يستحق النظر ضمنا في هذه الأيام سامر من سمار أهل الفضل ومحبي الإصلاح، فطفق القوم يتحدثون في شؤون المسلمين في مراكش والجزائر وتونس ومصر والدولة العلية وإيران والهند والأفغان وبلاد العرب، فكان من رأيهم أن المسلمين في كل قطر من أقطار الأرض متشابهون في أخلاقهم وأطوارهم وقابليتهم للإصلاح، وإن كل ما أصابهم من البلاء والشقاء فهو من أمرائهم وحكامهم؛ لأنهم يخضعون لرؤسائهم خضوعًا أعمى، وأنه متى صلحت حال حكومة إسلامية تصلح بذلك أحوال الأمة التي تحكمها لا محالة، وأن للبلاد العثمانية عامة ولبلاد مصر خاصة مزية لا تشاركها فيها بلاد إسلامية أخرى، وهي أن الإصلاح الحقيقي إذا وجد في أحدهما أو كليهما فإن أثره يتعدى إلى جميع الأمة الإسلامية، وبه يكون مجد الإسلام الحقيقي؛ وذلك لاتصالهما بالحرمين الشريفين وكونهما قلب البلاد الإسلامية، وتَفْضُل الحكومةُ العثمانية الحكومةَ المصرية بأن أكثر المسلمين في العالم يعتقدون أن رئيسها هو خليفة المسلمين وإمامهم الديني، وبأنها سيدة مصر وحاكمة الحرمين الشريفين وبأنها مستقلة استقلالاً يمكنها أن تفعل ما تشاء من الإصلاح بدون سيطرة الأجانب، ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي إذا التمس من حكومة؛ فإنه محصور في الدولة العلية؛ لأن حكومة مراكش في أقصى الأطراف، وحكومة الأفغان كذلك في طرف بعيد لا تأثير له إلا في موضعه، وحكومة إيران لا تلتئم مع سائر المسلمين لاختلاف المذهب، وبقية البلاد تحت سيطرة الأجانب. ثم أنشأوا يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وهو الإصلاح وإمكانه وكيف يكون، قالوا: إنه ممكن، واختلفوا في كونه مرجوًّا ومأمولاً أم لا، فقال بعضهم إن الشعب التركي لا يحسن الاستعمار؛ ولذلك بقيت الشعوب التي استولى عليها حافظة لغاتها وتقاليدها وعاداتها حتى كانت كلما آنست من الدولة المتغلبة عليها غرة خرجت عليها وحاولت نبذ سلطتها، وما زالت تناوشها وتثور عليها إلى أن تمكن أكثرها من الاستقلال بعد ضعفها، ولولا أن العنصر العربي أكثره يدين بالإسلام فيرتبط معها برابطة الدين لاستقل دونها كما استقل غيره، وكَبُرَ جهلاً منها أن بقيت متعصبة لجنسيتها التركية؛ فإن المسلمين لا رابطة لهم ولا جامعة واحدة إلا في دينهم، فلو أنها ساوت بين التركي والعربي كما ساوى بينهما الدين، وعملت لإحياء بلادهم وعمارتها وجعلت لسانها الرسمي لسان القرآن لاستولت على جميع المسلمين، وكان لها منهم قوة لا تغالب. كيف يرجى الإصلاح الإسلامي من الترك وأهل الحل والعقد منهم لا يرون لأنفسهم صلاحًا إلا بتقليد الإفرنج في كل شيء، والنشء الجديد المتعلم أوربي النزعة في كل شيء حتى في جعل الدين آلة من آلات السياسة، فإذا أتيح لهم أن يحفظوا استقلالهم وتكون لهم حكومة منتظمة وأمة مرتقبة؛ فإنما يكون ذلك بحصر سلطتهم في البلاد التركية المحضة بأن يجعلوها كأمة من أمم أوربا في جميع شؤونها وأطوارها، وإذا هم سلكوا هذا المسلك وارتقوا هذا الارتقاء الجنسي على الطريقة الأوربية، فلا يمكن أن يكون لهم نفوذ وسلطان في سائر العالم الإسلامي، وهذا سبب من أسباب التنازع المستمر بين مولانا السلطان عبد الحميد وبين النشء التركي الجديد والحق فيه معه، وإن كان لهم وجه من طرف آخر، وهو طلب تقييد السلطة بالشورى والشرع والقانون، وإن لي صديقًا من غير هذه البلاد كان ولا يزال يقول إن الترك لا ينقرضون، ولا بد أن تكون لهم دولة منتظمة في بلاد الأناضول. وقال آخر: إن دولة الترك بقوتها العسكرية، وموقعها الجغرافي، وسلطتها الدينية لها تأثير كبير في إنعاش قوى المسلمين، سواء أحسنت الاستعمار وحكمت الديار أم لا، فسقوطها - والعياذ بالله تعالى - يُوقع المسلمين في يأس وقنوط، ولا يمكن أن يجتمع شملهم بعد ذلك إلا بدعوة إسلامية مؤيدة من الله تعالى كدعوة المهدي الذي ينتظرونه، وأنى لهم بذلك. ثم بعد اتفاق الآراء على أن صلاح الدولة خير للمسلمين على كل حال، خاض القوم في كيفية الإصلاح، فذكر بعضهم رأيًا ربما ينكره الكثيرون بادي الرأي ويحسبون أنه من الخواطر الخيالية التي تسنح للأذهان في بعض الأحيان، فيبادر اللسان إلى ذكرها إعجابًا بغرابتها، والصواب أنه رأي تمخضت به الحلوم لا الأحلام، وولدته الأفكار الصحيحة لا الخيالات والأوهام، وإنني أعرف من دون أصحاب سامرنا الذين وافقوا قائله عليه رجلين من أعلم الناس بالعلم الاجتماعي جزما بصحته جزمًا، وقالا بوجوبه حتمًا. ذلك الرأي هو تغيير عاصمة السلطنة، واستحسن صاحب الرأي أن تكون العاصمة مدينة بورصة، وقال إن تغيير البيئة (الوسط) يُسَهِّل على الدولة سبيل الخروج من كثير العادات الضارة والتقاليد التي أرهقتها من أمرها عسرًا، وقد اعترض بعض السمار على هذا الرأي فأجابه غير واحد بما أقنعه. أما القسطنطينية العظمى فيجب حينئذ أن تكون معسكر الدولة الأكبر، وينبوع قوتها الأغزر، حفظًا لموقعها الحربي، وأمنًا عليها من اختلاف العناصر وكثرة الأجانب، وأما ما في قصور السلاطين من الذخائر وآنية الذهب والفضة ونحو ذلك فيجب أن يباع منه كل ما لا يُعَدُّ من الآثار التاريخية التي في حفظها فائدة، وتستعين الدولة بذلك على الإصلاح الإداري والحربي؛ فإن الشرف الحقيقي خير لها من الشرف الوهمي. استحسن إخواننا السامرون أن نعرض هذا الرأي في المنار على الباحثين في الإصلاح، فعرضناه لتصقله الأفكار وتستنبط فوائده القرائح حتى إذا ما عنت الفرصة المناسبة لإنقاذه توجهت إليه النفوس، وطالبت به الناس عن بينة وبصيرة ولسنا نعني أن هذه الانتقال هو عين الإصلاح؛ وإنما نريد أنه مقدمة من مقدماته ربما ترتقي إلى أن تكون شرطًا يلزم من عدمه عدم الإصلاح، ولا يلزم من وجوده وجوده؛ وإنما يسهل سهولة كبرى تكاد تكون سببًا، وإننا نعرض على الأفكار ثلاث فوائد إجمالية، ونكل التفصيل فيها إلى أفكار الباحثين: (الفائدة الأولى) : البعد عن تأثير الأجانب وسيطرة السفراء وافتياتهم، وهذه الفائدة لا يعرفها حق المعرفة إلا الواقف على أحوال الآستانة وأحوال بلاد الأناضول، بحيث يفرق بين طبيعة البيئتين، فمن كان يهمه هذا الأمر فليبحث عنه حتى يصيب المطلوب منه، ولعل بعض الباحثين يقول بعد التأمل أن يجب أن تكون العاصمة أبعد عن البحر من بورصة، وأشد إيغالاً في البلاد الإسلامية. (الفائدة الثانية) : الاقتصاد في المال؛ فإن حال أهل الآستانة وتقاليد البيت السلطاني وتقاليد الحكومة تقتضي نفقات عظيمة تذهب بالجزء العظيم من بيت المال ولا سبيل إلى تخفيف ذلك إلا بالانتقال إلى عاصمة أخرى. (الفائدة الثالثة) : ترك التقاليد والعادات والرسوم الضارة والاقتصاد في الأعمال؛ فإن كثيرًا من هذه التقاليد حكمت به طبيعة البيئة ومجاراة الغربيين الذين يمازجون الأتراك أشد الممازجة في هذه المدنية الأوربية، ولا يمكن التفصي منها إلا بمغادرتها إلى بيئة لم يستحوذ عليها التنوق في الترف، والتغالي في تقاليد المدنية الأوربية، وحسبنا الآن هذا التنبيه والله الموفق.